عقدة إدوارد سعيد

عقدة إدوارد سعيد


31/08/2019

حينما برز المنظّر الأدبي والثقافي الراحل، إدوارد سعيد (١٩٣٥-٢٠٠٣)، في العالم الغربي، كانت "النظرية" تقريباً في مهد أفولها؛ بسبب تحولات براديغمية طالت بنى الثقافة في الميتربول، مترافقة مع تحولات رأسمالية جمّة، حوّلت العالم إلى سوق، والنظرية نفسها إلى سوق، خادمة السائد الرأسمالي في المؤسسة الجامعية.

اقرأ أيضاً: ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟
تنبّه سعيد، منذ البداية، إلى قوة النقد، كمفهوم علماني، يمكن الاتكاء عليه في وجه السلطة والنقاد الأرثوذكسيين وعبدة النظرية، محاولاً تفكيك المؤسسة التي تستند إليها النظرية، والمثقف الذي غدا "شغيلاً"، بتعبير حنة أرندت- لها، فسعيد، كما يقول جون بيلي: "قدم لنا ... لغة إنجليزية جديدة، استطاع من خلالها تقويض دعائم البنيوية بمفردات مناهضة".

تنبّه سعيد منذ البداية إلى قوة النقد كمفهوم علماني يمكن الاتكاء عليه في وجه السلطة والنقاد الأرثوذكسيين وعبدة النظرية

كان نجم سعيد البازغ، والذي أبان منذ أول إلماعة في كتابه الجامعي عن جوزيف كونراد، ثم كتابه المؤسّس "البدايات: القصد والمنهج"؛ أنّ لديه طاقة هائلة، أقول كان نجم سعيد محيراً، وهو، كجيل بأكمله من مثقفين عرب في العالم العربي أو المنفى، تأثر أيما تأثر بالهزيمة الكبرى، عام ١٩٦٧، أمام العدو الصهيوني، مما دفع سعيد (الذي غادر من "الشرق" بكثير من اللامبالاة) إلى إعادة رؤية العالم العربي، وأقطاب الصراع فيه، وطبيعته بين قوى محلية تحاول الفكاك من الاستعمار الأكبر في المنطقة وبين عالم متواطئ مع إسرائيل، ليس فقط بمدّ الأسلحة والمال والإعلام، بل وبالمثقفين (عرابي التواطؤ)، الذين شرعنوا لإسرائيل احتلالها وكولونياليتها، متقربين إلى صانعي السياسة في الغرب بمدهم بكليشيهات استشراقية عن الشرق والشرقيين، اللذين رأى سعيد أنّهما صنيعة الاستشراق، الذي مثّل أساساّ لمثل هذه الكليشيهات وأنظمة الخطاب والاستيهامات.

اقرأ أيضاً: في الذكرى الأربعين لصدور كتاب إدوارد سعيد .. الاستشراق قديماً وحديثاً

والحال؛ أنّ التدشين الأكثر أهمية لسعيد سيكون مع كتابه المهم "الاستشراق" (١٩٧٨)، والذي كتبه وهو في الثالثة والأربعين من عمره، وهو الكتاب الذي سيحدث أثراً لن يقف عند حدّ إثارة جدل حادٍّ، وصدور كتب ومقالات؛ بل سيؤسس سعيد بهذا الكتاب، بكل ما له وما عليه، حقلاً أكاديمياً مكرَّساً من أمريكا اللاتينية، وحتى أقسام تعتمد الكتاب في النظرية والتاريخ والنقد، وهو كتاب اعتنى في الجوهر بتفكيك الرؤى الاستشراقية عن الشرق والشرقيين، محاولاً تبيين كيف أنّ الاستشراق كخطاب، المدّ الفوكوي عند سعيد، هو غير منفصل عن سلطة، سواء سلطة خطابية تكرس أنماطاً وصوراً معينة لـ "آخري" الغرب، أو سلطة سياسية تستخدم هذا الخطاب في التعامل مع الشرق الأوسط، كما كان الحال مع برنارد لويس وفؤاد عجمي، وكثيرين من العرب والغربيين الذين يقدمون أنفسهم على الدوام للسلطات الأوروبية والأمريكية كـ "مخبِرين محليين" جيدين، يمكن للإمبريالية أن تثق بهم وتعتمد عليهم في فهم "طبيعة" وجوهر الشرق المستعصية، وكيفية ترويض بشر، مختلفين في الدين واللون والعرق، عنا.

اقرأ أيضاً: الجابري بين نقد الاستشراق واستهلاك أحكامه

إنّ مزية كتاب "الاستشراق" لسعيد: أنّه وضّح ليس فقط سياسات المعرفة الاستشراقية في إعادة تعريف الشرق والمسلمين خصوصاً، وتاريخهم وسحب أرشيفهم المحلي وإعادة تحقيقه لمعرفة تصوراتهم، إنما ما وضّحه الكتاب بالأساس؛ أنّ الاستشراق، في عمقه، كان محاولة لتخليص الغرب من "الأخلاق الشرقية"، التي صوّرها الغرب طوال الوقت على أنّها أخلاق رعوية واستبدادية وغير ليبرالية؛ بل ضدّ الليبرالية وغير حديثة.

عقدة سعيد المزدوجة
لكنّ ما يشغلني ههنا، ليست الاستفاضة في عمل سعيد النظري والسياسي، سواء في كتبه المهمة اللاحقة كـ "الثقافة والإمبريالية" وغيرها، إنّ ما يشغلني تحديداً؛ الاستقبال النقدي الذي حظي به سعيد في العالم العربي؛ سواء من كتّاب عرب في العالم العربي أو في الغرب، وكيف كان سعيد بمثابة تحدٍّ عميق، رغم أيّ نقدٍ مهمّ وجِّه له، وبالتالي مثل عقدة، هي عقدته، وعقدنا نحن معه.

سعيد قبل كلّ شيء هو مفكّر عاش بنمط المنتمي والمنفي هو الفلسطيني ولكن العالمي والكوني وهو صاحب هويات متعددة

سعيد، قبل كلّ شيء، هو مفكّر عاش بنمط المنتمي والمنفي، هو الفلسطيني ولكن العالمي والكوني، وهو صاحب هويات متعددة، وأتاحت له حياته بفضل وضعه الطبقي البرجوازي وذكائِه الأكاديمي؛ أن يختبر أنماط عيش وتجارب من الهوية، ربما لم تتح لأحد غيره من مجايليه، بالتالي؛ مثل سعيد عقدة، ليس التخلص منه فقط، بل وأيضاً في بعض الأحيان التماهي معه.
سعيد لم يعد اسماً ثقافياً، إنما دلالة على حضور معيّن لفلسطين، مترافقاً مع كونية اتسم بها، مع كونه مفتتحاً لحقل الدراسات ما بعد الكولونيالية الذي ما يزال واحداً من أهم الإنجازات المعرفية.

غير أنّ عقدة سعيد تمثّلت في كلّ مَن أتى بعده، وحاول التفكير في الاستشراق، سواء من اليمين الذي اتهمه بالإرهاب وحاصر محاضراته وكان سعيد يقاوم بأقصى ما لديه، أو من خلال الانتقادات الماركسية المهمة جداً، كتلك التي قدمها البروفيسور الهندي، إعجاز أحمد، في كتابه  شديد الأهمية "في النظرية: طبقات، أمم، آداب"، والذي كان بمثابة مرافعة ماركسية، محاججاً عليها بقوة، مثل وصفها طلال أسد في مقدمة ورقته بالإنجليزية (A Comment on Aijaz Ahmad's In Theory)، والتي ستصدر قريباً بترجمتي، أو من قبل نقاده في العالم العربي، مثل: صادق جلال العظم، ومهدي عامل، وأخيراً النقد الذي وجهه له وائل حلاق في كتابه "استئناف القول في الاستشراق"، والذي تُرجم عربياً بعنوان "قصور الاستشراق".

اقرأ أيضاً: جوانب جديدة تلامس أعمال إدوارد سعيد

غير أنّ النقد "العربي" لسعيد كان مرتكزاً على حجة واحدة، بداية من صادق جلال العظم وحتى جلبير الأشقر؛ هي أنّ سعيد يقوم بجوهرة الغرب مقابل جوهرة الاستشراق للشرق، وبالتالي فإنّه يقع فيما ينتقده، هناك نقد عربي آخر متعلق بموقف سعيد من ماركس، وموقف الأخير من الهند والاستعمار، وهو نقد يتشاركه الجميع، شرقاً وغرباً، ويحتاج إلى مقالة واسعة لاستعراض تطورات موقف ماركس نفسه، وعلى أيّ أساس بنى سعيد نظرته، الضيقة فعلاً، بل والاختزالية، لماركس، بيد أنّني أودّ التركيز على الشقّ الأوّل من الحجة، مختتماً بنقد النقد الذي قدمه وائل حلاق على عجالة، لأنّه يحتاج هو الآخر إلى مقالة منفردة.

استشراق العظم المقلوب

التهمة الملقاة على عواهنها دائماً ضدّ سعيد؛ هي تهمة أنّ سعيد يقوم، في عمله الاستشراق، بإضفاء صفات جوهرانية على الغرب، حتى يغدو وكأنّه متجانس وكلّاني، وكتلة صماء، هي تهمة تفتقد لأيّ أساس معقول من الصحة، وفق تحليلات سعيد، سواء في "الاستشراق"، أو في "الثقافة والإمبريالية"؛ فسعيد، الذي جابه نقاده الداخليين والخارجيين بكلّ صرامة، يوضح منذ بداية "الاستشراق"؛ أنّ الاستشراق هو عملية مزدوجة: بمعنى أنّ "شرقنة" الشرق وافتراضه كلاً ماهوياً جاهزاً، تحرّكه دوافع ورغبات، وتتحكم فيه إبستمولوجيات واحدة، كان الشقّ الأول من الاستشراق الذي لم يقم بشرقنة الشرق إلا بغربنته للغرب في اللحظة نفسها.

اقرأ أيضاً: العرب والاستشراق.. فصول من سوء الفهم والصّدام

أي إنّ الاستشراق، وهو يعرّف الشرق كآخر الغرب، المطلق والماهوي، كان في الوقت ذاته يعرّف الغرب ويحدده، ليس فقط إبستمولوجياً؛ بل جغرافياً، من خلال الاستيلاء على الموروث اليوناني وإعادة استيهامه واستدخاله في الغرب، ليكون هو هوية الغرب العلماني الفلسفي، مقابل الشرق الروحي والديني.

عقدة سعيد تمثّلت في كلّ مَن أتى بعده وحاول التفكير بالاستشراق سواء من اليمين الذي اتهمه بالإرهاب أو من خلال الانتقادات الماركسية

صحيح أنّ كلام صادق العظم، عن كون مقاربة سعيد نصانية (Textual)، مما يوحي أحياناً بأنّ ظاهرة الاستشراق، التي يربطها العظم بنشوء معين في أوروبا الحديثة، البرجوازية، عابرة في التاريخ، مأخذ صحيح على سعيد الذي، لمجيئه من حقل أدبي بالتحديد، قد تشعر لوهلة ما بصدق هذا التحليل، لكنّه ينتفي بالتأكيد في كتاب الثقافة والإمبريالية، الذي هو بمثابة استكمال أساسي ومهم جداً في تطور سعيد الفكري والإبداعي.

إلا أنّ كلام العظم، الخاطئ تماماً والمتحامِل على سعيد، عن "الاستشراق المعكوس"؛ إنما هو محض اتهام، وكان يمكن للمثقفين المناوئين لسعيد -من أمثال العظم- أن يأخذوا مناحي أخرى في فكر سعيد للنقد، بعيداً عن هذه النقطة تحديداً.

فالاستشراق المعكوس تحديداً؛ هو ما قام به كثير من المثقفين العرب عندما افترضوا الافتراضات الاستشراقية ذاتها عن ذواتهم وراحوا، مستغرقين بنزعات ثقافوية كان لمهدي عامل يد السبق في تبيان خطرها على الفكر العربي ومسيرة التقدم، لاعنين ذواتهم غير المتوافقة مع الحداثة الوافدة كولونيالياً، دون أيّ وعي مادي حقيقي بتطورات الواقع والفكر، وموقعهم كمثقفين منتمين.

اقرأ أيضاً: مراجعة الاستشراق أم نقض الغرب؟

والأسخف والأدهى من فكرة الاستشراق المعكوس؛ هي فكرة توفير سعيد لأرضية معينة للفكر الأصولي للاحتماء ضدّ الغرب، وهي فكرة لا تستحقّ الردّ عليها، كون من يدّعيها هو لا يعرف سعيد، ولا الأصولية، أصلاً، وهي تهمة جبانة آتية من مراوغة المثقف العربي من التعاطي مع الصراع في الواقع؛ حيث يقوم النقد على أسس ومصادر هذا الصراع، حيث يقوم بالعكس محاولاً إيجاد ما ليس بموجود عند سعيد، وتجريمه لأنّه ينقد الغرب بتوفير أرضية للأصولية.

حلاق وشبح سعيد الذي لا يزول

أما النقد الذي قدمه البروفيسور، وائل حلاق، عن سعيد؛ فرغم أنّه يستقي معظمه من سابقيه، إلا أنّه قائم على فكرة مركزية مفادها؛ أنّ سعيد أخطأ في فهم الخطاب الاستشراقي، ولم يخرج من "اللحظة الكولونيالية" التي خرج منها؛ إذ يرى حلاق أنّ الاستشراق هو انعكاس لبنية أعمق، هي بنية الحداثة نفسها؛ الأمر الذي لم يفهمه سعيد.

اقرأ أيضاً: إعادة النظر في الاستشراق

يحاول حلاق في كتابه أن يبدو "جذرياً" أكثر من سعيد، الذي عُدَّ كذلك من قبل كثيرين، محاولاً الاستعانة بتناقضات سعيد واعتماده على الإنسانوية كمشروع كوني في إظهار أنّ سعيداً لا يستطيع الإفلات مما ينقده، قد يصل الأمر في كتاب حلاق إلى مزاودة أخلاقية وسياسية فظيعة  باعتبار سعيد نفسه مستشرقاً، بما أنّ الحداثة، بما هي كذلك، هي البيئة التي أنشأت الفعل (الاستشراق) وردّ الفعل (نقد الاستشراق)، وبالتالي يكون حلاق قد أغلق الباب تماماً أمام أيّة مشروعية للذات في أخذها وردّها، كذات فاعلة (ولا أتحدث ههنا على الذات الليبرالية التي هي مستلبة كامل الاستلاب في مصيدة الاختيار والسوق).

اقرأ أيضاً: هل كان إدوارد سعيد محقّاً في هجومه على ياسر عرفات؟

تفضي بنا قراءة حلاق إلى جذرية بلا أيّ رجاء، جذرية سالبة لن تكرّس سوى لذات فارغة، حتى ولو حاول حلاق أن يعود إلى "مصادر نفس"، بتعبير تشارلز تايلر، أخلاقية عند الغزالي، محاولاً الخروج من أفق الراهن بكلّ ثقله، ومن ثمّ؛ ما يقدّمه حلاق في كتابه الأخير، رغم أيّة ملاحظات جيدة ومنهج شجاع، هو رومانسية دون أيّة قدرة على الحلم.

اقرأ أيضاً: برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

إنّ شبح سعيد لا يزول؛ لأنّه، من ناحية سياسية وعملية، كان قادراً على تخيّل عالم يمكن لإرث اللامساواة فيه أن ينقضي، كما تقول جوديث بتلر. ورغم أيّة إشكالات تكتنف طرح سعيد في "انقضاء" هذا الإرث الاستعماري والكولونيالي، إلا أنّه قدّم مخيالاً لمستقبل ما، بما أنّ الفلسفة والنظرية قادرتان على توفير المستقبل الذي لا يكون إلا عبر وسيط مخيالي بالأساس.
ومن ثم، تضعنا طروحات حلاق الأخيرة أمام محض صحراء، بلا أيّة قدرة على رؤية الوهم حتى، وهنا، رغم أيّ خلاف، تأتي أهمية سعيد من ناحية، وتبقى عقدته بالنسبة إلى نقّاده التي هي أشبه بعقدة، مهما حاولوا الإفلات منها، تكون كامنة أكثر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية