عليك أن تسأل نفسك: هل تجيد القراءة فعلاً؟

عليك أن تسأل نفسك: هل تجيد القراءة فعلاً؟


27/03/2022

هل نقرأ حقاً ما نقرؤه؟ هل بتنا نقرأ بتركيز أقلّ؟ هل نتذكر ما قرأناه؟ هل نلاحظ عندما نقرأ الشاشة أننّا نقرأ الكلمات الرئيسة فقط، ونتصفح البقيّة؟ وهل عادتنا التي نتبعها في القراءة من الشاشة تنطبق على القراءة الورقيّة المطبوعة؟ هل نجد أننّا نقرأ المقطع نفسه مراراً وتكراراً، محاولين سبرَ أغواره؟ هل أصبحنا معتادين على ملخّص سريع للمعلومات؟ هل نرى بأننّا بدأنا تدريجياً نتجنّب التحليلات ذات الكثافة والتعقيد الشديدين؟ أو حتى المبسطّة منها؟ هل بدأنا نفقد الصبر في تصفحنا لمقالٍ طويل، أو كتابٍ تتطلب قراءته بعض الجهد؟ تقول عالمة الأعصاب المعرفية والباحثة في القراءة "ماريان وولف": إنّ لهذه الأسئلة أهميّة بالغة، إذ تتطلب الأجوبة عليها وقفة جادّة مع الذات، فذاتنا تتغيّر دائماً، والأسوأ أنّ لا وقت لدينا فعلياً للقيام بشيء حيال ذلك.

اقرأ أيضاً: نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟

 أشارت "ماريان وولف" في كتابها "أيها القارئ عد إلى وطنك" إلى إشارتين لا بدّ من التوقف عندهما، الأولى: أنّنا نرتكب خطأً جوهرياً فادحاً، تتولد على أثره عدّة عواقب مؤسفة للأطفال والمعلمين والآباء على حدّ سواء، وفي مختلف أنحاء العالم، ألا وهو افتراض أنّ القراءة أمر طبيعي يفعله البشر، ويظهر مع الوقت فحسب، مثل ظهور اللغة عندما يكون الطفل مستعداً؛ ولكن الأمر لا يسير على هذا النحو؛ إذ يتحتم علينا أن نتعلّم المبادئ الأساسيّة لهذا الابتكار الثقافي غير الطّبعي، بينما في الإشارة الثانية تقترح أنّ تعلّم المبادئ الأساسيّة للقراءة هي ذاتها تعلّم المبادئ الإنسانيّة، فوولف تقارن القارئ الجيد بمجتمع "أرسطو" الجيد الذي يعيش ثلاث حيوات: حياة المعرفة والإنتاجيّة، وحياة الترفيه، وحياة التأمل، وتعتبر أنّ الحياة الثالثة (حياة التأمل)، هي من باتت اليوم مهددة بالانقراض؛ فالتربية والقراءة تشتركان بالفهم والتركيز والاهتمام، حيث يتواجدون فقط عندما نمتلك الصبر كمفتاحٍ رئيس لتبديد التشوش والتشتت؛ الخللين الأكثر فتكاً في عالم اليوم.

 رغم تنوع مصادر القراءة في عالم اليوم إلّا أنّ السمة المهيمنة هي القراءة السريعة والمشتتة

ميّز الفيلسوف الفرنسي " لوي ألتوسير"، بين نوعين من القراءة: القراءة المنفعلة، والقراءة الفاعلة، والمنفعلة هي ما أطلق عليه رولان بارت فيما بعد (بالقراءة الميّتة)، أو القراءة التي تخضع للنماذج المكرورة والقوالب الذهنيّة وكلمات الأمر والنهي، حيث تطفو على سطح المعنى، دون أن تشارك في خلقه أو إعادة التفكير فيه أو معه، بينما القراءة الفاعلة، وهي ما دعاها "بارت" (بالقراءة الحيّة)، إنها القراءة المتشككة، التي تنقد المباشر وترفض البديهيّات واليقينيات، وتضع الإنسان داخل الوجود وتخلق المعنى، أو بتعبير الروائي "مارسيل بروست": "أعتقد أنّ القراءة في جوهرها الإبداعي، معجزة اتصال ابتكارية، تمارسها في خلوة مع ذاتك، فتشعر أنّ حكمتنا تبدأ من حيث يغادر المؤلف، ولكن من خلال قانون فردي، ربما يشير هذا القانون إلى أننّا كائنات لا بدّ لها أن تخلق الحقيقة بنفسها، لا أن تستقيها من مصدر آخر؛ إذ تبدو نقطة النهاية لحكمتهم نقطة البداية لحكمتنا الخاصّة".

اقرأ أيضاً: عربية الحواديت: تحدي القراءة ينير قرى الريف المصري

بالرغم من تنوع مصادر القراءة في عالم اليوم، إلّا أنّ السمة المهيمنة على القراءة هي القراءة السريعة والمشتتة، تلك التي تأخذنا مباشرةً إلى القراءة الميّتة، ولأنّ الهاوية الرقميّة لا قاع لها، فإننا لا نشعر بسقوط القراءة العميقة من عقلنا القارئ، حيث النمط المشتت الذي تتبعه عبر الضخ المستمر للمعلومة والخبر، ساهم في إعاقة القراءة، وحرمانها من التعاطف العميق، فالعواطف تصطدم بالعواطف وتلغي بعضها، ليتضاءل الحس المشترك الإنساني وينكمش، نتيجة القراءة الكميّة التي تفتقر إلى البعد التأملي، ممّا يجعل ثقافة الكمّ مكاناً رسمياً لتواجدنا، فالتعاطف أو الحس الإنساني المشترك الذي يتوجب أن تخلقه القراءة، هو عبورٌ إلى منظور الآخر المختلف، إنه حوار داخلي عميق يؤسس لوجود المختلف، ولوحدة اتصال كوني يجعلنا ننتقل من وجهات نظرنا المقيّدة إلى وجهات نظر الآخرين، ثم العودة إلى ذواتنا برؤية أوسع.

في عالم التسارع الرقمي قد يكون الأطفال هم الضحايا الأكبر لعدم قدرة الوصول إلى القراءة العميقة

لكن في عالم التسارع الرقمي قد يكون الأطفال هم الضحايا الأكبر، لعدم قدرة الوصول إلى القراءة العميقة، فالانتباه المتقطّع لدى الأطفال أو ما يُسمى بـ (عقل الجندب)، وهو القفز من نقطة إلى أخرى مشتتين انتباههم عن المهام الأصليّة، أصبح يمثّل مشكلة ملحّة يجب التعامل معها بسرعة، فالعالم الافتراضي يوفر لهم تحفيزاً مستمراً وإلهاءً دون توقف، فما ينفقون وقتهم عليه، والكيفيّة التي يفعلون بها ذلك، ستحدث فروقاً جوهريةً بطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم، ولهذا يصرّ السيكولوجيون على أنّ الإدراك يتطوّر عبر تركيز الانتباه في فترات الطفولة أكثر من أي وقت، أو بتعبير عالم الأعصاب "دانييل ليفينتين": "إنّ تعدد المهام يخلق حلقة تغذية مرتدّة من إدمان الدوباميين، الذي يكافئ الدماغ عملياً على فقدان التركيز، والبحث المستمر عن التحفيز الخارجي".

اقرأ أيضاً: نحو 617 مليون طفل في العالم لا يعرفون القراءة والحساب

سأل أحد الأطفال حكيماً من حكماء الهنود الحمر: ماذا يوجد داخلنا؟ قال له يوجد ذئبان جائعان يتصارعان، أحدهما سيّئ والآخر جيد، فقال الطفل: ومن الذي سينتصر بينهما؟ قال العجوز: الذئب الذي تطعمه. قد تقابل هذه القصّة نوعي القراءة؛ (الميّتة، والحيّة)، القراءة التي تؤسس لإنسانيتنا وارتقائنا، والقراءة التي تدحضها وتؤبّد الوضعيّة المأزقية التي نعيشها، وقد يكون ما يحدث اليوم يعود إلى قراءتنا الخاطئة، والتي نعيد إنتاجها بغباءٍ تقنيّ متقدّم، فهل يُعقل أن نستثمر الإمكانات المدهشة للعقل في خلق عالمٍ نحلم بالفرار منه؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية