فيليب بوتي مصادقاً الغيوم: رجل على سلك

فيليب بوتي مصادقاً الغيوم: رجل على سلك


21/04/2019

في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)2001، قدّم الإرهاب رسالة كراهية مباغتة إلى برجي مركز التجارة العالمي، في مدينة نيويورك، مسدلين الستار على رسالة حب مفاجئة، قدمها لاعب الحبل العالمي "فيليب بوتي"، إلى البرجين يوم ميلادهما، ليسدل الستار على أبراج بوتي، التي قدمت له الشغف الأكبر وحيث أدى رقصته الخالدة مع الجاذبية.
بوتي أثناء سيره بين البرجين

وداع مدينة الأنوار
كانت مدينة باريس مسقط رأس "بوتي"، حيث خطا فيها أولى خطواته نحو فن السيرك، وهو لازال ابن الثامنة، ما دفع والده لطرده من المنزل عندما بلغ السادسة عشرة، متمسكاً بحلمه أن يصير لاعب سيرك، ليجد فيليب نفسه وحيداً، مرافقاً لشغفه بهذا الفن الذي يرى فيه نوعاً من التحدي للطبيعة؛ حيث مارس المشي على حباله في شوارع باريس وميادينها، وانتقل بين مدارس تعليم فنون السيرك، وتم طرده من خمس مدارس، ليقرر تعليم نفسه بنفسه.

كثيراً ما يُسأل بوتي عن شعوره بمشاهدة انهيار الأبراج ليرد: لا يمكنك المقارنة بين فقدان معمار العمارة وفقدان الأرواح البشرية

تعلم العديد من اللغات "الإسبانية، الإنجليزية، الروسية" وأتقنها، ودرس فنون الحبال وقوانينها، كما درس المعمار، وأصبح بارعاً في تقدير المشي فوق البنايات، حتى أصبح فنان حبل لا يضاهى.
وإذ يمارس فيليب شغفه اليومي بالمشي على حباله، يصاب بألم حاد في أسنانه يدفعه لعيادة الطبيب، حيث يطالع الجريدة التي أوقعته في حبه الأول، والتي أعلنت عن إقامة برجين في مدينة نيويورك، هما الأطول في العالم، حتى يقرر فيليب، دون امتلاك أدوات أو معرفة بالبلد أو بلغة أهلها، أن يكون أول وآخر من يسير بحبله بين هذين البرجين، فيخرج دون أن يعالج أسنانه، مقرراً رسم خطته في الذهاب إلى نيويورك، وفي يوم الأربعاء السابع من آب (أغسطس) لعام1974، تتوقف الجموع في شوارع مانهاتن، لمشاهدة حدث غريب في السماء، ليس سوبر مان بالتأكيد، ولكنه فيليب بوتي السائر على سلك عالٍ ممدد على ارتفاع 1300 قدم في الهواء بين البرجين التوأمين في مركز التجارة العالمي القديم.
رجل على سلك
في عام 2008 قدم المخرج الإنجليزي "جيمس مارش"، فيلماً وثائقياً استمده من تقرير للشرطة عن بوتي وهو "رجل على سلك"، والذي حصد لأجله مارش جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي لعام 2009، ففي عالم تبدو الأحلام مستحيلة، يقرر مارش، أن يستخدم اللقطات الأرشيفية والمقابلات الحيّة، لأشخاص خاضوا تجربة قد تبدو للآخرين ذروة الجنون، لكن بين مشاهد الفيلم التي حرص المخرج أن تخرج بسلاسة، تبدو الرسالة أعمق من عرض قصة حياة شخص مغامر كفيليب، يبدو أنّ هناك محركاً أكبر يتجلى بين مشاهد الفيلم التي جمع فيها المخرج حوارات مع بوتي وشركائه الأربعة، ليسرد كل شخص القصة من وجهة نظره، مبتعداً عن الرومانسية، أو الابتذال ودغدغة المشاعر، ويقدم للمشاهد شعوراً واحداً "كل شيء ممكن".

اقرأ أيضاً: جوزيف كونراد يشعّ من "قلب الظلام" ويكشف الوجه البشع للاستعمار
في بداية لقائه مع مارش لتسجيل الفيلم، يقول فيليب: "قصتي هي خرافة، شاب يبلغ من العمر 17عاماً لديه ألم في أسنانه، يذهب إلى طبيب غير مألوف، تقع عيناه على صفحة في جريدة فيها صورة لبرجين على وشك البناء سيكونان الأطول في العالم، فبدأ الحلم يغزو رأسي، وتحت غطاء العطس، مزقت الصورة، وأخذتها متناسياً ألم أسناني.
يسيطر الشغف على حديث بوتي وكتاباته، وهو ما ألمحت إليه شريكته الأولى"آني أليكسيس"، في مهمة تسلق برج التجارة العالمي، خلال حديثها في الفيلم، لوصف تجربتها مع فيليب: "تلك اللحظة هي فعلاً لحظة يتحرك فيها اللاوعي الفردي؛ لأن السائر على الحبل لو استحضر وعيه وعقله الذي يعيش به حياته الواقعية لفشل في مهمته".
فيليب بوتي والنجم جوزيف ليفيت الذي جسّد شخصيته

الوصول إلى الغيوم
أثبت بوتي أنّه ينتمي لعالم الفن، وليس مجرد لاعب سيرك، فقد أرخ تجربته بعد صعوده إلى أبراج مركز التجارة العالمي، في كتابه الأول "الوصول إلى الغيوم"، والذي قُدم للسينما فيلم "الممشي"The Walk عام  2015 للمخرج الأمريكي "روبرت زمكيس"، وقام بدور بوتي الممثل الأمريكي "جوزيف جوردون". لقد حاول زمكيس، إظهار الجانب الإنساني من بوتي، ومحاكاة تجربته الإنسانية كاملة، حيث أبرز الجانب المتمرد على القوانين، فلم يحصل بوتي على رخصة من أجل ممارسة هوايته، فسار بين أبراج كنيسة نوتردام في عام 1971، وسار بين اثنين من أبراج ميناء سيدني عام 1973، وهي تصرفات غير مسموح بها قانونياً.

اقرأ أيضاً: أدهم الشرقاوي: هل يمكن أن يتحول طالب مثقف وثري إلى لص وسفاح؟
يحكي فيليب في إحدى مقابلاته عن تجربة أبراج مركز التجارة: "في اللحظة التي خرجت فيها من مترو الأنفاق لمدينة نيويورك، وتسلقت الدرج، كنت أعرف أنّها ليست حلماً، وأيقنت أنّ حلمي دُمر على الفور، فمن المستحيل جلب طن من المعدات سراً، من الواضح أنّ ما أريده خارج المنطق البشري، ولكن شيء ما يسحبني إلى لمسه"، بعدها بدأ بوتي في استكشاف المباني وإدراك الطرق التي يمكنه من خلالها اختراق الموقع، وتنكر في عدة شخصيات من سائح إلى عامل بناء إلى مهندس معماري إلى صحفي، لقد اخترق بوتي كل القوانين التي احيطت بالبرجين، وأعطى لهما روحاً قبل أن يولدا للعالم.
بوتي أثناء تسلمه الأوسكار

الحياة على حبل مشدود
بالنسبة لفيليب، الأمر في الحقيقة بسيط للغاية، يجب أن تعيش على حافة الحياة، يجب أن تمارس التمرد، وترفض أن تسير وفقاً للقواعد، وترفض القيود على نجاحك، وترفض أن تكرر نفسك، لرؤية كل يوم، كل عام، كل فكرة، كتحدٍ حقيقي، ومن ثم ستعيش حياتك على حبل مشدود. تلك رؤية فيليب للحياة، لقد ملأ الشغف قلبه تجاه ما يقوم به، حتى استطاع أن ينتزع المستحيل من رحم الحياة، فالأمر بالنسبة للجميع كان انتحاراً لا مفر منه، إلّا أنّ الأمر يتخطى حدود الوعي البشري في مساحته الطبيعية، وعند سؤاله في أحد الحوارات الخاصة عن معنى أن نمشي فى السماء؟ وهل هذا أحد معاني الحرية والتجرد من قوانين الحياة الاجتماعية واليومية؟ يؤكد بأنّها لحظة وجودية، فقد وصفها "بوتي" في الفيلم بأنها "عالم الخرافة".

في 2008 قدم المخرج الإنجليزي جيمس مارش، فيلماً وثائقياً استمده من تقرير للشرطة عن بوتي وهو "رجل على سلك"

بعد أن حيّاه الجمهور، ولحقت به شرطة المدينة، أعاد بوتي المشي على حبله 8 مرات، متناسياً الجرح الذي أصاب قدمه، والشرطة التي تنتظر لحظة القبض عليه، متماهياً مع الطيور في السماء، كما حاول زمكيس أن يظهرها في الفيلم، لحظة كما وصفها "من عالم الخرافة"، بعدها يقرر الاستسلام للشرطة، ويتلقى حكم القضاء بصدر رحب، حيث حُكم عليه، بتأدية عروض المشي على الحبل مجاناً في حدائق نيويورك العامة، ليحصل بوتي بعدها على مسكن بمدينة نيويورك التي وقع في غرامها، ولازال مقيماً بها حتى الآن، يمارس لعب الشطرنج، وصناعة النبيذ الفرنسي، ويقيم ورشاً للتمثيل الإبداعي، ويكتب باستمرار، كما أنّه أول من حصل على جائزة مافريك أكشن وهي جائزة تمنحها جمعية نيويورك التاريخية، وقد منحته وزارة الثقافة الفرنسية لقب ""Chevalier des Arts & des Lettres فارس الفنون والآداب.
بوتي أثناء تدريباته للشباب على المشي على الحبل

بعد 11 سبتمبر
في حوار أجرته صحيفة "واشنطن بوست"، عام 2018، مع فيليب بوتي، حول نظرته تجاه أبراجه (كما أحب أن يسميها) بعد الهجمات الإرهابية، حيث ارتبط تراثه بالبرجين للأبد، بعد سبعة عشر عاماً من الهجوم الإرهابي الذي أدى إلى تدمير الأبراج، تحدث بوتي عن تحركاته المتهورة فيما يتعلق بالحدث الأهم في حياته: "بعد كل هذه السنوات والشهور من دراستهم ومسيرتي غير القانونية، بالطبع كانوا (أبراجي)". وفي 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كان الفنان يجلس في شقته بنيويورك، غير مدرك لما كان يحدث لأنه لم يكن لديه تلفزيون، عندما دعاه صديق ليقول "فيليب، يتم تدمير أبراجك!"

اقرأ أيضاً: موريس أودان: الفرنسي الذي دفع حياته حبّاً للجزائر
يضيف بوتي أنه كثيراً ما يُسأل عن شعوره بمشاهدة انهيار الأبراج ليرد: "كيف يمكنني الإجابة عن سؤال كهذا عندما يخلف الحادث آلاف القتلى؟ لا يمكنك المقارنة بين فقدان معمار العمارة وفقدان الأرواح البشرية".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية