عن جنازة نصرالله وزمن أيتامه

عن جنازة نصرالله وزمن أيتامه

عن جنازة نصرالله وزمن أيتامه


03/03/2025

هيثم الزبيدي

تكشف الجنازة الضخمة التي رافقت تشييع أمين عام حزب الله حسن نصرالله في بيروت عن حجم ما بدده نصرالله. لا أحد يجادل بأهمية نصرالله كشخصية استثنائية في تاريخ المنطقة الحديث، وهي شخصية نقول ويقول غيرنا سلفا إن من الصعب تكرارها.

قد نختلف ويختلف كثيرون مع نصرالله، كشخصية وكفكر. لكن من المؤكد أنه مثّل خلال العقود الثلاثة الماضية حالة استثنائية في قدرته على توحيد كتلة شعبية وسياسية، والحفاظ على تلك الوحدة كما لم يستطع فعل ذلك أي سياسي عربي أو إسلامي غيره. لعله استفاد من ظروف تبعثر وضع الآخرين، ومن المؤكد أن هناك مؤسسة -بل مؤسسات- ضخمة ظلت تعمل إلى يومنا هذا خدمة لتأكيد شكل كاريزما الزعامة التي أثبتت حضورها ونجحت في إدامة هذا الحضور. في النهاية، ثمة مؤسسة الحرس الثوري التي ظلت تقف خلفه، ولعلها أهم مؤسسة سياسية واستخبارية وعسكرية في الشرق الأوسط إلى الآن، أو على الأقل إلى حين تلقيها الضربات الإسرائيلية المختلفة، وانكشاف المدى الذي يمكن لها أن تتحمله. لم يكن نصرالله سياسيا بمعنى المسؤولية السياسية/الحكومية مثل سياسي تقليدي حين يلام رئيس دولة على اقتصاد بلده أو تصليح شوارعه أو تبني موقف أو ما شابه ذلك. كانت كل ذنوبه مغفورة، طالما كان قادرا على تبرير الأمر مرورا بثقب الإبرة للقضية وإسرائيل والتشيع والطائفية والكثير الآخر من الأسباب والمعطيات. لكنه كان بارعا في قدرته على تقديم شخصية الزعيم الذي لم يجاره أحد فيها.

عندما تقرأ كيف استعدت إسرائيل لتوجيه ضربتها المدمرة المزدوجة لحزب الله ونصرالله، ستقدر حجم المقامرة الكبيرة التي مارستها إيران، بل حسن نصرالله نفسه. عندما تنصت لتفاصيل الاستعداد لهجوم البيجر والإعداد له، وصولا إلى خنق وتطويق زعيم حزب الله، يمكن فهم أن الخطوة المنطقية الوحيدة التي بقيت أمام إسرائيل هي التدمير الشامل للفكرة المزدوجة الحزب/الزعيم. نصرالله، بكل المعايير شخصية أهم بأشواط من المرشد الأعلى علي خامنئي، وهذا ما أدركته إسرائيل وتصرفت على أساسه.

كم شخصا يستفيق في عالمنا العربي ويقلّب الفضائيات أو المواقع بحثا عما قاله خامنئي؟ لا شك أن العدد هو القليل القليل. لكن الناس كانوا ينتظرون ما سيقوله “السيد”، سواء أكان ما سيقوله بتوجيه من خامنئي أم لا. ورغم تراجع شعبيته خلال السنوات الماضية، خصوصا بعد تكشف دور الحزب في ما آل إليه الوضع السياسي والمالي والاقتصادي في لبنان، إلا أن البعض المتضرر، بل والذي يصل إلى دور توجيه اللوم لنصرالله، مستعد لأن يسكت ويتجرع حصته من الأزمة.

مقتل “السيد” كان بلا أدنى شك ضربة كبرى للمشروع الإيراني في المنطقة. ها نحن نقول مقدما إن طهران لن تتعافى منها. فمركزية نصرالله في المشروع لا تجارى، وهو أمر لا يحاول أحد حتى تقليده كما نرى باستمرار زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي المعروف بالانزواء وتقديم رسائله بطريقته التقليدية. أما وريثه المعين أو المنتخب نعيم قاسم فقد ترك الأمر برمته لفكرة الاستمرارية، لعل ابن نصرالله الشاب، محمد مهدي، قادر على أن يلتقط المسؤولية قريبا مستعينا بالشبه البيولوجي ولثغة اللسان التي تشابه لثغة لسان أبيه.

تبددت ذكرى يحيى السنوار. ولا أذكر آخر مرة تمت فيها استعادة اسم إسماعيل هنية. حماس غارقة في تفاصيل الأسرى والرهائن والهدنة وهل ستحكم غزة أم انتهت. غارقة في من سيخلف قادة حماس ومن سيخلف سلطتها وكيف ستعيد التسلل -أو هكذا تعتقد- للسيطرة غير المرئية على غزة بشكل يحاكي أو يشابه جزئيا ما تفعله الآن في الضفة. لكن إيران بما تبقى من مشروعها، مضطرة إلى إعادة استدعاء نصرالله يوميا، في قنواتها ومواقعها. وهذه معضلة حقيقية، لأن الضربة الإسرائيلية كما أشرنا كانت مزدوجة، للزعيم وللحزب.

أين الحزب؟ حزب الله موجود بلا شك. ولكنه لا يزيد عن شبح للحزب الذي كان قبل عام، في عز قدراته. أي محاولة للإيهام بأن بوسع الحزب استعادة مكانته اللبنانية أو الإقليمية هي محض خيال. في كل مرة يتم فيها استدعاء مسمى حزب الله، يكون الاستدعاء إشارة إضافية إلى حجم الاستهانة بما تبقى من الحزب. سيبكي مؤيدو الحزب كثيرا مكانتهم مثلما يبكون ذكرى نصرالله. لكن هذا لا يفيد. أي رجل أمن أو جندي لبناني يعرفان أن لا أحد من أنصار حزب الله عاد بوسعه تخويفه بالحزب. ولولا الإقطاعيات السياسية الحزبية في لبنان، لكنّا شهدنا تجرؤا أكبر على حزب الله وزعاماته المتبقية. شخصيات مثل نبيه بري أو وليد جنبلاط، بل وحتى سعد الحريري وسمير جعجع، لا يريدون فتح هذا الباب على “ورثة” السيد، لأن هذا سيفتح الباب على مكانتهم المهتزة أصلا. الكل ينحني لتمر العاصفة -ربما باستثناء شخصية معروفة بقصر النظر وهي شخصية زعيم التيار الحر جبران باسيل- وليتركوا للرئيس الجديد جوزيف عون ولرئيس الحكومة الجديد نواف سلام ولوزراء حكومته فرصة أن يقولوا ما يشاءون.

مرت الجنازة بكل أبهة. لكنها في النهاية جنازة. هي اعتراف بنهاية مرحلة، وقد انتهت نهاية غير طبيعية كيفما أردت تقليب الوضع أو نفخ روح مختلفة فيه. رحل نصرالله وأخذ معه كل شيء تقريبا، بما في ذلك وريثه الشبيه هاشم صفي الدين. وكل حديث عن “سيد الشهداء” والبطولات والتوصيفات الأخرى الكثيرة، إنما هو تذكير بفكرة أساسية تتلخص في أن ملف نصرالله أغلق، وأن من غير الوارد أن تتمكن إيران من تجميع صورة جديدة وهيكل جديد وأسلحة جديدة لحزب الله في لبنان. بعد فترة قصيرة سيختفي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزراؤه من المشهد، ويتحول الموضوع إلى بند تاريخي، وسيبقى “ورثة” الحزب يستعيدون ذكرى أهم شخصية أنجبها الحزب في التاريخ الشيعي المنظور، لبنانيا وإقليميا وعالميا.

ضع أنت أو أي مراقب الثمن الغالي الذي دفعته حماس من تدمير لغزة بعد مغامرة “طوفان الأقصى”. إلا أن من الأسئلة المهمة والكبرى: هل كان “الطوفان” يستحق أن يكون ثمنه حسن نصرالله؟ لا أعتقد. بل أقول إن الاستعراضات باستقبال ما تبقى من زعماء حماس من قبل المرشد الأعلى لن تقدم أو تؤخر في حقيقة أن حماس أقدمت على خطأ إستراتيجي لم يدمرها فقط، بل دمر البناء الذي شيدته إيران منذ يوم انتهت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988 حتى يومنا هذا. الهتاف والصوت العالي والأوهام لن تنقذ ما تبقى لحزب الله أو إيران، بل والأخطر من هذا كله هو ما تبقى من بناء متماسك يتمثل في الحشد الشعبي، الذي من الواضح أنه تحت ضغط سياسي وإستراتيجي قد يؤدي به إلى أزمة كبيرة خصوصا وأن أطرافا كثيرة في الحكومة العراقية من مصلحتها أن يتم تفكيك الحشد أو هيكله القيادي بالحد الأدنى، وإلغاؤه أو إعادة تركيبه بصيغة أكثر توافقا مع ما تتحمله المنطقة.

الجنازة كانت كبيرة وأيتامها كثر. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. ومن الصعب أن يُقترح على ما تبقى من هيكليات سياسية واجتماعية تابعة للحزب الإتيان بصيغة تعايش مع واقع مختلف. حزب الله اعتاد على واقع مهيمن يتحكم فيه بالكثير من المفاصل ويأمر بها وينهى. فرض واقعا متأزما على اللبنانيين وأجبرهم عليه. الآن ما هي بدائله. من الصعب الحكم لاعتبارات كثيرة خصوصا وأن الأيتام بلا أب. لا شك أن حزب الله كحزب هو تنظيم مطيع وفعال. هو بالكثير من الاعتبارات أفضل كتركة من تركة بشار الأسد كنظام. حتى في الجزء المعنوي، فإن أتباع الحزب يمنون النفس بنصر لاحق أو شهادة مثلهم مثل زعيمهم. أما أتباع نظام الأسد، فبماذا يمنون النفس؟ تعلم الروسية خلال عام وأنت تعيش في مهجر موسكو؟

أيتام نصرالله ينتظرون ما ستقرره إيران بحقهم وفي أي ملجأ سيوضعون طالما استمر حال الوضع القلق في إيران، وكل مفصل من مفاصل إيران ينتظر حصته من سياسة تشديد الضغوط الأميركية.

لا شك أن إيران استعاضت عن الصوت العالي بصوت وزير خارجيتها عباس عراقجي الهادئ ومن خلفه صوت رئيسه الأكثر “صمتا” وهدوءا مسعود بزشكيان. الحرس صامت وخامنئي يتجنب الإشارات التصعيدية، وهذا ما يزيد من قلق الأيتام. ملجأ أيتام في بلد معروف بألسنة سياسييه الطويلة مثل لبنان ليس ما تتمناه لحزب كان يمارس التنمر على كل صغيرة وكبيرة. لكن يبدو أن هذا ما على الطبق.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية