"فصل الإخوان": فض عروة الوظيفة العامة

"فصل الإخوان": فض عروة الوظيفة العامة


18/07/2021

شادي لويس

تأخر قانون "الفصل بغير الطريق التأديبي"، في مجلس النواب المصري، بعض الوقت. فالقانون المعروف إعلامياً باسم "فصل الإخوان" كان قد أقره المجلس بتشكيلته السابقة، مبدئياً، لكنه ظل معلقاً لشهور، حتى تمت الموافقة عليه بشكل نهائي مطلع الأسبوع.

ربما لا يحمل التأخير أي دلالات، أو لعل السبب راجع إلى شبه عدم الدستورية التي شابت القانون. فالمادة 14 من الدستور المصري تحمي الوظيفة العامة، ولا تجيز فصل صاحبها بغير الطريق التأديبي، والمقصود بالتأديبي هنا، يتعلق بإخلال الموظف بمهام عمله. فللوظيفة العامة نوع من الحصانة، ولو في حدها الأدنى، ويتمتع بها الجميع مهما كان موقعهم في السلّم الإداري لمنظومة الدولة.

لكن، وبغض النظر عن التفاصيل التقنية، فإن القانون الذي يفتح الباب على إمكانية فصل الموظف العام لأسباب سياسية، وبالارتكان على أحكام على النوايا، يزعزع واحداً من أكثر الأركان التاريخية للدولة، وأعمقها رسوخاً. فمنذ نشأتها، ارتبطت الدولة الحديثة في مصر بالوظيفة العامة، بوصفها لَبِنة النظام البيروقراطي لهيمنة لسلطة على المجتمع، أي تجسُّدها المباشر والعياني في منصب الموظف العام، ذلك الفرد الذي يستمد هيبته من السلطة ويكون أيضاً دلالة حضورها الشامل. لذا كان "التمرغ في تراب الميري" انتساباً، يستتبعه عدد من المزايا الاستثنائية، أهمها ضمانة شبه مطلقة للوظيفة نفسها وللدَّخل مدى الحياة، بل وتمرير المعاش التقاعدي إلى الورثة.

في العهد الناصري، سعى النظام إلى تعميم الاستثناء، وكان هذا يعني أن تصبح الدولة صاحب العمل الأول، إن لم يكن الوحيد، وأن يتمدد نطاق دائرة الوظيفة العامة، ليتجاوز الخدَمي إلى كافة الأنشطة الاقتصادية والثقافي والترفيهية وغيرها. كان ذلك هو الطموح: أن تصبح المواطَنة في معظمها علاقة توظيف عمومي، أو العكس، وكانت تلك قفزة واسعة. فبدلاً من أن تكون الوظيفة الحكومية دلالة على حضور السلطة، تم بسط معانيها لتصبح علامة المواطَنة إجمالاً. وبذلك المعنى، فإن وظيفة "القوى العاملة"، تلك التي كان ينتظرها الخريج بضع سنوات حتى تأتي حتماً، حملت معنىً قدرياً، أقرب إلى الوعد الإلهي، غير الجائز الرجوع فيه أو انتزاعه لأي سبب.

ومع التحول بعيداً من السياسات الاشتراكية، في عهد السادات، ومن بعده تسريع سياسات الخصخصة في عقود مبارك الثلاثة، فإن الوظيفة العامة احتفظت بحصانة لها طابع محيّر وشديد الالتباس. كان يمكن للمرء أن يختفي، أو يُعتقل طبقاً لقانون الطوارئ الذي ظل سارياً معظم الوقت، ويجدد اعتقاله ورقياً لسنوات وسنوات، وكان يمكن له أن يُعذّب حتى الموت في أقسام الشرطة، أو يُسجن بحكم صادر من قضاء استثنائي.. لكن إن كان ذلك الشخص موظفاً حكومياً، فرغم كل هذا، تظل وظيفته محصنة، وراتبه التقاعدي مضموناً للورثة. عمليات الفصل التعسفي بسبب تقارير أمنية كانت تحدث، لكن القضاء الإداري داوم على إصدار أحكامٍ مُلزمة برجوع المفصولين إلى وظائفهم، بل وتعويضهم عن فترة توقيفهم عن العمل، ليشمل التعويض المزايا الوظيفية كافة، بما فيها احتساب مدة الأقدمية للترقيات واستحقاق العلاوات الدورية المضافة إلى رواتبهم. بل، وفي بعض الحالات، حينما كانت تتعنت جهات العمل، وتتقاعس عن تنفيذ قرار المحكمة، كان يتم إصدار أحكام بالسجن على الوزراء التابعة لهم المؤسسات المعنية، ويتم اختصام رئيس الجمهورية بصفته في أحيان كثيرة.

بالطبع، لا يمكن الادعاء بأن القضاء كان مستقلاً في عهد مبارك، لكن الوظيفة العامة، ولأسباب لا يمكن الجزم بها، كانت تلك النقطة التي يتقاطع فيها استقلال سلطات الدولة والفصل بينها. يرجع البعض تلك العِصمة إلى أسباب تتعلق بمبارك نفسه، فهو لطالما اعتبر نفسه موظفاً، ووصوله إلى منصب نائب الرئيس، فرئيس الجمهورية، ضرب من ترقية روتينية مع الكثير من حسن الحظ. أما التفسير الآخر، والأكثر براغماتية، فيُرجع تلك الضمانات الاستثنائية إلى رؤية النظام الحاكم لموظفي الحكومة، باعتبارهم عصب الولاء له، وكتلته الأكبر، والتي ينبغي إرضاؤها بعامل الأمان، خصوصاً في ظل تراجع قيمة الرواتب والمزايا الأخرى.

يأتي قانون "فصل الإخوان"، اليوم، كضربة أخيرة ورمزية لتراث الحداثة البيروقراطية في مصر، ومحو للآثار المتبقية من طموحات الدولة الاشتراكية والفصل بين السلطات وحكم القانون وكرامة الوظيفة العامة، وذلك اليقين الاستثنائي الذي لطالما ارتبط بها في الماضي.

عن "المدن"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية