فكرة "ترانسفير" أو ترحيل الفلسطينيين بدأت مع آباء الصهيونية السياسية

فكرة "ترانسفير" أو ترحيل الفلسطينيين بدأت مع آباء الصهيونية السياسية

فكرة "ترانسفير" أو ترحيل الفلسطينيين بدأت مع آباء الصهيونية السياسية


12/11/2023

سوسن مهنا

في الـ18 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حذر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى سيناء، مشيراً إلى أن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر سيتبعه تهجيرهم أيضاً من الضفة الغربية إلى الأردن، وشدد على أن بلاده ترفض "تصفية" القضية الفلسطينية لأنه أمر "في غاية الخطورة". وقال السيسي إن "ما يحدث في غزة الآن ليس عملاً ضد حماس، وإنما محاولة لدفع المدنيين إلى اللجوء والهجرة إلى مصر"، مضيفاً أنه "إذا كانت هناك فكرة للتهجير، فلم لا ينقل الفلسطينيون إلى النقب".

بالتزامن كشفت صحيفة "الشرق الأوسط" عن مخطط لاستغلال حرب مقبلة لطرد مئات آلاف الفلسطينيين، بعدما طرح أحد قادة حزب "الليكود" الحاكم في إسرائيل أمير فايتمان، وهو رئيس جناح "الليبراليين" في الحزب، مشروعاً يقضي باستغلال الحرب الحالية لطرد سكان غزة، ليس إلى مدينة خيام في سيناء، بل إلى قلب مصر، القاهرة وغيرها من المدن.

وحذر حكومة بنيامين نتنياهو من تفويت هذه الفرصة، "كما أضاعتها القيادات الإسرائيلية الغبية بعد حرب 1967"، وكان فايتمان أعد المشروع مع رجل الاقتصاد الإيطالي مرسيلو دي مونتيه، وصدر عن معهد "مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيوني" برئاسة مئير بن شبات، رئيس مجلس الأمن القومي في حكومة نتنياهو.

 وفي تقرير لشبكة "بي بي سي" البريطانية نشر في الـ30 من أكتوبر الماضي، نقلاً عن وثائق سرية بريطانية، اطلع عليها معد التقرير، تقول إن إسرائيل وضعت خطة سرية قبل 52 عاماً لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى شمال سيناء، وأتى ذلك بعد احتلال الجيش الإسرائيلي غزة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية في حرب يونيو (حزيران) 1967، حين أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني لإسرائيل، وباتت مخيمات اللاجئين المكتظة بؤراً لمقاومة الاحتلال، فانطلقت منها عمليات ضد القوات المحتلة والمتعاونين معها، وفقاً للتقرير.

فكرة ترحيل الفلسطينيين أو "ترانسفير" منذ الآباء الأوائل للصهيونية

وتقول دراسة صدرت عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" صيف عام 1991 بعنوان "التصور الصهيوني لـ’الترحيل‘: نظرة تاريخية عامة" للأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني-البريطاني نور مصالحة، "يسود أوساط الليكود واليمين المتطرف ميل إلى المجاهرة بطلب ’ترحيل‘ العرب عن الأراضي المحتلة التي صممت هذه الأوساط على استيطانها وضمها إلى إسرائيل. ويذهب بعض ساسة الليكود، مثل النواب والوزراء مئير كوهين وميخائيل ديكل وأريئيل شارون إلى التأسف الشديد على ازدواجية حزب العمل وريائه، ويرثون لما ارتكب في حرب 1976 من خطأ عدم إجلاء الفلسطينيين عن الأراضي المحتلة على نحو ما طُرد سكان اللد والرملة على أيدي بن غوريون (دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل)، ويتسحاق رابين (سياسي إسرائيلي وجنرال عسكري سابق في الجيش الإسرائيلي ورئيس وزراء)، ويغآل آلون (لواء في جيش الدفاع الإسرائيلي ورئيس وزراء إسرائيل بالنيابة) في يونيو 1948. فبرأي هؤلاء الساسة أن حزب العمل لو كان تصرف على نحو يتسق وسياسة بن غوريون في 1948، لأمكن تحاشي ’المشكلة السكانية‘ المتمثلة في الوجود العربي".

 ووفقاً لتقرير "بي بي سي" الآنف الذكر، أنه بحسب تقديرات البريطانيين، عندما احتلت إسرائيل غزة، كان في القطاع 200 ألف لاجئ من مناطق فلسطين الأخرى، ترعاهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" و150 ألفاً آخرين هم سكان القطاع الأصليون الفلسطينيون. ووفقاً للمؤرخ مصالحة، فإن المقترحات التي طرحت في شأن "الحل بالترحيل"، أطلقت سجالاً واسعاً في أوساط الرأي العام الإسرائيلي مع تنامي النضال الفلسطيني من أجل وضع حد للاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني القائم على حل الدولتين. وتشير الدراسة إلى أن فكرة "نقل" (ترانسفير) السكان الفلسطينيين، ووفقاً لرحبعام زئيفي، (جنرال الاحتياط الذي كان على رأس حزب يحتل مقعدين في الكنيست وقت نشر الدراسة)، تنص بصورة حصرية على خطة لـ"ترحيل" الفلسطينيين ترحيلاً جماعياً إلى خارج الأراضي المحتلة، وهذا المفهوم راسخ في الصهيونية إلى حد أن الأمل في تلاشيه ضئيل، فالفكرة متأصلة في النظرة الصهيونية إلى أن "أرض إسرائيل حق وراثي لليهود" وأنها ملك لليهود حصراً (لا للعرب الفلسطينيين)، وهي فكرة يتبناها معظم يهود إسرائيل وتقود طبعاً إلى الاستنتاج أن العرب "غرباء" وأن عليهم أن يقروا بيهودية أرض إسرائيل/ فلسطين وبالسيادة اليهودية الحصرية عليها، أو أن يرحلوا.

 وتتابع الدراسة أن مطلب "الترحيل" هذا يرقى إلى بداية عهد المستوطنات الصهيونية في فلسطين ونشوء الصهيونية السياسية. فمنذ أيام تيودور هرتزل (الأب الروحي للدولة اليهودية)، ما زالت الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيطانها جارية، وتحويل أراضيها من أيدي العرب إلى أيدي اليهود حصراً وإعادة تشكيل البلد وتجريده من صفاته العربية، مع ما ترتب على ذلك من إقامة دولة صهيونية/ يهودية في نهاية المطاف، إضافة إلى أن هذه الأفكار والأعمال كلها متضافرة مع فكرة "الترحيل" في تفكير القيادة الصهيونية وممارستها.

إن فكرة إقامة أكثرية يهودية في إسرائيل (فلسطين والأراضي المجاورة لها) هي فكرة متحدة بفكرة إنشاء دولة يهودية متجانسة، وعملت القيادة الصهيونية على ترويج مذهبها في أن "الحقوق الوطنية في فلسطين تعود حصراً للشعب اليهودي ككل"، وبدأت تفكر في الحلول لما اعتبرته "المشكلة السكانية العربية"، من وجهة نظرها، فقد كان الإطار الفكري الذي يقوم عليه مبدأ نقل وترحيل السكان العرب الفلسطينيين المحليين مترابطاً ترابطاً وثيقاً بأيديولوجيا تعصب ثقافي تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والعرقي الديني لفلسطين، أي لبلد يسكنه بصورة غالبة شعب آخر حتى عام 1948، وتحويله إلى دولة يهودية ذات ديانة واحدة.

وروّج يسرائيل زانغويل، الكاتب الأنغلو- يهودي البارز والمتحمس لفكرة الترحيل، للشعار القائل إن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وعن هذا كتب الرحالة اللورد ليندسي في كتابه المنشور بعنوان "رسائل عن مصر وإيدوم والأرض المقدسة" عام 1838، أن "عقم واضمحلال أرض فلسطين لم يكن بسبب لعنة أصابت الأرض، ولكن ببساطة بسبب ’عدم وجود سكانها القدامى‘". وكان ليندسي يؤمن بأن "إرادة الله هي التي شاءت ألا يكون السكان الحاليون كثيري العدد على الإطلاق" حتى لا يعوقوا عودة "الورثة الشرعيين".

 وقال الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش إن ليندسي كان يؤمن بأن "الأرض التي كانت خصبة من قبل تنتظر عودة أولادها المنفيين فقط، وتطبيق الصناعة التي تناسب قدراتها الزراعية حتى تنطلق مرة أخرى لتكون في حال رخاء وترف تام، وتعود كما كانت أيام النبي سليمان"، وكذلك وردت إشارة إلى فكرة "البلد الخالي" عينها على لسان حاييم وايزمن الذي صار رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي لاحقاً في خطاب ألقاه عام 1914.

ووفقاً للمؤرخ الفلسطيني-البريطاني نور مصالحة فإن "الأعمق دلالة من ذلك كله هي طرفة قالها وايزمن لرئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية آرثر روبين عن الطريقة التي حصل (وايزمن) عبرها على الوعد من بلفور عام 1917. فلما سأل روبين وايزمن عما لديه من أفكار بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين، أجابه هذا الأخير ’أخبرنا البريطانيون أن ثمة بضع مئات الألوف من الزنوج، وليس لهؤلاء أية قيمة‘". ويقول مصالحة في كتابه الذي يحمل عنوان "أربعة آلاف عام في التاريخ"، إن كلمة زنجي (Nigger)  في اللغة الإنجليزية هي "شتيمة عنصرية بيضاء موجهة مباشرة إلى السود والأفارقة. وتردد مضامينها التحقيرية صدى كلمة ازدراء إنجليزية أخرى، هي فِلِستين التي استعارها البيض البريطانيون من المزاعم التوراتية وعمموها في الأحاديث اليومية".

وتأكيداً على أن بذور فكرة "الترحيل" نبتت منذ أوائل أيام الصهيونية، لا سيما في ما يتعلق بالدافع إلى الاستيلاء على أراضي العرب، يقول مؤسس الفكر السياسي الصهيوني هرتزل في معرض تأمله الانتقال من حال "جمعية اليهود"، وهو الاسم الذي كان يطلقه على التنظيم السياسي الذي كان يعتبره الممثل المستقبلي للحركة الصهيونية، إلى "حال الدولة"، في يومياته في الـ12 من يونيو 1895، "ينبغي لنا أن نترفق في استملاك الأملاك الخاصة في الأراضي المعينة لنا. سنسعى إلى تشجيع السكان المعدمين على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في البلاد التي يمرون بها، مع الامتناع التام عن تشغيلهم في بلدنا... يجب أن تتم عمليتي الاستملاك وإبعاد الفقراء بأقصى درجات التأني والاحتراس".

 ووفقاً لبعض المراجع طرح هرتزل صفقة مالية على السلطان العثماني عبدالحميد، معلناً أن "فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه… لو يعطينا السلطان فلسطين، نأخذ على عاتقنا إدارة مالية تركيا كاملة مقابل ذلك". ولم يكن اقتراح هرتزل يتيماً، بل شكل نموذجاً لمقترحات صهيونية مستقبلية، تقدم بها غيره من "الآباء البناة". وكثيراً ما صيغت تلك الأفكار في تلك المرحلة بعبارات ملطفة مخففة مثل "هجرة العرب الجماعية إلى بلاد العرب"، أو الهجرة السلمية التي سيحفزها الاستملاك الصهيوني للأراضي، وغير ذلك من الحوافز الاقتصادية. لكن كانت ثمة دعوات صريحة أيضاً إلى طرد العرب الفلسطينيين أطلقتها مجموعة من كبار الصهيونيين أمثال زانغويل الذي كان من أوائل أعوان هرتزل وأشدهم غيرة على تنظيم الحركة الصهيونية في بريطانيا.  وزار فلسطين عام 1897 وعاين الواقع السكاني لفلسطين العربية. وبعد سبعة أعوام، أعلن في خطاب ألقاه في مانشستر في إنجلترا موقفه من خيار الترحيل، متحدثاً عن "الكثافة السكانية في ولاية القدس التي تبلغ ضعفي نظيرتها في الولايات المتحدة، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها 52 في الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد، لذلك لا بد من أن نعد أنفسنا لإخراج القبائل (العربية) المتملكة بقوة السيف كما فعل آباؤنا، أو أن نكابد مشقة وجود سكان أجانب كثر، معظمهم من المحمديين الذين اعتادوا احتقارنا منذ أجيال".
يذكر أنه بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد عام 1897 في مدينة بازل السويسرية، قرر حاخام العاصمة النمسوية فيينا أن يستقصي أفكار هرتزل التي تكلم عنها في كتابه "دولة اليهود"، فأرسل مندوبين عنه إلى فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ"تقصي الحقائق"، ووجه هذان المندوبان برقية من فلسطين يقولان فيها "العروس، أي فلسطين، جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر". وعن هذه البرقية قال المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه "الجدار الحديدي- إسرائيل والعالم العربي" إنها تضمنت "المشكلة" التي ستتعارك معها الحركة الصهيونية منذ البدء (وحتى إشعار آخر). هذه المشكلة هي بطبيعة الحال "السكان العرب الذين يعيشون على الأرض التي أرادها اليهود" لإنشاء دولتهم، والتي اصطلح على تسميتها "المشكلة العربية".

يشار إلى أن طرح الأفكار حول حق اليهود كأمة في "أرض إسرائيل" جاء على لسان عدد من آباء مؤسسي الصهيونية، قبل ظهور التيار الصهيوني السياسي الذي نادى به هرتزل، منهم موزس هس (يهودي ألماني من مؤسسي الصهيونية العمالية) الذي كان من أوائل من طرحوا إعادة انبعاث الأمة اليهودية، وقال "ولكي نبعث الأمة اليهودية إلى الحياة ثانية يجب علينا أن نبقي فكرة البعث السياسي لأمتنا حية أولاً، وأن نوقظ هذا الأمل إذ بدأ يغط في سبات عميق ثانية. وعندما تتهيأ الظروف السياسية في الشرق لدرجة تسمح بتنظيم عودة الدول اليهودية للحياة ستكون هذه العودة بتأسيس مستعمرات في أرض أجدادنا".

"إرهاب إسرائيل المقدس"

تكشف مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق موشي شاريت عن أن قادة إسرائيل عام 1955 ثبت لهم أن "احتلال غزة لن يحل أي مشكلة أمنية" وأن إسرائيل قامت على مبدأ القوة التي تضمن لها درجة من التوتر من خلال افتعال حرب مع أي طرف عربي. وتقول الكاتبة الإسرائيلية ليفيا روكاش في دراستها لمذكرات شاريت الذي كان أيضاً أول وزير خارجية إسرائيلي، إن "الخطر العربي أسطورة اخترعتها إسرائيل لأسباب داخلية، ولم تستطِع النظم العربية إنكارها تماماً على رغم أنها كانت على الدوام في خوف من استعدادات إسرائيل لحرب جديدة"، مضيفة وفقاً لوكالة "رويترز" أن احتلال غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية كان على "أجندة" القادة في إسرائيل التي تستمد قدرتها على البقاء من "خلق الأخطار" و"اختراع" الحروب على حد تعبير شاريت. وتقول روكاش في كتابها "إرهاب إسرائيل المقدس... من مذكرات موشي شاريت" إن أمن إسرائيل يبقى ذريعة رسمية لها وللولايات المتحدة لإنكار "حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في وطنه... وتم قبول تلك الذريعة كتفسير شرعي لانتهاك إسرائيل للقرارات الدولية التي تدعو إلى عودة الشعب الفلسطيني لوطنه" وأن مَن تصفهم بـ"القتلة الإسرائيليين" يمارسون "منهج طرد وإبادة" ولا يترددون في التضحية بأرواح يهودية لضمان وجود درجة من الاستفزاز تبرر العمليات الانتقامية التالية.

 وتعرضت عائلة شاريت "لضغوط هائلة"، وفقاً للكاتبة الإسرائيلية، لمنع نشر يومياته، إذ كان بين "الزعيمين الصهيونيين" شاريت وبن غوريون صراع أدى إلى "طرد" الأول من الحكومة عام 1956 نظراً إلى معارضته "أعمال التحرش المستمرة" من جانب إسرائيل بجيرانها لدفعهم إلى مواجهة عسكرية كان قادة إسرائيل "على يقين بأنهم سينتصرون فيها... واعتبر (شاريت) تصفية وجوده المعارض مسألة ضرورية من أجل تحقيق مخطط الزعامة الإسرائيلية السياسية والعسكرية الإجرامية والمصابة بجنون العظمة". ويقول شاريت إنه في أكتوبر عام 1953 كان لدى قادة إسرائيل استعداد لاحتلال سيناء، لكنهم أُصيبوا بخيبة أمل لأن المصريين لم يسهلوا مهمة الاحتلال "من خلال تحد مستفز"، وإنهم حين يرتكبون "مجزرة بشعة" يسعون إلى اختراع عملية مثيرة تالية لصرف انتباه العالم عن العملية الأولى.

فترة الانتداب

يرى الأكاديمي نور مصالحة أن الحل لمشكلات الفلسطينيين السكانية والوطنية كان يلتمس خارج فلسطين وضمن الإطار الأوسع للبلاد العربية، وسعت القيادة الصهيونية، منذ وعد بلفور والاحتلال البريطاني فصاعداً، إلى الالتفاف على التناقض بين مصالح الييشوف الصهيوني (هيئة السكان اليهود في فلسطين)، ومطالب سكان البلد الأصليين الذين كانت طموحاتهم الوطنية قوية أيضاً. واعتمد القادة الصهيونيون سياسة تستند إلى الصلة بالبريطانيين، فأجروا محادثات مع المسؤولين البريطانيين من أجل التوصل إلى حل لـ "مشكلة السكان العرب" في فلسطين عن طريق نقلهم إلى البلاد العربية. كما أن الموقف القائل بوجوب إخراج الفلسطينيين من الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها واستيعابهم في العالم العربي كان من أسس خطط الترحيل الصهيونية في الثلاثينيات والأربعينيات. ومنذ أواخر العشرينيات وأواسط الثلاثينيات خصوصاً، راحت أحزاب العمل السائدة تعيد تقويم تحليلها لـ"مشكلة السكان العرب" بعد تنامي المقاومة الفلسطينية للهجرة اليهودية والاستيطان الصهيوني، وبلغت هذه المقاومة ذروتها في انتفاضة 1936-1939 ذات القاعدة الفلاحية. وكان تعزيز الجهاز العسكري التابع للييشوف، الـ"هاغاناه"، في فترة الانتداب يتضافر مع اقتناع القيادة المتنامي بأن الحل الصهيوني الجذري لـ"مشكلة السكان لعرب"، لا يمكن التوصل إليه إلا من موقع القوة العسكرية، ومن خلال إقامة الأمر الواقع الاقتصادي والعسكري والاستيطاني في فلسطين العربية. لذلك، كان يجب التماس الحل لـ"مشكلة العرب" لا بالتفاهم مع السكان الأصليين بل بالنصر العسكري الذي سيجعل الترحيل أمراً واقعاً.

خطة وايزمان للترحيل 1930

عام 1930 خطا حاييم وايزمان خطوة أبعد في المسعى الصهيوني لإيجاد "حل جذري" لمشكلتي "الأرض" و"السكان العرب" بأن تقدم بخطة لترحيل العرب أثناء محادثات خاصة بينه وبعض الوزراء والمسؤولين البريطانيين، واقترحت خطة وايزمان التي عرضت على وزارة المستعمرات أن يمنح قرض قدره مليون ليرة فلسطينية يُجمع من أصحاب رؤوس الأموال اليهود من أجل توطين جماعات الفلاحين الفلسطينيين في إمارة عبدالله في شرق الأردن. لكن المشروع سرعان ما رفضه اللورد باسفيلد وزير المستعمرات البريطاني الذي بات يدرك إدراكاً حاداً مدى المعارضة الوطنية الفلسطينية للصهيونية، ثم رفضته الحكومة البريطانية برئاسة رمزي ماكدونالد.

خطط الترحيل التي قدمها الييشوف عام 1936 وما بعدها

يرى مصالحة أن هناك أدلة قوية تشير إلى أن مقترحات ترحيل العرب التي تقدمت بها اللجنة الملكية البريطانية مستمدة سراً من كبار زعماء الوكالة اليهودية، ومنهم بن غوريون وشرتوك ووايزمان، إذ إن فكرة الترحيل كانت تشغل بال زعماء الوكالة اليهودية طوال فترة مداولات اللجنة الملكية. وكانت الفكرة باتت عند بعضهم مثل موشيه شرتوك وبن غوريون ووايزمان وثيقة الصلة بفكرة التقسيم. وعلق بن غوريون أهمية حاسمة على فكرة الترحيل القسري، فكتب في يومياته بتاريخ 12 يوليو (تموز) 1937 أن "ترحيل العرب قسراً من أودية الدولة اليهودية المقترحة قد يمنحنا شيئاً لم يكن لدينا قط: جليلاً خالياً من السكان العرب"، مضيفاً أنه "يجب أن نعد أنفسنا لتنفيذ الترحيل"، وكان بن غوريون مقتنعاً أيضاً بأن قلة من العرب الفلسطينيين مستعدة للانتقال "طوعاً" إلى شرق الأردن، إن وجِد أحد أصلاً، ومع ذلك كان لا بد من وضع البنود "القسرية" موضع التنفيذ في المستقبل. ففي رسالة مهمة إلى ابنه عاموس الذي كان في الخامس من أكتوبر 1937 في الـ16 من عمره، كتب "لا بد من أن نطرد العرب ونستولي على أماكنهم... وأن نستعمل القوة إذا اضطررنا إلى ذلك، لا لتجريد عرب النقب وشرق الأردن من ممتلكاتهم بل لضمان حقنا في الاستيطان في هذه الأماكن، وذلك عندما تتوافر لدينا القوة".

حرب 1948

وخلال حرب 1948 كانت سياسة "الهاغاناه" والجيش الإسرائيلي في الترحيل/ الطرد تصدر عن اقتناع وتصميم لا عن برنامج مكتوب، واستمدت هذه السياسة من خطط الترحيل في الثلاثينيات والأربعينيات، وكذلك من بعض المسلمات والأصول الصهيونية المستبطنة والهادفة إلى إنشاء دولة يهودية حصرية متجانسة. وتأثرت هذه السياسة بعوامل سياسية وعسكرية، فضلاً عن اعتبارات براغماتية منها الأوضاع الدبلوماسية العالمية، إلا أن مذهب الترحيل لم يكن يطبق على نحو شامل في 1948، وكذلك أخفقت سياسة الترحيل في تخليص إسرائيل من الأقلية العربية الصغيرة التي بقيت (لا سيما في الجليل وفي المثلث الصغير لاحقاً). واستطاعت القيادة الإسرائيلية البراغماتية التخلص من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني وإخراجهم من الدولة اليهودية الحديثة الإنشاء (ومن الواضح أنه لو أُتيح لهؤلاء العرب المكوث حيث هم لكانوا شكلوا أكثرية السكان في هذه الدولة).

وتنص إحدى توصيات لجنة الترحيل الثالثة، المقدمة إلى رئيس الحكومة بن غوريون في الـ26 من أكتوبر 1948 على أنه يجب ألا يتجاوز عدد العرب 15 في المئة من سكان المدن المختلطة مثل مدينة حيفا، كذلك لم يعد وجود أقلية عربية صغيرة (130 ألف نسمة عام 1949) داخل الحدود الموسعة للدولة اليهودية، يشكل في نظر زعامة حزب العمل البراغماتية أي خطر على المشروع الصهيوني برمته.

بعد نشوء دولة إسرائيل

في أوائل الخمسينيات كان على حزب "ماباي"، بصفته القوة السياسية الحاكمة والمسيطرة في إسرائيل، أن يستوعب واقع العرب الساكنين في الدولة اليهودية، وتداول الحزب الخيارات المطروحة للتعامل مع الأقلية العربية، وكان ثمة تياران أساسيان، التيار الأول كان يسعى إلى التخلص من العرب بطريقة أو بأخرى وكان ثاني رئيس للدولة يتسحاق بن تسفي ويوسف فايتس من الصندوق القومي اليهودي يمثلان هذا التوجه. كان هذان الزعيمان، منذ النصف الثاني من الثلاثينيات من أشد دعاة الترحيل وكانا يؤيدان هذا الاحتمال وكان كلاهما يعتقد، مع ذلك، بأن الطرد الجماعي غير واقعي في زمن السلم، وأنه لا بد من أن تسعى الحكومة إلى الحصول على "ولاء" العرب للدولة، لكن إذا ما "اكتُشف بعض العرب غير الموالين، فمن شأن ذلك أن يتيح لنا التعامل معهم على نحو مختلف، وطردهم"، وكان رئيس الدائرة العربية في الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية) ر. بركات يعبر عن آراء مماثلة.

أما التيار الثاني، فأدرك أن العرب الذين مكثوا في إسرائيل كانوا ينوون البقاء، لذلك رأى أصحاب هذا الرأي أنه لا بد، في المدى القصير، من تغليب الجانب "الأمني" على أي اعتبار آخر في التعامل مع هذه الأقلية، وخلال فترة أوائل الخمسينيات عمل رئيس الوزراء بن غوريون ووزير الخارجية موشيه شرتوك ويوسف فايتس من الصندوق القومي اليهودي على مناقشة وإقرار مشروع "ترحيل العرب المسيحيين من الجليل إلى أميركا الجنوبية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1951 أرسل فايتس إلى الأرجنتين من أجل مشروع الترحيل هذا. والظاهر أن هذا المشروع أخفق لأن فايتس لم ينجح في إقناع الفلسطينيين المسيحيين بالهجرة إلى الأرجنتين، وتحاشت السلطات الإسرائيلية استعمال التدابير القهرية السافرة ضد مواطنين إسرائيليين.

وفي أواسط الخمسينيات وضعت السلطات الإسرائيلية خطة ترحيل تهدف إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا، ونوقشت الخطة في اجتماعات غير رسمية للجنة رفيعة المستوى ويبدو أن لجنة "الترحيل" الرابعة هذه توصلت إلى ترحيل بضع مئات من الفلسطينيين عن إسرائيل إلى ليبيا، لا سيما من بعض القبائل الفقيرة التي رشت السلطات شيوخها، وحُلت هذه اللجنة بعد أزمة قناة السويس.

بعد حرب 1967

 أسهم انتصار إسرائيل في حرب 1967 واحتلالها ما تبقى من فلسطين في انتعاش فكرة الترحيل، وبعد نصر عام 1967 لم يعُد تصور "إيرتز يسرائيل" (أرض إسرائيل) ككل وقفاً على معسكر حيروت (الليكود لاحقاً) التصحيحي فحسب، بل بات يعم ويتنامى حتى شمل الأحزاب الصهيونية الرئيسة كلها بما فيها حزب العمل المعروف بنزعته البراغماتية. ووجد التيار التوسعي تعبيراً عن ذاته في حركة أرض إسرائيل الكاملة التي أسست بسرعة بعد الحرب وهدفت إلى الاستيطان في الأراضي "المحررة" كلها واخترق هذا التوجه إلى الضم جميع خطوط الأحزاب الإسرائيلية.

 ويشير مصالحة إلى أنه "لا شك في أن كثيراً من دعاة أرض إسرائيل الكاملة يودون طرد الفلسطينيين، أو في الأقل طرد أهل الضفة الغربية وقطاع غزة"، وفي مقالة بعنوان "سياسة حكمائنا الواقعية" نشرتها دائرة الإعلام في حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية، ذهب يسرائيل شيب-إلداد، وهو من كبار قادة حركة "أرض إسرائيل الكاملة"، إلى أن الفلسطينيين يواجهون المأزق نفسه الذي واجه الكنعانيين في ما مضى، وأشار إلى أن الخيار الذي يريدهم أن يختاروه، هو أن يهاجروا موطنهم الأصلي، لم يكن قط جديداً على الصهيونية السياسية. ففي رأيه، أن "الأخلاق اليهودية" وإن حرّمت الطرد الجماعي دفعة واحدة إلا في زمن الحرب، فإن خير إجراء هو استدراج العرب إلى الهجرة الواسعة النطاق من خلال تعمد خلق صعوبات اقتصادية في "الأراضي المحررة".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية