مختارات حفريات
تدريس التراث ومواجهة التطرف ... أي سبيل؟
في حوار شيق أجري مع الفيلسوف الفرنسي المعروف جاك دريدا بشأن رأيه فيما يجري في التعليم الأمريكي والمجال العام، من مطالبات تنادي بضرورة تطهير المناهج الدراسية – وبالتحديد مناهج تدريس الأدب الأمريكي- مما يشوبها من تمييز ضد السود والنساء، كان الهدف هو مواجهة التمييز بكل أنواعه، وكان هذا ضمن أجندة المنظمات الأهلية الأمريكية لمواجهة التعصب. عملت هذه المنظمات للضغط على الجامعات الأمريكية والأكاديميين ليقوموا بتطهير المناهج. وقتها وصف دريدا هذا الاتجاه بنزعة التطهير. وبطبيعة الحال يعتبر توصيف دريدا هذا هو نوع من مقاومة هذا النوع من التوجهات، وتعبير عن فلسفته التي تتخذ موقفا بينيا، ما بين تبجيل واحترام التراث، وبين إعادة قراءته وتأويله. فاحترام التراث تتطلب إدراك أنه استجابة تاريخية، استجابة ينبغي تفهمها في سياقها الثقافي والمعرفي الخاص. ولقد ربط دريدا هذه النزعة التطهرية بنزعات أخرى شبيهة، منها على سبيل المثال محاولة منع الأساتذة من إغلاق حجرات الدرس إذا كانوا منفردين بطالباتهم، حفاظا على الطالبات من التحرش الجنسي. هل يصح أن يصح أن نصف هذه السياسات بصفات أخلاقية من قبيل الجبن والخوف. فهل من الحكمة حذف نصوص بعينها تحت دعوى الحماية، فيما قد يطلع الطالب على المصدر الأصلي فيكتشف المأساة، أن النظام التعليمي قد نقل له صورة غير دقيقة عن التراث.
أي تنوير ونحن نطبق مع طلابنا سياسة الإغفال. والتعمية والتجهيل والإخفاء. أي تنوير هذا في التعامل مع التراث بالقطعة والانتقاء
إننا في تاريخنا المعاصر نواجه هذه الآلية في التدريس، وخاصة في التعليم الجامعي. فمن الوقائع الشهيرة والمعروفة أن أحد أساتذة الأدب الجاهلي بكلية دار العلوم كان يدرس لطلابه معلقة امرؤ القيس وقد حذف منها كل المفردات الدالة على أجزاء الجسد الجنسية، فبدت المعلقة جسدا مخلوع الأعضاء. ولا يقتصر الأمر في الحقيقة على المناهج التعليمية المقدمة لشباب الجامعة، بل والآلية موجودة في التعليم الثانوي، حيث تم تغطية الأعضاء الجنسية في لوحات عصر النهضة المعروضة، أو تغطيتها في قاموس لونجمان للغة الإنجليزية، فيما لم يكن هذا معمولا به في الماضي. والسؤال ما الدواعي العلمية التي دفعت واضعي المناهج للقيام بذلك.
الآلية ذاتها اتبعها أنصار النهضة والإصلاح، فقد تم تعليم النصوص في المستوى الأولي قبل الجامعي، بعد القيام بتهذيبها وصقلها وحذف كل ما يعتبر خادشا للحياء. قد تكون هذه الطريقة صالحة في التدريس في المرحلة الابتدائية، لأن الهدف الرئيسي من التعليم في هذه المرحلة هو هدف أخلاقي وقيمي، وبالتالي، عندما ينضج الطفل، ويصل إلى المرحلة الثانوية، ينقله التعليم من مرحلة التعليم مصحوبا بالترقي الأخلاقي إلى مرحلة التعلم والمعرفة والتدقيق فيما يحصل عليه من معارف، مرحلة الابتكار والإبداع، والتفكير الخلاق، والتعرف على الآخر، والسعي نحو فهمه .
الغريب في الأمر أن المنادين بالتنقية والحذف لا ينتمون فحسب إلى المؤيدين للمحافظة الاجتماعية والاستبداد وحكم الفرد المستبد، بل ونجد مثقفين محسوبين على المعارضة ممن يرفعون مطالب الحرية والتنوير، فأي تنوير ونحن نطبق مع طلابنا سياسة الإغفال. والتعمية والتجهيل والإخفاء. أي تنوير هذا في التعامل مع التراث بالقطعة والانتقاء، دون احترام لخصوصيته، دون تبجيل وتقدير لحدوده وإمكاناته وقدراته، فهل نريد تراثا على مقاسنا، تراث يلبي ما نريده نحن، هل نريد تحريفه وتغيير مساره ليكون مقنعا لنا، هل نريد أن نضع رؤوسنا في الرمال، ألا نريد أن نواجه الحقائق العارية كما هي. أليس في تغييرنا وحذفنا للمحتوى اعتداء على التراث، ممارسة للعنف، ألا نتوقع أن هذا العنف قد يواجه هو الآخر بعنف مضاد في المستقبل. ماذا عن ثقة أبنائنا في نظامنا التعليمي، هل نريد أن نهدم هذه الثقة مستقبلا.
لقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تتبع ذات الطريقة في التعامل مع تراثنا الشعبي. لعلنا نتذكر جيدا ما قامت به الجماعة من تصيد للأفلام والكتابات الإبداعية والفنية، ومعركة نوابها في البرلمان ضد نشر كتاب ألف ليلة وليلة، لاحتوائه على ألفاظ غير محتشمة وخادشة للحياء ومخالفة للأخلاق العامة وشرع الله.
لقد حاول نقادنا المعاصرون الدفاع كل بطريقته عن سياسة الإتاحة. السياسة التي ترمي إلى إتاحة التراث دون تجريح أو حذف، وضربت أمثلة كثيرة، تبين لنا احترام القدماء للنصوص محل الجدل. مع أن الأمر لا يحتاج لكل هذا الحجاج، فلو أن القدماء ضد هذه النصوص لخلوها من الأخلاق فكيف استمرت حتى الآن.
جماعة الإخوان المسلمين تتصيد تصيداً للأفلام والكتابات الإبداعية والفنية
وبعد كل حادث إرهابي، تخرج أصوات عديدة، بعضها كما قلت من التنويريين ودعاة الحرية يطالبون بتنقية التراث، ويكيلون الاتهامات إلى مناهج التدريس بالأزهر. وخرجت تحقيقات قام بها بعض الصحافيين للتنديد بمناهج الأزهر الداعمة للفتنة والتطرف. منها مثلا ما نشرته جريدة الحياة اللندنية من أن الأزهر يقرر كتابا تحت عنوان "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، على الصف الثالث الثانوي، ثم يدرج بعض المقتطفات من نصوص الكتاب ليدلل بها على ما به تصورات مخالفة للنسق القيمي والأخلاقي الرشيد، من قبيل أحقية أن يقوم الجائع المضطر بقتل المرتد وأكله ...إلخ". الأمر ذاته قام به أحد الكتاب بجريدة الوفد حين قام بنشر مقال تحت عنوان "بالكتاب ورقم الصفحة ... التحريض ضد المسيحيين في مناهج الأزهر". ويضرب المؤلف مثلا يؤكد به على خداع الأزهر. ففي الوقت الذي قال به قيادات الأزهر بقيامهم بتنقية المناهج الأزهرية من دعوات التطرف ضد الأقباط، بينما في الواقع لا تزال بعض المقررات تحتوى على ما يسميه المؤلف الكريم بـ"دروس تدعو للكراهية"، وضرب مثلا بكتاب "الاختيار لتعليم المختار"، وكتاب "الإقناع" المشار إليه سلفا، حتى في نسخته الميسرة، التي حملت عنوان "تيسير الإقناع". ثم يورد مقتطفات دالة بالفعل على ما يدعيه، منها هذا المقتطف الهام : "وتعطي الجزية من الكتابي على وصف الذل والصغار، ويقولون له: اعط الجزية يا عدو الله، وليس هذا فقط، بل يكون المسلم الجابي جالسا، والذمي واقفا، ويأخذ بتلابيبه، ويهزه هزا، ويقول: اعط الجزية يا عدو الله".
ومن جهتها، قامت مؤسسة الأزهر، بإصدار بيان عبر هيئة كبار العلماء، في الثامن عشر من إبريل 2017، ونص البيان على أن "مناهج التعليم في الأزهر الشريف في القديم والحديث هي وحدها الكفيلة بتعليم الفكر الإسلامي الصحيح الذي ينشر السلام والاستقرار بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغيرهم، تشهد على ذلك الملايين التي تخرجت في الأزهر من مصر والعالم". ثم يؤكد البيان لمن يصفهم بأعداء الأزهر وأعداء الإسلام بأن "مناهج الأزهر اليوم هي نفسها مناهج الأمس التي خرجت رواد النهضة المصرية ونهضة العالم الإسلامي بدءا من حسن العطار ومرورا بمحمد عبده والمراغي والشعرواي والغزالي، ووصولا إلى رجال الأزهر الشرفاء الأوفياء لدينهم وعلمهم وأزهرهم، والقائمين على رسالته في هذا الزمان.". والواقع أن هذا البيان الذي خرج من مؤسسة الأزهر لا ينفي حقيقة ضرورة إجراء إصلاح في النظام التعليمي الأزهري. فهناك خلاف داخل المؤسسة الأزهرية بين دعاة الإصلاح ودعاة المحافظة حول المناهج ونظام التعليم، وبين الدولة والمؤسسة، والمثقفين والأزهر، لكي تقوم المؤسسة العريقة بتجديد خطابها وتطويعه لخدمة القيم الحديثة التي أصبحت مشتركة عالميا، كقيم المواطنة والتسامح والديموقراطية والحرية والعدل وغيرها.
والواقع إن خطاب التنقية والحذف والتنقيح هو نتاج طبيعي لهذا المناخ العدائي، المناخ القائم على اتهامات العداء والتخوين والمؤامرة، وغيرها من الاصطلاحات الحربية التي لا تغني ولا تسمن. هذه الاتهامات العنيفة لا تتردد على ألسنة الإعلاميين وحسب، بل هي سياق كامل، حتى أن مؤسسة الأزهر العريقة ترفعه وسيلة للدفاع عن نفسها. فقد ذهب الشيخ الكريم الدكتور أحمد الطيب إلى أن هناك حملة ممنهجة تشن على الأزهر ويقف من ورائها طائفتان، طائفة الإعلاميين وصناع الإعلام الذين يقومون بذلك لجذب المشاهد ولكثرة الإعلانات، والثانية فهي طائفة ممولة تتصيد وتفتعل الصراعات بين الثوابت الفكرية والعقائدية للمجتمعات مع الحضار المادية الجديدة؛ لتنفيذ مخططات مدروسة لهدم كل ما هو أصيل في هذه الأمة.
بعد كل حادث إرهابي، تخرج أصوات عديدة، بعضها من التنويريين ودعاة الحرية يطالبون بتنقية التراث
إن الخطاب العدائي العنيف الذي تمارسه النخبة المثقفة، الخطاب الداعي للحذف الممنهج وتقطيع أوصال التراث، تحت دعاوى أخلاقية نبيلة، لا يقف في حدود تأثيره عند هذه النخبة المؤثرة، بل يمتد إلى الطلاب أنفسهم. حيث قامت مجموعة من الطلاب بكليات العلوم الشرعية بالأزهر بتكوين فرقة رفعت شعار التوحد من أجل الدفاع عن الأزهر. حيث نجد أحد المشرفين على هذا التجمع الطلابي يقول في تصريح له لموقع البوابة نيوز التالي: " إن الهجوم على الأزهر متعمد ومخطط له من الخارج، فهو جزء من المخطط الوهابي، الإخواني، العلماني، الإلحادي، والغربي". وهكذا فكل هؤلاء متآمرون على الأزهر ويريدون إسقاطه. وفي خضم هذا الرد ترد حجة لها وجاهتها، إذ كيف يمكن للطالب أن يكون فقيها عالما وهو يجهل ما ورد في الفقه في قديمه وحديثه، كيف يمكن له أن يمارس الإصلاح، وقد تعلم دروسه بعد تنقيح قد جرى عليها.
وفي المجمل يمكن القول بأن مواجهة الإرهاب، تتطلب منا إجراء إصلاحات في النظام التعليمي ككل، إصلاح يصنعه أبناؤه، ويعتمد على قيم الحرية والنقاش العقلاني، وليس آليات التدخل القسري، والحذف الممنهج. فإذا كنا نعتقد أن تنقية التراث هي الحل، فإننا نغفل حقوقا أخرى ينبغي علينا السعي لحمايتها، أولها حقوق المؤلفين، التي مهما مر الزمن عليها، فلا ينبغي نسبها لغيرهم، أو التدخل بالحذف تحت أي دعوى كانت، باستثناء التبسيط والتوجيه الأخلاقي للصغار من غير الراشدين. وثاني هذه الحقوق حماية حق المعرفة والتعلم، فأن نعلم طلابنا أن الحذف ورفع المفردات الخادشة للحياء هو الحل، هو في الحقيقة، إخفاء للرأس في الرمال، مثلما هو الحال في تدريسنا للتاريخ الحديث والقديم. وثالث الحقوق هو حماية حق التأويل والنقد، وهو حق أصيل للإصلاح.
لا شك أننا في حاجة لإجراءات حقيقية نحمي بها طلابنا. لا شك أننا لو قمنا بتنقية المناهج كما يرى دعاة التطهير ، لن نستطيع في الحقيقة مواجهة التطرف كما يتصور البعض. الحل هو مواجهة هذه الخطابات المتعصبة والمتطرفة بتفسيرات جديدة، ما يدرس من تفسيرات هو الأجدى في التعامل مع التراث. من الممكن أن نقوم بالتنقية، ثم يأتي أحد المعلمين ويقوم داخل محاضراته، أو فصول الدراسة بتوجيه طلابه للنص الأصلي، وتأويله على النحو الذي لا نريده كمجتمع يواجه التطرف، ما الضمانة هنا؟، كيف نستطيع أن نواجه التفسيرات المضادة، هل نتخلص من النصوص الأصلية ذاتها، هذا أمر مستحيل، هل نراقب معلمينا، هنا نصل إلى قمة العبث. الحل في إجراءات تغير النظام التعليمي، بحيث يحمي هذا النظام التراث من عمليات التوجيه التربوي المتطرف، وحمايته في الآن ذاته من محاولات التشويه والاقتطاع، وحماية حق الطالب في النقد، فنقد التراث ضرورة للنهضة. النظام التعليمي التلقيني، هو الذي يمكن أن يؤسس للتطرف.
هناك دور للرقابة الشعبية يجب أن نحترمه. فلا ينبغي تخوين وسائل الإعلام إذا قامت بدورها الرقابي، دون العمل على الإثارة أو الانحياز للسلطة القائمة، ولا ينبغي تخوين مؤسساتنا المدنية الأهلية، التي تراقب ممارسات مؤسساتنا التعليمية، ولا أن نكيل الاتهامات لمؤسساتنا البحثية التي قد تحاول تقييم أثر المناهج التعليمية على النسق القيمي للطلاب، وفهم هل قامت مؤسساتنا التعليمية بحق بتغيير وعينا على النحو المأمول.
د. محمود عبد الله
عن المركز العربي للبحوث والدراسات "www.acrseg.org"