عاملات لا يصرخن عبر "هاشتاغات" .. نسويات بلا نسوية

عاملات لا يصرخن عبر "هاشتاغات" .. نسويات بلا نسوية


28/03/2019

في الأعوام الأخيرة الماضية، وإلى الآن، يشهد سوق العمل غير الرسمي تزايداً في أعداد النساء العاملات؛ إذ تفاوتت النسبة في مصر ما بين 70 إلى 80%، وفق الإحصائيات للعام 2016؛ نظراً إلى الأعباء الثقيلة التي وقعت على كاهل الأسر جراء برامج التكيف الهيكلي؛ إذ ارتفعت ضغوط الإنفاق المعيشي مقارنةً بتدني الأجور، وأحياناً كثيرة غياب مصادر الدخل، مما دفع بكثير من النساء إلى المجال العام بحثاً عن عمل خدمي أو تجاري، فيما تدير بعضهنّ مشروعات منتجة من منازلهن، مثل: الحياكة، وتربية الدواجن والحيوانات، وصناعة الحلوى والمخبوزات والألبان، وكذلك الأشغال اليدوية، مثل الكروشيه والجلود والحلي.

تضطر بعض النساء لارتفاع المصروفات الدراسية لإيقاف تعليم الأبناء عند مرحلة تعليمية معينة أو التضحية بتعليم الإناث لصالح الذكور

  
ليس هذا فحسب؛ بل نجد بعضهن يشاركن في إدارة ورشات اللحام والميكانيكا الخاصة بصيانة السيارات والمعدات الثقيلة، وورشات المصنوعات الخشبية، وذلك بدوافع عدة؛ منها توفير تكلفة العمالة المرتفعة، أو غياب العائل لأسباب مختلفة، أو الحافز الذاتي وامتلاك المهارة. كما يحدث في بعض القرى؛ إذ نجد فتيات يقدن جرارات الحرث الزراعية، وعادة كثيرات من الريفيات إلى الحقل يقفن جنباً إلى جنب مع الرجال.
  
يقتصر الحديث هنا على النساء العاملات، اللواتي يخرجن إلى مجال العمل التجاري، مثل: البائعات في الأسواق، والعاملات بالمشروعات المنزلية؛ وذلك لأنهنّ يواجهن العديد من المشكلات، تأتي على رأسها مسألة التمويل؛ حيث يبدأن مشاريعهن برأس مال متواضع، دون الحصول على قروض تمويلية، لأسباب تتعلق بتعقيد إجراءات وشروط الاقتراض، عدا عن ضآلة المبالغ المخصصة مقارنةَ بنسب الضرائب والفائدة المرتفعة، غير أنهن في أحوال كثيرة يجهلن كيفية الحصول على تلك القروض، أما الوسائل، فغالباً ما تكون وسائل الإنتاج بدائية (بعض الريفيات، وفي ظل ارتفاع أسعار الوقود، قد عُدن إلى استخدام الأفران البلدية المُصّنعة من الطين).

اقرأ أيضاً: المرأة والحداثة: سقوط وهم الأمومة المثالية

كما تفتقد أغلب النساء العاملات، الحماية التأمينية التي تقيهن من الانقلابات الطارئة، وترعى مشروعاتهن، إذا مررن بضائقة مالية، أو وعكة صحية، على سبيل المثال. كما تنعدم ضمانات حماية البائعات الجائلات بالأسواق العمومية، في حال تعرضن لمضايقات وابتزازت، أو سوء الطقس، أو الحريق وغيره، وما قد يؤدي إلى إتلاف بضائعهن، وتكاتل الديون عليهنّ، سيما إذا كنّ يتعاملن بالسداد لآجله.

اقرأ أيضاً: لطيفة الزيات.. الباب المفتوح دائماً للبحث عن الذات الحرة

تساهم النساء العاملات في إعالة الأسرة وتحسين مستوى المعيشة الاقتصادي، وفي أحيان كثيرة قد تكون المرأة هي المعيل الوحيد لأسرتها، في حال كان الزوج مريضاً وعاجزاً عن العمل، أو يعمل دون انتظام، والأبناء صغار غير مؤهلين للاندراج في سوق العمل، أو ما يزالون في سلك التعليم، مما ينذر بتحملها مزيداً من الأعباء، سواء الخاصة بالرعاية أو العمل المنزلي المعيشي، إلى جانب العمل الربحي.

تفتقر معظم النساء العاملات إلى التدريب المهني والخبرات الكافية بما لا يسمح بتطوير مهاراتهن وتنويع مصادر دخلهن

وفي بعض الأحيان، قد تضطر الأم لاصطحاب أطفالها معها إلى السوق أو الحقل، مما يتسبب بتعرضهم بنسب أكبر للعدوى الفيروسية أو البكتيرية من بيئة العمل غير الصحية، أو سوء التغذية؛ لأنها تلجأ إلى إطعامهم مما هو متوافر لديها، ولا يناسب تكوينهم الجسماني الطفولي.

وفي أحوال أخرى، قد تضطر الأم إلى الاستعانة بأطفالها في العمل، حال تجاوزوا سنّ السادسة مثلاً، وربما أقل، خاصةً فترة الإجازات المدرسية.

يحيلنا الحديث عن الإعالة المؤنثة، إلى مشكلة التسرب من التعليم، والتي قد تنتج جراء اضطرار بعض النساء، بسبب ارتفاع المصروفات الدراسية المتصاعدة، لإيقاف تعليم الأبناء عند مرحلة تعليمية معينة، أو التضحية بتعليم الإناث لصالح الذكور في هذه المرحلة، فضلاً عن حرمان الأبناء، سيما الإناث، من الالتحاق بالكليات العملية التي تتطلب تكلفة مالية ومظهراً اجتماعياً ليس بوسعهن توفيره.
اقرأ أيضاً: الثقافة الشعبية بين السخط والامتداح.. من يملأ فراغ الهدم؟

ارتباطاً بهذه الحال، قد يُحرم الأبناء من توظيف مهاراتهم وذكائهم في اكتساب فرصة تعليم أو وظيفة أرقى يستحقونها، وفي ظلّ استمرار الأفكار الاجتماعية التقليدية التي تؤصل بنفعية، لمنطق الفتاة "مصيرها البيت والزواج"، فلا لزوم للتعليم، مما يؤثر على معدلات زواج القاصرات، بما يبقيها في تزايد مستمر، على الرغم مما يلحق بهذه المسألة من أعباء أخرى.
ففي زواج الفتيات، وخضوعاً للتقاليد الاجتماعية والرغبات الاستهلاكية، يتطلب أمر تجهيزهن، توفير رأس مال كبير، قد تلجأ معه النساء المعيلات إلى الشراء بالأجل، وفي حال عدم السداد لظروف مختلفة، يتعرضن للسجن سداداً للغرامات المستحقة.

من الجدير بالذكر؛ أنّ العاملات بالمشروعات الإنتاجية المنزلية، غالباً ما يكن أكثر استقلالية وأكبر دخلاً، مقارنة بالعاملات بالتجارة أو الخدمة، ومن الضروري أن ننوه إلى افتقاد معظم هؤلاء النساء العاملات إلى التدريب المهني والخبرات الكافية ومحدودية الثقافة، بما لا يسمح بتطوير مهاراتهن، وتنويع مصادر دخلهن، ومعرفة آليات التسويق الناجعة، والوعي بقضاياهنّ حال تعرضن لانتهاك جسدي أو ابتزاز، سيما أنّ نسبة لا يُستهان بها منهنّ أميات، معظمهن الريفيات، وقاطنات المناطق العشوائية وأطراف الحضر.

اقرأ أيضاً: الظهور العلنيّ للنساء.. جدل الحداثة والطبقة والتحرش!

بمعنى آخر؛ هذا التوازن أو التفاوض، غالباً ما يكون عملية تبادل اجتماعي نفعي؛ أي إنهنّ يمتثلن للمعايير المجتمعية والتقليد، ويحافظن على صورة الرجل النمطية؛ الرجل "القوي، الحارس، الوصي"؛  لأنه بتلك الصورة يوفر لهنّ الحماية في مجتمع أعرافه السارية تمثل قوة فوق القانون؛ لذلك، في حال غياب الزوج لأسباب عدة، يعوضن وجوده بالأب أو الأخ، وتحرص هؤلاء النساء على تربية أبنائهن الذكور على الخشونة وشدة المراس والسيطرة، وألا يخضع لكلمة امرأة، للسبب نفسه؛ كي يكون حامياً لها ولأخواته، وبالتالي إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، وفق منطقهنّ التفاوضي، وليس مجرد "مساهمة في تأبيد أو زيادة رأس المال الرمزي الممسوك من الرجال" في المجتمعات الأبوية، كما يرى "بيير بورديو" وغيره.

اقرأ أيضاً: مفهوم الله في وعي الطفل من واقع الموروث الشعبي

هذا غير أنّ الامتثال، أو بمعنى أدق، الالتزام بالاتفاق الضمني للمجتمع "العرف"، سيما فيما يخص مظاهر الاحتشام، وعدم الاختلاط بالرجال، باستثناء حدود ضرورة العمل، يسمح لهنّ بحرية الحركة وممارسة أعمالهنّ، والحظي بالقبول والاحترام، مما يعمق الإحساس بالانتماء والأمان، وتقوية الاندماج في الروابط الاجتماعية التي تمنحها قيم التكافل والتضامن حال الاحتياج، إلا أنّ كل هذا المنطق التفاوضي يبقى مقيداً بعدة اشتراطات، تتفاوت بحسب التوزيع الجغرافي وطبيعة العرف الساري، مثلاً: غالباً ما يكون العرف الاجتماعي قوة أكثر إلزاماً في الجنوب مقارنةَ بالشمال، وعليه تتباين الصورة النمطية للمرأة وتتحدد مكانتها، وعلاقة ذلك بقياس درجة الانعزال أو الاندماج بالمجتمع المحيط، وأيضاً الحالة الاجتماعية؛ كونها متزوجة أم عازبة أم مطلقة، ...إلخ.

لن تستجيب النساء العاملات لذلك الخطاب التثويري ضدّ الأعراف والهيمنة الذكورية وخلافه لأن من شأنه الإضرار بمعادلة تفاوضهن

نفهم من ذلك، أنّ الخطاب النسوي الراديكالي يجب عليه إدراك تلك المعادلة وتفاوتات النسق الاجتماعي؛ لأنّ هؤلاء النساء لن يستجبن لذلك الخطاب التثويري ضدّ الأعراف والهيمنة الذكورية وخلافه؛ لأن من شأنه الإضرار بمعادلة تفاوضهن، ومن ثمّ تعرضهن لمزيد من الضغوط والعوائق والتحديات، فمن المنطقي، بحسب منظورهن رفضه، بل ومحاربته، إذا لزم الأمر.

إنّ الإرغام على اتباع مسار فعل اجتماعي معين، وجعله شرطاً ومعياراً للتحقق الذاتي أو التحرر، لن يفيد، بقدر الانتباه إلى دراسة الإمكانات التي يمكن من خلالها صنع معنى بديل نابع من الذات، ولا يعني ذلك رفض النسوية الردايكالية التي ترمي إلى أبعد ما يتطلبه الواقع المعيش، كنمط مثال يُقاس عليه الحد الأدنى من الحقوق، لكن مراعاة الفروقات، والاشتغال على ما هو متعين واقعياً يظلّ ذا أهمية قصوى، حتى يتسنى إجراء عملية تفاوض مجتمعي من القاعدة.

اقرأ أيضاً: حجاب المرأة بين سلطة التدين ووصاية العلمانية

هؤلاء النساء أكثر ما يحتجن إليه؛ هو توفير وتفعيل شبكات الأمان الاجتماعي، وتيسير الحصول على الضمانات المالية والتأمينات الصحية، ومساعدتهن في تنمية مهاراتهن في الريف وأطراف الحضر، وحماية أبنائهن؛ بتوفير دور رعاية ومؤسسات تربوية تتناسب مع دخولهن، كما يحتجن إلى أصوات تدعمهنّ بحيث يصبحن واعيات بذاتهن لذات قضاياهن، ومن ثمّ تغيير أنماط السلوك والتفكير والصور النمطية، هؤلاء النساء لا يصرخن، وأغلبهن -سيما الأمّيات- لا يمتلكن وسائل تواصل اجتماعي، كي يكتبن مظالمهنّ على "هاشتاغات"، وليس بمقدورهن عمل حملات تعاطف، ولا يُصرحن بكونهن ضحايا لأحد؛ بل يعملن بكدّ، ويفاوضن مجتمعاتهن بمثابرة وجلد، بكل ما لديهنّ من طاقة ومرونة واعتداد بالنفس، هنّ نسويات بلا نسوية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية