طوني في صبرا وشاتيلا: قتلت كثيرين في الحرب

طوني في صبرا وشاتيلا: قتلت كثيرين في الحرب


25/09/2021

ترجمة: يوسف الريماوي

كان طوني في السّابعة عشرة عام 1976، عندما انضمّ للقتال في الحرب الأهليّة اللّبنانيّة تحت لواء الكتائب، وعام 1986، التقيت به ضمن سلسلة مقابلات أجريتها لأطروحة الدكتوراه، وبقينا على اتصال منذئذ؛ أي أنّ لقاءنا الأوّل كان قد مضى على حمله السّلاح عشرة أعوام، وبدا حينها كمقاتل حقيقيّ، وسبقته إليّ سمعته كمحارب شرس.

اقرأ أيضاً: ناجون من صبرا وشاتيلا: بقروا بطن الحامل بالسكاكين ووضعوا الجنين على يدها

عُرف عنه أيضاً أنّه متقلّب و"مجنون"؛ لهذا كان رفاقه في الوحدة يخافونه أكثر مما يهابه أعداؤه، بعد ثلاثة أعوام من لقائي به، ألمّ بطوني مرض شديد وفقد إثره الكثير من وزنه، وما إن تعافى حتّى كانت الحرب قد وضعت أوزارها.

عام 1991، بدأ الشّلل يزحف إلى يده اليمنى وما إن حلّ عام 1992 حتى امتدّ إلى الذّراع حتى الكتف، لم تعط الفحوص والتحاليل الطبّيّة إجابة عن سبب ذلك، ولم يجد الأطبّاء صلة لذلك بمرضه الذي عانى منه قبل عامين، فأحيل إلى طبيب نفسيّ ثمّ إلى استشاريّ نفسيّ. في النّهاية خلُص الجميع إلى اعتبار أنّ ما حلّ به هو من التّبعات النفسيّة غير المعروفة للحرب.

 انضمّ للقتال في الحرب الأهليّة اللّبنانيّة

"أخبروني أنّ هذا ما فعلته الحرب بي"، قال لي طوني، التقيت به عام 1995 وكانت ذراعه قد ضمرت بشكل ملحوظ، وعندما رآني قال: "شوف! إيدي عم تهتري"، وهكذا ظلّ يكرّر الجملة، مشيراً إلى أنّ عضلات يده وذراعه آخذة في الاختفاء، لم أره حينها لأدوّن ملاحظات بل لأطمئنّ على صحّته، إلّا أن تكراره لهذه الجملة ظلّ عالقاً في ذهني.

سمعت، عام 1996، أنّه استعاد شيئاً من الحركة في يده، التقينا بعدها بعام في بيروت، وكان قد استعاد الحركة في أصابع يده بشكل شبه كامل، لكنّ ذراعه بدت جلداً على عظم. 

كان طوني في السّابعة عشرة عام 1976، عندما انضمّ للقتال في الحرب الأهليّة اللّبنانيّة تحت لواء الكتائب. عُرف عنه أيضاً أنّه متقلّب و"مجنون"؛ لهذا كان رفاقه يخافونه

عام 1999، حصل ما لم يكن في الحسبان، كنت في زيارة للبنان ودعوت طوني مع مجموعة من رفاق السّلاح في وحدته إلى العشاء في مطعم صغير، وفي تلك اللّيلة، أخذني طوني جانباً، وقال: أريد أن أقول لك شيئاً أعرف أنّه يهمّك سماعه"، توقّفَ للحظات ثم قال:

"أنا أعرف ما الذي حلّ بذراعي، كلّ هؤلاء الأطبّاء الذين تحدّثوا عن الآثار النّفسيّة للحرب، كلّهم يعرفون أشياء ويجهلون أخرى، عموماً هذه ليست غلطتهم، فأنا الذي لم أخبرهم بما حصل، ما حدث كان شيئا جنونيّاً.

عندما بدأ الشَّعر بالظّهور على وجه بشير (ابنه الذي أسماه تيمّنا بالرّئيس اللبنانيّ بشير الجميل)، كان ينتابني شعور في غاية الغرابة في كلّ مرّة أنظر فيها إليه؛ فقد كانت صورة ذلك الولد الفلسطينيّ الذي قتلته في المخيّم تلمع في ذهني، وكان عنده شعر الوجه نفسه تماماً. 

اقرأ أيضاً: دعوى الجاهلية والحرب الأهلية

عندما دخلت بيت الولد في المخيّم، كان هو وامرأة يختبئان مرتعبَين وراء أريكة، أظنّ أنّ المرأة كانت أمّه، وعندما أدركت المرأة أنّني رأيتها هجمت عليّ بسكّين فأطلقت عليها النار وأرديتها قتيلة، فإذا بالولد ينقضّ عليّ وهو يصرخ وعيناه يملؤهما الغضب، ثم عضّني في ذراعي الأيمن كالكلب المسعور، فصوّبت سلاحي إلى رأسه وقتلته.

طوني: لقد قتلت كثيرين في الحرب، وبعضهم من مسافة قريبة، لكنّ ذلك الولد الفلسطينيّ كان مختلفاً، لا تسلني عن السبب، لكنّ شَعر وجهه بقي عالقاً في ذاكرتي

لقد قتلت كثيرين في الحرب، وبعضهم من مسافة قريبة، لكنّ ذلك الولد الفلسطينيّ كان مختلفاً، لا تسلني عن السبب، لكنّ شَعر وجهه بقي عالقاً في ذاكرتي، لقد ظلّ معي منذ أن قتلته؛ لذلك عندما بدأ الشّعر بالنّموّ على وجه ابني بشير بعد ذلك بسنوات، كنت أتذكر الولد دون أن أستطيع أن أنفض صورة وجه الولد عن وجه ابني، لقد كانت وطأة هذه الذّكرى قويّة عليّ، لدرجة أنّ الكوابيس ظلّت تحاصرني دوماً. 

أسوأ ما في الأمر أنّني لم أعد أقوى حتّى على لمس بشير؛ ففي كلّ مرة كنت أحاول احتضانه لم أكن أرى سوى شعر وجهه، في تلك اللحظة، بدأ الشّلل يضرب يدي.

وجدت نفسي من جهة في مواجهة آثار ذلك عليّ، ومن جهة أخرى في مواجهة شعور بشير بالإحباط، بعد أن بدأ يلاحظ نفوري تجاهه، لقد بدأ كلّ شيء حولي بالانهيار.

لا أدري.. ربّما لو انتصرنا لما انتابني هذا الشّعور، لكنّنا لم نربح الحرب".

مصدر الترجمة:

 الفصل التاسع من كتاب "تعفُّن"، المقرر صدوره في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، عن دار جامعة "دوك" للنشر في نيويورك، للكاتب وعالم الأنثروبولوجيا المرموق في جامعة ملبورن: البروفيسور غسّان الحاجّ. 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية