عودة العنف: هل تتجه تشاد إلى صراع أهلي مسلح أم انقلاب عسكري؟

عودة العنف: هل تتجه تشاد إلى صراع أهلي مسلح أم انقلاب عسكري؟

عودة العنف: هل تتجه تشاد إلى صراع أهلي مسلح أم انقلاب عسكري؟


27/08/2023

تعرَّضت القوات العسكرية التشادية في 9 و10 أغسطس 2023 لهجوم متكرر من مجموعة "مجلس القيادة العسكرية لخلاص الجمهورية"، ذهب ضحيته عددٌ من القتلى مع أسر 23 جندياً وتدمير 9 مدرعات. وفي الوقت نفسه أعلنت "جبهة التناوب والتغيير" (FACT) استئنافها العمليات المسلحة ضد النظام.

تُحلل الورقة السياقات الجديدة للنزاع المسلح في تشاد وآفاقه المحتملة، في ضوء المحددات السياسية الداخلية والمعطيات الإقليمية الراهنة.

خلفيات تجدُّد النزاع المسلح في تشاد 

كانت المجموعات المسلحة المعارضة قد أعلنت وقف إطلاق النار ضد النظام الحاكم في تشاد بعد مقتل رئيسه إدريس ديبي في أبريل 2021 الذي تم خلال معركة مع قوات "جبهة التناوب والتغيير". وقد أطلقت الحكومة حواراً شاملاً مع القوى السياسية والعسكرية المعارضة شارك فيه أربعون تنظيماً مسلحاً، أفضى إلى توقيع اتفاقية الدوحة بتاريخ 8 أغسطس 2022، لكن أهم المجموعات المسلحة، وهي جبهة التناوب والتغيير، رفضت نتائجه، كما رفضت قرارات وتوصيات "الحوار الوطني الشامل والسيادي" الموقعة في نجامينا في 8 أكتوبر 2022.

ولئن كانت نتائج الحوار سمحت بدمج بعض رموز العمل المسلح، مثل توم رديمي زعيم "اتحاد قوى المقاومة" الذي أصبح وزيراً للتعليم العالي في الحكومة الحالية، إلا أن أهم التنظيمات المسلحة رفضت الدخول في التوافقات التي سمحت بتمديد المرحلة الانتقالية 24 شهراً، وبمشاركة القادة العسكريين في الانتخابات المقبلة.

وقد تركزت معارضة نتائج الحوار الوطني في الجنوب المسيحي الذي شهد في أكتوبر 2022 انتفاضةً عنيفة ذهب ضحيتها -بحسب المصادر الرسمية- خمسون قتيلاً وأكثر من 300 جريح، استجابةً لمطالب الأحزاب المعارضة الرافضة لتمديد المرحلة الانتقالية، وهي "تحالف وقيت تما" وحزب "المغيرين" برئاسة سيكسيس مسارا.

ومع أن مشروع الدستور الجديد صادق عليه المجلس الوطني الانتقالي (البرلمان المؤقت) في 27 يونيو 2023، ومن المتوقع أن يُعرَض على الاستفتاء الشعبي في 17 ديسمبر 2023، إلا أنه لم يحسم الإشكالات الجوهرية العالقة في الساحة السياسية، وفي مقدمتها: النظام الفيدرالي الذي تطالب به بعض القوى السياسية، ومنزلة الجيش في الحياة السياسية. ومن هنا ندرك سبب تجدد العنف السياسي في تشاد المرتبط بإخفاق المسار التفاوضي في بناء إجماع وطني حقيقي، في بلاد ينتقل الصراع السياسي فيها -في العادة- إلى العمل العسكري.

وتبرز هنا أهمية موقف أهم التنظيمات المسلحة، وهي جبهة التناوب والتغيير، التي أصدرت بياناً بتاريخ 18 أغسطس 2023 ونقلته المواقع الإخبارية التشادية، تضمن إنذاراً شديد اللهجة للسلطات العسكرية التي اتهمتها بالمبادرة إلى استئناف الحرب بضرب قاعدتها الخلفية في جنوب ليبيا. وتزامن البيان مع هجوم "مجلس القيادة العسكرية من أجل خلاص الجمهورية " المنشق عام 2016 عن الجبهة. ووقّع هذا الهجوم في منطقة تبسني الحدودية مع ليبيا، وهي المنطقة التي توجد فيها قبيلة الزغاوة التي ينحدر منها الرئيس محمد إدريس ديبي وأبرز معاونيه العسكريين. وفي زيارته لهذه المنطقة في 18 أغسطس الجاري، هدَّد الرئيس ديبي بملاحقة المتمردين من مجلس القيادة العسكرية إلى داخل قاعدتهم في ليبيا، مُخيّراً خصومه من الجبهة والمجلس بين الالتحاق بالتوافق الوطني أو الحرب.

ووفق بعض الأوساط القريبة من حكومة نجامينا، دخلت البلاد فعلاً في مأزق العمل العسكري، بما يعني نهاية الهدنة التي عمَّت البلاد منذ أبريل 2021.

التشابكات الإقليمية لتجدد العنف المسلح في تشاد 

من المؤكد أن فرنسا، باعتبارها واحداً من أهم الفاعلين الدوليين الأهم في المنطقة، لن تكون مسرورة من انتقال عدوى الانقلابات العسكرية إلى تشاد بعد انقلاب النيجر الأخير الذي سبقته انقلابات مماثلة في مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري. وبالنسبة لفرنسا، تُشكل تشاد حلقةً استراتيجية رئيسة في غرب ووسط أفريقيا، كما أنها الحليف الأساسي لها، وهي مركز عملياتها العسكرية في منطقة الساحل، فضلاً عن كونها تتمتع بالجيش الوحيد الفعال والمتماسك في الإقليم. 

لكنّ وضع تشاد في الخريطة الإقليمية هشٌ للغاية، باعتبار أنها مستهدفة بالعمليات الإرهابية من الجنوب من طريق عصابات باكو حرام النشطة في حوض تشاد، كما أنها مستهدفة من الغرب بالتنظيمات المتطرفة النشطة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، أما حدودها الشمالية فهي مشتعلة بالصراع الليبي الداخلي، وتعد مركز وجود أهم الجماعات المسلحة المعادية للنظام التشادي. ومن المعروف أن هذه الجماعات المسلحة تتشكل أساساً من قبائل التبو والقرعان والعرب التي تتقاسم المجال الجغرافي المشترك بين تشاد وليبيا، ولها تحالفات قوية مع بعض الفرقاء الليبيين (مثل الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر).

وهكذا تنظر الدوائر الفرنسية إلى تشاد بوصفها "واحةَ الاستقرار الهش في الساحل" الذي يتعين الذود عنه وإشراكه في معالجة الأزمات الإقليمية المتفجرة حتى لو كان هامش المناورة محدوداً أمام قيادة تشاد، التي رفضت الدخول في العملية العسكرية المرتقبة في النيجر حرصاً على خطوط الإمداد الساحلية مع غرب وشمال أفريقيا بعد انغلاق خطوط الشرق منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل الماضي. وهو الهامش المحدود ذاته في مواجهة الصراع الداخلي السوداني، نتيجة للتداخل الكثيف بين منطقة دارفور في غرب السودان وتشاد التي استقبلت عشرات آلاف اللاجئين السودانيين، وتخشى سلطات نجامينا انتقال الصراع الأهلي السوداني إلى تشاد نتيجة للتداخل العرقي والقبلي في المناطق الحدودية المشتركة بين البلدين. 

وعلى العموم، فإن المرحلة الانتقالية التي تمر بها تشاد حالياً تواجه مخاطر جسيمة، وقد تكون -بحسب معهد السلام الأمريكي- "آخر فرصة للسلام والديمقراطية" في تشاد. 

آفاق المشهد السياسي التشادي 

مع تجدد الأعمال العسكرية في تشاد، قبل سنة من الانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر 2024، يمكن استشراف السيناريوهات الثلاثة الآتية:

1. سيناريو الانقلاب العسكري وفق النموذج الساحلي، الذي حذّرت منه عدة جهات غربية، وقد يأتي على شكل تمرد مسلح مدعوم من قوات فاغنر الروسية التي يُعتقد أنها تُدرب معارضين للنظام في مركزها في جمهورية أفريقيا الوسطى، كما يُعتقد أنها حاضرة، بشكل أو بآخر، في تفاعلات الصراع السوداني المجاور. وبما أن الجيش التشادي يتكون أساساً من قبيلة الزغاوة، فإن الانقلاب المحتمل قد تُديره عناصر عسكرية منشقة عن النظام، كما حدث في حالات تمرد سابقة على الرئيس الراحل إدريس ديبي.

2. سيناريو تفجر الصراع الأهلي المسلح من خلال دخول التنظيمات العسكرية المعارضة إلى داخل البلاد وسيطرتها على بعض المناطق الداخلية، كما حدث عدة مرات في السابق. ومن أبرز هذه التنظيمات جبهة التناوب والتغيير ومجلس القيادة العسكرية، وكلاهما متمركز في الحدود الليبية. وبالإضافة إلى التهديد القادم من الحدود الليبية، يوجد تهديد في الجنوب نابع من نشاط تنظيمَين عسكريين، يصل عديدهما إلى ثلاثة آلاف مقاتل، على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. وفي حال تفجر الجبهات الشمالية والجنوبية مع تنامي الخطر الإرهابي الساحلي، من المرجح أن تدخل البلاد في فوضى عارمة لا حل لها في المدى القريب.

3. سيناريو استمرار الوضع الراهن من تجدد الاشتباكات المسلحة بين التنظيمات المسلحة والجيش التشادي وصولاً إلى إجراء الانتخابات الرئاسية بحسب الموعد المحدد لها في أكتوبر 2024 بمشاركة الرئيس محمد إدريس ديبي الذي سينجح في الاحتفاظ بالسلطة رغم معارضة قوى سياسية عديدة، وإنْ كانت الأزمة السياسية والأمنية ستظل قائمة، بل مرشحة للتفاقم في سياق داخلي وإقليمي معقد.

يبدو في الوقت الحاضر أن حظوظ السيناريوهات الثلاث متقاربة، ويمكن ترجيح سيناريو الانقلاب العسكري على خلفية انفجار الصراع الأهلي المسلح، أي ترتيب انقلاب بالتواطؤ مع الجماعات المسلحة التي قد تنجح في التوغل داخل البلاد، وفي هذه الحالة سيكون عمود الانقلاب من نفس المحيط القبلي والعرقي للرئيس ديبي، أي مجموعات الزغاوة والتبو والقرعان الشمالية التي تنحدر منها أغلب الحكومات العسكرية التي حكمت البلاد خلال السنوات الأربعين الأخيرة. وقد تُشجع هذا السيناريو الدوائر العسكرية والاستخبارية الفرنسية استباقياً، من أجل  الحفاظ على مصالح فرنسا الحيوية في الدولة.

خلاصة

أعلن تنظيمان سياسيان مسلحان في تشاد عودتهما إلى العمل العسكري بعد سنتين من الهدنة، شهدت فيهما البلاد مساراً تفاوضياً قاطعته بعض قوى المعارضة الداخلية والخارجية. ومع دخول البلاد في مأزق سياسي داخلي، وانفجار الأوضاع الإقليمية وعودة الانقلابات العسكرية إلى منطقة الساحل الأفريقي، يبدو أن الوضع في تشاد مُتجهٌ إما إلى تفجُّر الصراع الداخلي العنيف أو إلى حدوث انقلاب عسكري على غرار الانقلابات الأخيرة في منطقة غرب أفريقيا، وليس من المرجح أن يحلّ المسار الانتخابي الموعود هذه الأزمة السياسية الأمنية المعقدة. 

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية