قيّض لي قبل أعوام، أن أدير محاضرة عن الحداثة وما بعد الحداثة، في مؤسسة ثقافية عربية مرموقة، فتمنيت لو أنني أجلس على مقاعد المستمعين كي أوبِّخ المحاضر الذي خلط الحابل بالنابل، رغم كل الشهادات التي يحملها، ورغم كل الضجيج الذي يحيط باسمه. وأذكر أنني همست لنفسي حينئذ قائلاً: إذا كان هذا حال من يعدّون أنفسهم منظّرين فما حال غيرهم من المثقفين المغامرين؟!
الحداثة كلٌّ لا يتجزّأ؛ أساسها النّسق أو النظام، وسنامها العقل، وقلبها النقد، وروحها الحرية
والحداثة – لمن لا يعلم- كلٌّ لا يتجزّأ؛ أساسها النّسق أو النظام، وسنامها العقل، وقلبها النقد، وروحها الحرية. وقد تلتها ما بعد الحداثة التي قوامها – لمن لا يعلم أيضاً- تحطيم النسق، واللاعقلانية، والتفكيك، وتقويض اليقين، ونقض الجدوى! وبهذا المعنى فإنّ كلا من: طه حسين وأحمد أمين والعقاد وشوقي ضيف ومحمود أمين العالم وحسين مروة وإحسان عباس وعائشة عبد الرحمن وسهير القلماوي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان وجابر عصفور، حداثيون خلّص، رغم التباين في منطلقاتهم المنهجية وحقول تخصّصاتهم، فما يجمعهم هو الحرص الشديد على اطّراد الانسجام الداخلي والمنطق العقلاني النقدي وتقديس حرية الذات والآخر في حالي الموافقة أو المخالفة.
اقرأ أيضاً: الأدب العربي المغدور
لقد جرت كثير من المياه تحت جسر التاريخ العربي، قبل أن يبزغ عصر وسائل التواصل الاجتماعي الذي أطلع جيلاً من المدوّنين الذين يروق لهم أن يوصفوا بالحداثيين تارة وبالليبراليين تارة أخرى، وما هم من هؤلاء ولا أولئك؛ لأن منطوق خطابهم ومضمونه، يؤكّدان أنهم ما بعد حداثيين، بل يؤكّدان أنهم ما بعد ما بعد حداثيين، بدليل ضيقهم الشديد بأي شكل من أشكال النسق أو النظام، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وبدليل نزعاتهم الذاتية الفوضوية اللاعقلانية، وبدليل شغفهم بالتفاصيل والهوامش على حساب البنية الكليّة، وبدليل اتجاههم لإفراغ أي يقين، دينياً كان أم سياسياً أم فكرياً، من مضمونه، بالسخرية والتسخيف تارة أو بتقمّص دور الضحية تارة أخرى، وبدليل عبثيتهم وعدميتهم وسلبيتهم التي تحيل الحياة إلى نكتة سمجة.
أفرزت وسائل التواصل الاجتماعي جيلاً من المدوّنين الذين يروق لهم أن يوصفوا بالحداثيين تارة وبالليبراليين تارة أخرى
ما يعنينا من أمر هؤلاء المدوّنين الذين يحظون بأعداد ملحوظة من المتابعين والمعجبين والأنصار، جهلهم بحقيقة أنهم ليسوا حداثيين من جهة، وأنهم يسيئون بأفعالهم وأقوالهم للحداثة التي لم يقيِّض لها حتى الآن، أي فرصة للاكتمال عربياً، جرّاء الفهم أو التطبيق المنقوص لها، فهي كما أسلفنا، كلٌّ لا يتجزّأ، وإن نقص شرط النسق اختلّت، وإن نقص شرط العقلانية ترنّحت، وإن نقص شرط النقد اختنقت، وإن نقص شرط الحرية لفظت أنفاسها!
اقرأ أيضاً: الجمهور بوصفه ألدّ خصوم المفكِّر!
كما يعنينا من أمر متابعي هؤلاء المدوِّنين أنهم يعتقدون بأنّ نجومهم هم الحداثيون أو الليبراليون فعلاً، ويحملون كل ما يقوله هؤلاء الأدعياء على محمل الجد، فينزعون مثلهم إلى الفوضوية والتبشير باللاجدوى. ومع أنّ الموضوعية التامة تتطلّب منا الإقرار بأنّ بعض المدوِّنين وبعض متابعيهم قرّاء متحمسون، بل إن بعض المدوِّنين قد نجحوا في إصدار كتب أو مجلاّت متحمّسة أيضاً، إلا أنّ غالبيتهم تجهل حقيقة أنّ الثقافة الشفوية تمثل أحد أبرز ملامح ما بعد الحداثة، التي تميل إلى السماع والنقل الاعتباطي دون تمحيص أو توسّع، كما تميل إلى كل ما هو شعبوي حتى صارت الشعبوية ميسماً من مياسمها البارزة. ولعل هذا الملمح يفسِّر انكباب المشاهدين العرب منذ سنوات، على المسلسلات المدبلجة التي تعفيهم من عَنَت قراءة ترجمات المسلسلات الأجنبية، كما يفسّر الاتجاه المتزايد لدى المدوِّنين أنفسهم إلى الاعتماد على التسجيلات المرئية الصوتية، بدلاً من الاعتماد على النصوص المكتوبة.
ما يعنينا من أمر هؤلاء المدوّنين أنّهم يسيئون للحداثة التي لم يقيِّض لها حتى الآن أي فرصة للاكتمال عربياً
وقد يعنّ لبعض القرّاء المصادرة على مطلوب هذه المقالة بالقول: وهل يستحق هؤلاء المدوّنون – ما دام أنّ حالهم هو كما وصفت- كل هذا الاحتشاد؟ ويؤسفني القطع بأنّ هذه المصادرة وأمثالها تؤكّد أنّ كثيراً منا لم يع حتى الآن، حقيقة أنّ هؤلاء المدوِّنين صاروا يمثلون المتن الفاعل في الوعي العربي الراهن، وأنّ الحداثيين الحقيقيين غدوا هامشاً يصارع من أجل البقاء. ولست بحاجة لأن أضيف – حتى لا أُتهم بالاستعراض المعلوماتي- فأقول: إن غير قليل من مفكري الغرب، ما كان لهم أن يبلغوا ما بلغوا، لو لم يتفرّغوا لرصد وتحليل مضمون وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها النسخة الجديدة والفاعلة من الثقافة الرخوة التي تتسايل في كل الاتجاهات، وتُحدث كل ما تُحدث، بدءاً بـ(زيجمونت باومان) مروراً بـ(ويل ستور) و(سيفا فيديا ناثان) وليس انتهاء بـ(إيلزا كودار). مع ضرورة التذكير بأنّ هؤلاء المنظّرين الأوروبيين يعاينون ويشخصون وهم في حال استرخاء تام، نظراً لأن حضارتهم استقرّت منذ عقود على حال الحداثة الصلبة التي يصعب زعزعتها، حتى في ظل العديد من تقليعات ما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة، فيما لا يزال الوطن العربي يراوح مكانه منذ القرن التاسع عشر؛ إذ لا يكاد يخطو خطوة نحو الحداثة حتى تداهمه بعض الأعاصير الداخلية أو الخارجية، فتعيده مجدّداً إلى طور ما قبل الحداثة.
اقرأ أيضاً: الليبراليون العرب على المحك!
وأحسب أننا قد نستشعر شيئاً من خطورة ما يحدث في الوطن العربي الذي ما زال يعاني فجوة رقمية تقدّر بخمسمئة عام، إذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد لما صرّح به الكاتب والفيلسوف الإيطالي الأشهر أمبرتو إيكو قبل أن يرحل: (إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك، تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلّمون في الحانات فقط، بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل... إنه غزو البلهاء)!