على ماذا يعتمد قياس وتقييم التديّن في الفضاء العام؟

على ماذا يعتمد قياس وتقييم التديّن في الفضاء العام؟

على ماذا يعتمد قياس وتقييم التديّن في الفضاء العام؟


02/11/2022

يشكّل الدين حضوراً متزايداً في الحياة العامة للأمم، على مختلف أديانها وحالتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى الدول العلمانية يتزايد فيها التأثير الديني على السياسة والسلوك الاجتماعي، وقد تكون بعض الدول، كما بعض الأديان أيضاً، قادرة على إدارة وتنظيم اجتماعي عقلاني للمجال العام من غير صراع أو تناقض ديني، لكنّ ذلك لا يعني غياب الدين والتأثير الديني؛ ففي الدول الأوروبية الكاثوليكية، على سبيل المثال، يبدو المجال العام خالياً من الدين، لكن ذلك مردّه إلى الاتجاه العميق والراسخ للعلمانية من غير عداء مع الدين وليس إلى غياب التدين، وفي الصين وإن كانت تتبع نظاماً علمانياً حازماً، فإنّ الكونفوشيوسية تملك تأثيراً عميقاً على القيم العامة والسلوك الفردي والجماعي للصينيين، وأما اليابان؛ فإنّها، كما يصفها فوكوياما، وكما هو معروف أيضاً، يغلب فيها الالتزام الديني والاجتماعي والتمسك بالثقافة والتقاليد الراسخة والقديمة في المجتمع الياباني. ورغم علمانية الدولة اليابانية والتقدم الاقتصادي فيها؛ فإنّ المؤسسات الدينية فيها تتلقى الدعم والتمويل من المجتمع والأفراد، كما تمتلك وتدير مؤسسات تعليمية واجتماعية كبرى.

يشكّل الدين حضوراً متزايداً في الحياة العامة للأمم على مختلف أديانها وحالتها الاقتصادية والاجتماعية

ويشهد العالم نمواً واسعاً للمؤسسات والقيم والمبادرات الثقافية والاجتماعية على نحو يشكل ظاهرة يمكن تسميتها "صعود الثقافة"، وهي ظاهرة يؤثر فيها عميقاً وبقوة مزيج المحركات الدينية والثقافية والعادات والتقاليد، لدرجة أنّ المفكر السياسي الأمريكي، صموئيل هتنغتون، أصدر كتابه المشهور "صدام الحضارات"؛ الذي يؤكد فيه أنّ الثقافات تدفع العالم إلى صراعات جديدة؛ لذلك فإنّ تجنّب الصراعات المدمّرة يعتمد على الاهتمام بالثقافة.
وقد يكون ذلك طبيعياً ومتوقعاً؛ بسبب تداعيات العولمة وصعود الهويات والصراعات وتغير الأعمال والموارد، ففي هذه الحالة الانتقالية والتحولات الكبرى، تتجه الأنظار اليوم إلى المجتمعات والأفراد من الشركات والجمعيات التطوعية والأسر والمؤسسات الدينية والثقافية، والإعلام، والتعليم، والتنشئة، لتكون شريكة أساسية وفاعلة في بناء القيم والمهارات الضرورية للعيش والحياة الأفضل والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، مثل: العدل، والتنوع، والتسامح، ومواجهة التحديات والأخطار، التي قد تلحق ضرراً بالمجتمعات والأفراد ومنظومة القيم التي تحميها، مثل: الكراهية، والتعصّب، والعنف، والعزلة، وضعف الانتماء والمشاركة، وفقدان الهوية والمعنى.

ويؤثر الدين، بما هو منظومة ثقافية بقوة وفاعلية في الاقتصاد وفي حياة الناس ومواردهم وأعمالهم، ولا يمكن عزل الاقتصاد عن القيم والأخلاق وتأثيرها على الأسواق والأعمال والسلع، كما أسلوب الحياة، وعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لنشاط اقتصادي أن يستغني عن قيم التعاون  والتكافل الاجتماعي، سواء كان هذا النشاط مؤسسة صغيرة أو مصنعاً ضخماً، ونحتاج جميعاً إلى الشعور بالرضا في أعمالنا وتواصلنا وعلاقاتنا في العمل والحياة، وهذا الرضا مستمدّ أساساً من الرغبة الإنسانية العميقة بالاعتراف وتحقيق الذات.

في الدول الأوروبية الكاثوليكية يبدو المجال العام خالياً من الدين لكن ذلك مردّه إلى الاتجاه العميق والراسخ للعلمانية

والإنسان في حاجته للعمل والمال لا يحتاجهما فقط لتحقيق حاجاته الأساسية من الغذاء والمأوى والكساء، لكن أيضاً من أجل هويته وكرامته ومكانته في المجتمع، هكذا فإنّ الاقتصاد يشكّل جزءاً أساسياً من الحياة الاجتماعية، ويتأثر تأثراً مباشراً بالقيم والمعايير والالتزامات الأخلاقية والعادات والتقاليد والأعراف التي تحدّد وجهة المجتمع وهويته، ومن ثم فلا يمكن تحقيق الازدهار والتقدم الاقتصادي من غير تقدم اجتماعي ثقافي.
يعدّ عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر (1864 – 1920)، من المنظّرين الروّاد للعلاقة بين الدين والتنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ويرى فيبر أنّ الثقة التي تشكّل عاملاً حاسماً في الحياة الاقتصادية قد انبثقت تاريخياً من العادات والتقاليد والأعراف الدينية، ولم تكن محصلة للحسابات العقلانية.

إنّ الناس جميعاً، على مختلف اتجاهاتهم وعلاقتهم بالدين، يعيشون حياتهم اليومية وفق جملة من العادات الثقافية التي لا علاقة لها بالعقلانية والمنطق؛ إذ لا يملك المرء الوقت ولا النية لاختيار بدائل عقلانية في جميع القرارات التي يتخذها في حياته، والواقع أنّنا لا نستطيع التصرف دون هذا التنظيم الاجتماعي والثقافي للسلوك والحياة.
يرى ماكس فيبر؛ أنّ البروتستانتيين الأوائل عملوا على تمجيد الربّ وحده، منكرين على البشر تكديس الممتلكات المادية بوصفها غاية في حدّ ذاتها، كما طوروا بعض الفضائل مثل؛ الأمانة والاستقامة والسعي لتحقيق الازدهار الاقتصادي، وهي قيم ساعدت، إلى حدّ بعيد، في تراكم رأس المال بعد ذلك، ونشوء الرأسمالية.

الناس، على مختلف اتجاهاتهم وعلاقتهم بالدين، يعيشون حياتهم اليومية وفق جملة من العادات الثقافية التي لا علاقة لها بالعقلانية

وفي تفسير الفرق بين الأنجلو سكسون والفرنسيين، على سبيل المثال، في العلاقة بين الأسواق والدولة؛ يردّها المفكر الأمريكي، فوكوياما، إلى الثقافة الدينية والاجتماعية؛ إذ يتميز الإنجليز والأمريكيون بالفردية والاستقلالية عن الدولة في حين يعتمد الفرنسيون على الدولة، وينظرون إليها كمصدر للتنظيم الاقتصادي والتمويل، لكنّ المدهش في اليابان، التي تشكل الدولة فيها نسبة قليلة جداً في الاقتصاد؛ أنّها تتميز بثقة عالية بين الدولة والأفراد والأسواق، فالشركات والمصالح والأعمال اليابانية، رغم استقلاليتها، تتصرف بولاء عميق للدولة، ويسلك الياباني في شركته أو مصلحته الخاصة، كما لو أنّه موظف عام أو يدير مصلحة حكومية، ومؤكد بالطبع أنّه سلوك اجتماعي اقتصادي مردّه إلى الثقافة والمعتقدات الدينية اليابانية.

يقول ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية": إنّ حركة الإصلاح الديني كانت شرطاً للثورة الصناعية، ويلاحظ فوكوياما أنّ نهايات النصف الثاني من القرن العشرين شهدت تحولاً كبيراً في الثقافة الكاثوليكية، فقد تصالحت مع الديمقراطية، وقامت أكثرية الديمقراطيات، في الفترة 1974 – 1989، في مجتمعات كاثوليكية، كما لعبت الكنيسة الكاثوليكية فيها دوراً رئيساً في النضال ضدّ الاستبداد، وشهدت عدة دول كاثوليكية، مثل؛ إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وتشيلي والأرجنتين، نمواً اقتصادياً أسرع من مثيلاتها البروتستانتية، مثل؛ بريطانيا والولايات المتحدة، وذلك في فترات مختلفة، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وعندما تصالحت الثقافات الكاثوليكية مع الديمقراطية والرأسمالية؛ ظهرت توجهات للتقارب بين الثقافة الكاثوليكية والبروتستانتية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية