
حركة حماس، التي بدأت مقاومة إسلامية تسعى لتحرير فلسطين، لم تعد اليوم سوى شريك غير مباشر لليمين الإسرائيلي، في علاقة تخادم معقدة تداخلت فيها المصالح السياسية والانتخابية والأمنية، حتى وجدت نفسها في النهاية محاصرة داخل أفخاخ نصبها لها اليمين الإسرائيلي بذكاء. فبينما ترفع حماس شعار المقاومة المسلحة، وتدّعي أنها العدو الأول لإسرائيل، فإنها في الواقع باتت تخدم أهداف اليمين الإسرائيلي أكثر مما تضر بها، سواء عن قصد أو بدون وعي، عبر سياسات تصعيدية أو تهدئة محسوبة، تصب في مصلحة تل أبيب في اللحظة المناسبة.
لقد أدركت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وخاصة في عهد نتنياهو، أن استمرار وجود حماس في غزة يخدم مصالحها الاستراتيجية. فمنذ سيطرة الحركة على القطاع عام 2007 أصبح الانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية أداة مثالية لتبرير تعطيل أي مفاوضات سياسية أو حلول دبلوماسية. لا تحتاج إسرائيل إلى تقديم تنازلات للسلطة الفلسطينية أو الدخول في أي عملية سياسية ذات معنى، طالما أن الفلسطينيين أنفسهم منقسمون، وطالما أن حماس موجودة كذريعة دائمة لرفض أي مبادرات دولية. كلما طالب المجتمع الدولي بحل الدولتين، كان اليمين الإسرائيلي يرفع شعار: "لا يوجد شريك فلسطيني"، مستغلًا وجود كيان مستقل في غزة تسيطر عليه حماس، يرفض علنًا أي اتفاقات سلام أو اعتراف بإسرائيل.
إضافة إلى ذلك، كانت العمليات العسكرية والتصعيدات التي تخوضها حماس، رغم الدمار الذي تلحقه بإسرائيل أحيانًا، بمثابة هدية سياسية لليمين الإسرائيلي. فكل جولة تصعيدية بين حماس وإسرائيل كانت تُستخدم داخليًا في تل أبيب كحملة انتخابية لصالح المتشددين، الذين يروجون أنفسهم كحماة إسرائيل ضد "الإرهاب". في كل مرة تندلع مواجهة، يرتفع الدعم الشعبي لليمين، ويجد اليسار والمعتدلون أنفسهم في موقف دفاعي، حيث يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء وغير قادرين على التعامل مع "التهديد الحمساوي".
لكن الأخطر من ذلك هو أن إسرائيل لم تكتفِ باستغلال وجود حماس، بل عمدت إلى تكريس سلطتها في غزة بطرق خفية، منها السماح بتدفق أموال قطرية إلى القطاع، وغض الطرف عن بعض عمليات التهريب عبر الأنفاق، بل وحتى تسهيل بعض أشكال الحكم الحمساوي بشكل غير مباشر. الهدف لم يكن إنسانيًا أو اقتصاديًا، بل كان لضمان استمرار الانقسام الفلسطيني، ومنع أي وحدة بين الضفة وغزة قد تشكل تهديدًا استراتيجيًا لمشروع الدولة اليهودية. حماس، التي كانت تعتقد أنها تتلاعب بإسرائيل عبر الحصول على تمويلات خارجية وتحقيق تهدئات مؤقتة، وجدت نفسها في النهاية جزءًا من منظومة إسرائيلية تريدها أن تبقى، لكنها تريدها أن تبقى ضعيفة ومعزولة، لا أن تنتصر.
لقد وقع قادة حماس في فخ كبير، حيث ظنوا أن التصعيدات المتكررة، وإطلاق الصواريخ، وإدارة جولات المواجهة، ستفرض على إسرائيل التعامل معهم كندٍّ سياسي أو قوة لا يمكن تجاوزها. لكن في الواقع، إسرائيل لم تكن بحاجة إلى القضاء على حماس، لأنها كانت تعرف أن وجودها أكثر فائدة من غيابها. القضاء على حماس يعني تلقائيًا إعادة توحيد الضفة وغزة تحت قيادة السلطة الفلسطينية، وهذا آخر ما يريده اليمين الإسرائيلي، الذي يسعى إلى إبقاء الفلسطينيين منقسمين إلى كيانين منفصلين، بحيث لا يمكن لأحد أن يطالب بدولة فلسطينية موحدة.
أما على المستوى الدولي، فقد لعبت حماس الدور المثالي في تشويه صورة القضية الفلسطينية، وتحويلها من نضال سياسي وحقوقي إلى صراع "إرهابي"، كما يروج الإعلام الغربي. كل عملية عسكرية أو تفجير أو هجوم تنفذه حماس كان يُستخدم عالميًا كدليل على أن الفلسطينيين لا يريدون السلام، وأن إسرائيل مضطرة للدفاع عن نفسها. هذا التشويه لم يكن مجرد ضرر جانبي، بل كان هدفًا استراتيجيًا للسياسات الإسرائيلية، التي وجدت في حماس الذريعة المثالية لتبرير الاستيطان، والجدار العازل، وتهويد القدس، بل وحتى تقاربها مع بعض الدول العربية التي أصبحت ترى في حماس تهديدًا أكثر من إسرائيل نفسها.
ومع مرور الوقت، وجدت حماس نفسها في موقف لا تحسد عليه. فهي لا تستطيع الخروج من الفخ الإسرائيلي بسهولة، لأنها باتت تعتمد على البقاء في السلطة في غزة كشرط أساسي لاستمرار نفوذها. لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن تحقيق أي إنجاز حقيقي على المستوى الفلسطيني، لأن كل تحركاتها تخدم سياسات إسرائيل بشكل غير مباشر. حتى حين تحاول تحقيق "نصر عسكري"، يكون الثمن هو المزيد من الدمار والحصار والتضييق على سكان القطاع، مما يجعلها تخسر تأييد الشارع الفلسطيني تدريجيًا.
إن أعظم ما حققه اليمين الإسرائيلي لم يكن مجرد إضعاف حماس عسكريًا، بل جعْل الحركة نفسها جزءًا من منظومة تخدم مصالح إسرائيل أكثر مما تخدم الفلسطينيين. لقد تحولت من قوة مقاومة إلى أداة تُستخدم لتبرير الاحتلال، وتعزيز الانقسام، وإطالة أمد الصراع دون أي أفق للحل. كلما ظنت حماس أنها تضغط على إسرائيل، كانت في الواقع تُقدم لها خدمة استراتيجية دون أن تدري. والنتيجة أن الحركة أصبحت عالقة في حلقة مفرغة، حيث لا تستطيع التصعيد بلا ثمن باهظ، ولا تستطيع التهدئة دون أن تبدو وكأنها خضعت للمنظومة التي خلقتها إسرائيل للحفاظ على الوضع الراهن.
لقد سقطت حماس في فخ التخادم مع اليمين الإسرائيلي، حتى لو لم تكن تدرك ذلك منذ البداية. في النهاية، السؤال الكبير الذي يواجهها اليوم ليس كيف يمكنها الاستمرار في هذه اللعبة، بل كيف يمكنها الخروج منها دون أن تنهار تمامًا. لكن المشكلة أن إسرائيل لم تعد بحاجة إلى اتخاذ أي خطوة لتدمير حماس، لأنها تعرف أن الحركة تسير نحو ذلك بنفسها، عبر سياساتها المتخبطة، وافتقارها لرؤية استراتيجية حقيقية، وسقوطها المتكرر في المصائد التي نصبتها لها تل أبيب على مدى سنوات طويلة.
من صفحة الكاتب في تيلجرام