عندما طعن عبد الحميد الثاني مصر في ظهرها!

عندما طعن عبد الحميد الثاني مصر في ظهرها!


15/06/2020

وليد فكري

هذا ما نَص عليه الدستور العثماني الصادر في عام 1876م والذي على أساسه صار السلطان عبد الحميد الثاني جامعًا بين السلطتين المدنية والدينية..

القارئ في التاريخ الإسلامي ونُظُم الحُكم الإسلامية يمكنه بسهولة أن يعرف أن "ولي الأمر" سواء كان أميرًا أو ملكًا أو سلطانًا من ناحية أو كان يحتل منصب "الإمامة العُظمى" المعروف بـ"الخلافة" من ناحية أخرى، يقع على عاتقه "حماية بلاد المسلمين" من الأعداء.. وهذا وفقًا للقواعد الشرعية لمنصب الخلافة.. ويمكن للقارئ مراجعة ذلك في كتابا "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للفقيه العباسي أبو الحسن الماوردي أو في تعريف المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون لمنصب الخلافة في مقدمة كتابه "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر".

بناء على ذلك فإن أي تقصير أو إهمال أو تهاون من هذا "الخليفة" في حق واجبه سالف الذكر هو من قبيل "خيانة الأمانة"، فما بالنا بارتكابه عملًا يعد دعما معنويا للمعتدي الأجنبي؟.

هذا ما كان من عبد الحميد الثاني في حق مصر!

-عرابي وعبد الحميد:

بينما كان عبد الحميد يفتتح عهده بتسليمه جزيرة قبرص للبريطانيين كان ضابط الجيش المصري أحمد عرابي يناضل لحماية حقوقه وحقوق زملائه الضباط والجنود المصريين أمام انحياز السلطة الحاكمة لعنصري التُرك والجركس وتمييزهما بالترقيات والتعيين في المناصب القيادية مقابل اضطهاد وتحجيم للعنصر المصري الذي يقوم على أكتافه جيش مصر..

بدا هذا النضال في عهد الخديوي إسماعيل، وبالتوازي معه نضال آخر ضد التدخُل الأجنبي في شؤون مصر بذريعة سوء السياسة المالية للخديوي الذي أوقع البلاد في الديون، ففرضت عليه القوى الأوروبية مراقبين فرنسي وإنجليزي، راحا يتحكمان في السياسة المصرية حتى إذا ما حاول إسماعيل إطاحتهما لمنع هذا التدخُل السافر ضغطت دولتاهما على السلطان العثماني فأصدر فرمانًا بعزل إسماعيل وتعيين ابنه توفيق حاكمًا على مصر..

وبعكس أبيه، كان توفيق متصالحًا تمامًا مع فكرة الخضوع لتدخُل خارجي طالما أن ذلك يحفظ له كرسيه ولقبه، وبدا واضحًا أن انضمام مصر للأقطار المتسربة من الحكم العثماني إلى الاحتلال الأوروبي قد صار مسألة وقت لا أكثر..
تصاعدت حدة الصدام بين عرابي والسراي في عهد توفيق، وكان عبد الحميد الثاني على علم بنشاط عرابي الذي لم يدخر وسعًا في طمئنة الباب العالي أن مناداته بالوطنية المصرية لا ترمي لفصل مصر عن "الخلافة العثمانية"..

كان سبب موقف عرابي هو من ناحية نشأته الدينية الريفية المحافظة، والتي تقود بطبيعة الحال لاحترام "مقام الخلافة"، ومن ناحية أخرى كان يدرك أن العرش العثماني تعصف به دعاوى القوميات والوطنيات الرامية للتخلص من حكمه سواء في المستعمرات العثمانية في أوروبا (الرومللي) أو في بلاد الشام ومصر، فكان يرمي إلى طمأنة السلطان إلى أن حركته ليست واحدة من تلك الدعاوى.. هل كان ذلك إيمانًا حقًا منه بفكرة "الخلافة العثمانية" و"الجامعة الإسلامية" أم كان لا يرغب في فتح جبهة صراع مع العثمانيين إضافة إلى الجبهات المفتوحة بالفعل ضد الخديوي توفيق والطمع الاستعماري الأجنبي ومؤامرات العنصرين التركي والجركسي؟ لا أستطيع الجزم بالإجابة ولكن الواقع التاريخي يقول إن عرابي حرص على الحفاظ على علاقة طيبة بالباب العالي...
في المقابل كان الخديوي توفيق متآمرًا من الطراز الأول، فكان يرغب في أن يضيق الخناق على عرابي من خلال إيهام السلطة العثمانية بأن هذا الضابط العنيد هو عدو للحكم العثماني وليس لحكم توفيق وحده..

-عبد الحميد الثاني يدعو لغزو مصر:

الاضطرابات في مصر أو ما عُرِفَ باسم "المسألة المصرية" صارت موضع جدل من القوى الأوروبية التي كانت كل منها تخشى انفراد الأخرى بـ"غنيمة مصر" كجزء من التطلع لتقاسم "عادل ومُرضٍ" للتركة العثمانية.. وبلغ الهوان بالعثمانيين وسلطانهم أن عقد الأوروبيون مؤتمرًا لتقاسم التدخل والغزو في اسطنبول المنصوص في دستور 1876 على أنها "عاصمة الخلافة"!

وراح عبد الحميد العاجز ينظر إلى مندوبي إنجلترا وفرنسا ودول أوروبا وهم يتناقشون علنًا حول من له حق التدخُل في مصر التي كانت آنذاك "ولاية عثمانية".. وللدهشة فإن عبد الحميد قد رفض مقترحًا بأن يرسل القوات العثمانية إلى مصر لفرض الانضباط على الأطراف المتصارعة وتمكين الخديوي توفيق من إقامة حُكم مستقر فيها.. بل دعا إنجلترا إلى أن تقوم هي بهذا الدور من خلال تفويضها إدارة مصر أسوة بجزيرة قبرص!

دعوة صريحة للغزو من رجل يُفتَرَض أنه "أمير المؤمنين" و"سلطان الدولة العثمانية" و"حامي حِمَى البلاد"! وحتى تبريرها بأنها "مناورة للوقيعة بين المتنافسين الأوروبيين على غزو مصر" لا يكفي لنفي صفة الخيانة العُظمى عن هذا الفعل المنكر..
وترفض إنجلترا الطلب احترامًا لما يوصف بـ"بروتوكول النزاهة" بين الدول الأوروبية ألا تلعب إحداها من وراء ظهر الأخرى..
أخيرًا استقر الأمر على أن تتدخل الدولة العثمانية بقواتها في مصر ولكن بشكل لا يمثل "احتلالًا طويل الأمد" بل بقدر ما يكفل للخديوي توفيق أن يقيم حكومة مستقرة لا تعاني مضايقات "الفئة العسكرية".

عبد الحميد الثاني، الرمز الذي يشيع العثمانيون الجدد أنه كان صخرة صلبة في وجه المستعمرين، يحتاج إلى مؤتمر دولي مفروض عليه ليقرر إرسال قوات إلى ولاية في دولته!

ولا تقف المهزلة عند ذلك كما سنرى..

-خيانة عثمانية في زمن الحرب:
بينما كان عبد الحميد يمارس الانبطاح في عاصمته أمام الطامعين في ولايات دولته، كانت إنجلترا تكمل مؤامرتها الاستعمارية ضد مصر بالتعاون مع الخديوي الخائن توفيق.

فقبيل المؤتمر المذكور، قام عملاء الخطة الإنجليزية بتوزيع السلاح على الأوروبيين المقيمين بالإسكندرية، ونسقوا مع الخديوي الذي أرسل أوامره لمحافظ الإسكندرية عمر لطفي.

وفي "ساعة الصفر" اندلعت مشاجرة بين رجل مالطي وحَمّار (مكاري) مصري على أجرة نقل هذا الأخير للمالطي، فما كان من المالطي إلا أن طعنه بسكين، ولما حاول المصريون القبض عليه فوجئوا بوابل من النيران ينطلق نحوهم من أسلحة الأوروبيين عبر النوافذ، فثارت ثائرة "أولاد البلد" وتحولت المشاجرة إلى مقتلة بشعة بين الطرفين الأجنبي والمصري.

خلال ذلك راح المحافظ عمر لطفي يتلكأ في التدخل مفسحًا المجال لاستمرار تلك المقتلة التي ستكون مبررًا للتدخُل الإنجليزي الصريح.

أثناء ذلك كانت البوارج البريطانية والفرنسية تتقدم من الإسكندرية فيما يوصف بـ"المظاهرة العسكرية" بغرض إرهاب عرابي والثائرين ضد الخديوي توفيق.

وانتقل الخديوي الخائن إلى الإسكندرية ليكون في حماية الأسطول الإبريطاني، بينما أحس الفرنسيون بأن بريطانيا ستورطهم فيما هو أكثر من المظاهرة العسكرية فصدرت الأوامر للأسطول الفرنسي بالتزام الهدوء وعدم مشاركة الأسطول البريطاني أي عدوان على المدينة..

وسيطر عرابي وأنصاره على القاهرة، وأعلنوا إسقاط نظام الخديوي توفيق وإقامة نظام وطني، وأعلن عرابي نفسه نائبًا عن السلطان العثماني في مصر.

وصدرت الأوامر من عرابي لقادة حصون وقلاع ثغر الإسكندرية بتحصين مواقعهم تحسبًا لعدوان بريطاني محتمل.. وبينما هم ينفذون تلك الأوامر فوجئوا بأن البريطانيين قد احتجوا عند السلطان عبد الحميد على أعمال التحصينات تلك فأصدر السلطان والخليفة أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني فرمانًا يأمر عرابي بوقف تحصين الإسكندرية!.

بالطبع رفض عرابي هذا الأمر، واستمرت أعمال التحصين والترميم والاستعداد للهجوم البريطاني المرتقب، فبادر سيمور-قائد الأسطول البريطاني-وأمر بقصف المدينة التي لم تصمد تحصيناتها أمام القصف الوحشي رغم استبسال الجند المدافع عنها وأهلها، وتحولت عروس البحر المتوسط إلى أنقاض مدكوكة مشتعلة.. وانسحب عرابي والجيش المصري إلى كفر الدوار (في محافظة البحيرة الملاصقة للإسكندرية في دلتا مصر) استعدادًا للتصدي للغزاة الذين قاموا بإنزال في الإسكندرية واستعدوا للتقدم من القاهرة..
وبينما كان العثمانيون يستعدون لفصل أخير من الخيانة، كان المصريون يضربون مثلًا رائعًا في التكاتف لصد العدوان.. على اختلاف عقائدهم.

فباقوم بك قائد شرطة القاهرة استطاع أن يحفظ الأمن فيها خلال هذه الظروف الدقيقة بشكل استحق إعجاب الجميع.. وأثرياء يهود الصعيد راحوا يرسلون الهبات المالية لعرابي لتسليح الجيش.. وأعيان المسيحيين أرسلوا الخيل والغلال لتموين الجيش المصري.

ونافس التجار المسلمون شركاءهم في الوطن في تقديم الدعم فأرسل تجار دمنهور 500 حصان لعرابي وراح أهالي مدن الدلتا يحصنون مدنهم وقراهم، وخرج 35000 من الأطفال والنساء لتحصين القاهرة.. وبعث حاكم أسيوط 22000 جندي من قدامى المقاتلين.

ونساء الأسرة العلوية الحاكمة لم ينحزن لتوفيق الخائن بل سارعن فجمعن أخوات وأمهات المجاهدين للدفاع عن مصر وعملن جميعًا في إدارة الأعمال الخدمية للجيش من كساء وتموين ودعم..

وبعثت أرملة سعيد باشا-والي مصر الأسبق وابن محمد علي باشا-بخيمة زوجها الملكية إلى عرابي لتكون خيمة ميدانية لإدارة العمليات العسكرية..

وأرسل المغاربة مقاتلون من قبيلة بني سليمان، وبعث السنوسيون في ليبيا بمقاتلين من بدو طرابلس تمركزوا في كفر الدوار..

ملحمة رائعة، ولكن.. جاءت الطعنة العثمانية من الظهر.. فقد أصدر السلطان العثماني فرمانًا يتهم فيه عرابي بالخيانة وأنه قد خرج عن الطاعة!. وتهلل الخديوي توفيق الخائن والغزاة الإنجليز بهذه الحماقة والخيانة العثمانية..

-نتيجة الخيانة:

وعند كفر الدوار دارت معركة ضارية بين الجيشين المصري والإنجليزي، تكبد فيها الإنجليز خسائر فادحة ومنوا بهزيمة موجعة...
كان يمكن أن يكون هذا الانتصار المصري خطوة للتقدم وطرد الإنجليز من الإسكندرية، ولكن الخديوي الخائن توفيق لوّح لقادة الجيش المصري بفرمان السلطان العثماني وحذرهم من مغبة العصيان وأمرهم بالتخلي عن عرابي "العاصي"..

ولأن كثيرا من هؤلاء القادة كانوا متأثرين عاطفيًا بفكرة "طاعة الخليفة ولي الأمر" فقد أثر ذلك في ثباتهم، وأسهم - إضافة لضعف تسليح الجيش المصري مقارنة بالجيش الإنجليزي ولخيانة بعض البدو وبعض الضباط المرتشين لرفاقهم-في هزيمة عرابي ورفاقه عند "التل الكبير".. وراح الإنجليز يتقدمون من القاهرة من جهة الدلتا إضافة لتقدم قوات دعمهم من جهة قناة السويس التي فتحها لهم فرديناند دليسبس رغم تعهده السابق لعرابي بإغلاقها في وجه ملاحتهم.. تلك القناة التي باتت مفتوحة من البداية للإنجليز بفعل تسلمهم قبرص المطلة عليها من السلطان عبد الحميد الثاني.

ولكي يجنب القاهرة مصير الإسكندرية نفسه، اضطر عرابي للاستسلام للإنجليز، ليخضع ورفاقه للمحاكمة ثم النفي.. وليبدأ الاحتلال البريطاني لمصر والذي استمر نحو 74 عامًا.

يبرر العثمانيون الجدد موقف عبد الحميد الثاني من عرابي بأن السلطان قد تعرض للخداع من الاحتلال وعملائه فأبلغوه أن عرابي يسعى لفصل مصر عن الدولة العثمانية.

وهو مبرر واهٍ هش.. فضلًا عن أنه يفضح تهافت المغردين بمدح عبد الحميد هذا، فهل هو الخليفة الصلب المتمكن كما يقولون أم هو ذلك الغافل الساذج الذي يقع في فخ خدعة ساذجة كهذه؟.

الواقع التاريخي وتحليل الوقائع يقول إن عبد الحميد الثاني قد خشي من ارتفاع موجة "الوطنية" في مصر إلى حد أن تنفصل عن دولته، ففضل أن يقوم الإنجليز بإخماد هذه الموجة وهو يحسب - مقامرًا- أنه سيتمكن بعد ذلك من إقناعهم بالانسحاب منها.. أي أنه قد انطبق عليه التعبير الدارج "متآمر وغبي"!.

في كل الأحوال فإنه لو لم تكن لعبد الحميد الثاني من مثالب سوى تسليمه قبرص، ودعوته الإنجليز للتدخُل العسكري في مصر، وأمره إيقاف تحصين الإسكندرية ثم فرمانه بحق عرابي، لكان هذا كافيًا لوصمه إلى الأبد بالخيانة العُظمى.. ووصم من يحاولون باستماتة تجميله بأنهم بين غافلٍ متعامي أو مدلس مزور للواقع التاريخي!.

عن "سكاي نيوز عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية