رغم مرور 103 أعوام على وعد بلفور، الذي تأسّست بموجبه "دولة إسرائيل" على أرض فلسطين التاريخيّة، وتسبّب بتشريد غالبية الفلسطينيين خارج وطنهم، وعدم تمكّنهم من تأسيس دولة لهم حتى يومنا هذا، إلا أنهم ما يزالون متمسكين بحقوقهم، ويريدون محاسبة المتسببين بتشريدهم وضياع حقوقهم.
ورفع رجال أعمال وحقوقيون فلسطينيون دعوى قضائية ضدّ بريطانيا، لتحميلها المسؤولية القانونية بسبب وعد بلفور، الذي منحت بمقتضاه وطناً قومياً لليهود على أرض فلسطين، وأنكرت حقّ الشعب الفلسطيني، بعد أن رأت أنّ "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وطالب مقدمو الدعوى المملكة المتحدة بالاعتذار للشعب الفلسطيني بسبب هذا الوعد، والطعن به والمطالبة بإبطاله وإبطال كلّ ما نتج عنه، ومحاكمة كلّ من انتهك حقوق الشعب الفلسطيني وساهم في تشريده.
وتعد هذه الدعوى من مخرجات مؤتمر الإستراتيجية الوطنية لمواجهة "صفقة القرن" وسياسات الاحتلال، الذي نظّمه التجمّع الوطني للمستقلين، ووزارة العدل الفلسطينية، وجامعة القدس.
وفي 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عقدت محكمة البداية بمدينة نابلس (شمال) أولى جلساتها، حول جرائم جنود بريطانيا في فلسطين إبان احتلالها للبلاد، بين عامَي 1917 و1948، وإصدارها "وعد بلفور"، وما نشأ عنه، وكان ذلك بحضور فريق دفاع يحمل ما يكفي من الأوراق التاريخية المدعومة بشهادات الأحياء، التي تمّ عرضها في جلسة المحاكمة.
اليهود أقاموا دولتهم على أرض حصلوا عليها بموجب قرار صادر عن وزير خارجية بريطانيا، الذي منح أرضاً لا يملكها إلى من لا يستحقها
وفي 6 كانون الأول (ديسمبر) الجاري؛ عقدت المحكمة ثاني جلساتها، واستمع قاضي المحكمة لشهود فلسطينيين هُجّروا من بلداتهم، عام 1948، بفعل الاحتلال الإسرائيلي، والمعاناة التي عاشوها، والجرائم التي ارتكبت في تلك الفترة، والأضرار التي لحقت بهم نتيجة وعد بلفور.
وعد بلفور؛ هو الاسم الشائع الذي يطلق على الرسالة التي بعثها وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، إلى اللورد (اليهودي) ليونيل وولتر دي روتشيلد، أشار فيها إلى أنّ حكومته ستبذل غاية جهدها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
اقرأ أيضاً: كيف سهّل العثمانيون توطين اليهود بفلسطين قبل وعد بلفور؟
وعندما حصل اليهود على وطن لهم كان لا يتجاوز عددهم على أرض فلسطين 7٪ من مجموع السكان الأصليين آنذاك، وكان عددهم قرابة 500 ألف، من أصل (12 مليوناً) منتشرين في مختلف دول العالم، بينما كان يبلغ عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت (650 ألفاً) من المواطنين، وشطب الوعد البريطاني حقوق الأغلبية المتجذرة في الأرض، مقابل أقلية قدمت من الخارج من خلال الهجرة غير الشرعية.
معركة قانونية
وفي هذا السياق، يقول رجل الأعمال الفلسطيني ورئيس التجمع الوطني للمستقلين، منيب المصري، لـ "حفريات" : "بريطانيا أخطأت بحقّنا عندما أصدرت وعد بلفور قبل 103 أعوام، والذي مكّن اليهود من إقامة دولة لهم في وطننا، وأعطتهم الحقّ بالسيطرة على الأرض، وكأنّ فلسطين ملك لها، وما تزال مصرّة على عدم الاعتذار عن هذا الوعد؛ لذلك قررنا خوض معركة قانونية لانتزاع حقوقنا".
يضيف: "الخطوة الأولى في الدعوى القضائية؛ هي المطالبة بحقوق الأشخاص الذين تضرروا واستشهدوا بسبب هذا القرار الظالم، وستبقى الدعوى قائمة حتى نربحها بالمحاكم البريطانية والأمريكية والأوروبية والأفريقية، وسوف نستخدم كافة الإمكانيات المتاحة لدينا لاسترداد حقوقنا التي سلبت منا بالقوة بموجب وعد بلفور".
وفي اعتقاد المصري، فإنّ "وعد بلفور هو تمييز عنصري، وبريطانيا منحت بموجبه اليهود جزءاً كبيراً من أرض فلسطين التاريخية، وأقاموا "دولة إسرائيل" على حساب الشعب الفلسطيني، وتسبّبت بتلك المأساة التي يعاني منها كافة الفلسطينيين إلى يومنا هذا، لذلك عليها أن تعتذر لنا على هذا الفعل الذي قامت".
رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري لـ"حفريات": ستبقى الدعوى قائمة حتى نربحها بالمحاكم البريطانية والأمريكية والأوروبية والأفريقية، وسوف نستخدم كافة الإمكانيات المتاحة لاسترداد حقوقنا
وهل تكون الدعوى القضائية بديلة عن النضال السياسيّ الفلسطينيّ؟ يلفت المصري إلى أنّ تلك الدعوى لن تكون بديلة عن النضال السياسيّ الفلسطينيّ، لكنّها ستفتح الطريق أمام محاسبة البريطانيّين، والإسرائيليين، على ما ارتكبوه بحقّ الشعب الفلسطيني طوال السنوات الماضية.
وينوّه إلى أنّ "قانون القومية الإسرائيلي" هو استكمال لوعد بلفور، وأنّ الهدف منه إفراغ أراضي عام (1948)، من كافة الفلسطينيين، لافتاً إلى أنّ "وعد بلفور لم يتعامل مع الفلسطينيين كشعب، وسلب منهم وطنهم وتاريخهم".
اقرأ أيضاً: السياسة تقتحم المونديال: الكروات يهزمون وعد بلفور
وفي سياق متصل؛ يبيّن المحامي الفلسطيني، ورئيس الفريق القانوني للدعوى المرفوعة، نائل الحوح؛ أنّ "رفع الدعوى ضدّ بريطانيا جاء بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الاعتداءات ضدّ الفلسطينيين ومخططات التهويد، وضمّ الضفة الغربية، وصفقة القرن، وسعي نتنياهو لطرد العرب من أراضي عام 1948، ومرور 103 أعوام على الوعد، دون أن يحصل الفلسطينيون على شيء من حقوقهم التي سلبت منهم بالقوة".
إنعاش الذاكرة الفلسطينيّة القديمة
الحوح أبلغ "حفريات" بأنّهم يسعون من خلال رفع تلك الدعوى إلى إنعاش الذاكرة الفلسطينية القديمة، ونشر ثقافة وعد بلفور بين جيل الشباب الفلسطيني الجديد، وتعريفهم بعواقب هذا الوعد وما نتج عنه، خاصّة بعد اعتراف العالم بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، كدولة غير عضو، عام 2011.
ويلفت إلى أنّه "تمّ تدريب ما يزيد عن 250 طالباً من كليات الحقوق المختلفة في فلسطين على يد سياسيين ومختصين بالقانون الدولي، ليكونوا على دراية كاملة بالسرد التاريخي لهذا الوعد وكافة أبعاده"، مؤكداً أنّ "تلك الدعوى تحمل الطابع السياسي".
وبسؤاله عن سبب رفع الدعوى على بريطانيا بدلاً من رفعها على الاحتلال الإسرائيليّ؛ أبلغ "حفريات" بأنّ "الاحتلال بدأ بحماية من بريطانيا، وهي تعدّ المدرسة الأولى للحركة الصهيونية، لذلك كان من الأجدى أن تكون المعركة القانونية الأولى ضدّ من تسبّب في هذا الاحتلال، ومواجهته محلياً ودولياً".
إخفاقات سياسيّة ونضاليّة
ويؤكد الحوح أنّ "الوضع النضاليّ الفلسطينيّ له عدة أشكال، لكن، للأسف، هناك إخفاقات سياسية ونضالية في مختلف النشاطات على مدار السنوات الماضية، لذلك لم تشهد القضية الفلسطينية أيّ تقدم؛ بل تراجعت إلى الوراء كثيراً؛ لذلك كان من الضروري التوجه نحو النضال القانوني لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ورفع دعوى قضائية لنيل الحقوق".
اقرأ أيضاً: ملصقات على سيارات أجرة تطوف لندن مندّدة بوعد بلفور
ويوضح المحامي الفلسطينيّ؛ أنّ جوهر الدعوى القضائية هو توثيق للجرائم التي ارتكبتها بريطانيا بحقّ الشعب الفلسطيني فترة الانتداب البريطاني، من خلال شهود عيان عاشوا تلك الفترة، وإقرار بريطانيا بالخطأ التاريخي الذي ارتكبته عندما سمحت لليهود بإقامة وطن لهم على أرض فلسطين.
وبحسب الحوح؛ فإنّه "تمّ العثور على مسنّ فلسطيني تجاوز عمره 103 أعوام كان شاهداً على وعد بلفور، والجرائم التي ارتكبتها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني، وشهود آخرين وثقوا حادثة التهجير، عام 1948، تحت إشراف القوات البريطانية"، موضحاً أن تلك الشهادات ستكون بينة أمام القضاء البريطاني، والأوروبي لإثبات الحالة.
تجاوز القوانين
اليهود أقاموا دولتهم على أرض حصلوا عليها بموجب قرار صادر عن وزير خارجية بريطانيا، وهو منح أرض لا يملكها إلى من لا يستحقها، وهذا يعدّ تجاوز لكافة القوانين الدولية، لذا يبين المحامي الفلسطيني أنّ "من يمنح طرفاً آخر أيّ شيء، يجب أن يكون هذا الشيء ملكاً له، وليس لغيره، في حال كان ذلك بوجود انتداب أو احتلال يمكن للانتداب أن ينتفع بموارد الدولة التي يوجد بها، ولكن عند انتهاء انتدابه يعيد ما حصل عليه، ولا يمكنه التصرف به على الإطلاق".