صبرا وشاتيلا في ذكراها الأربعين: فوضى الجثث في متاهة المجزرة

صبرا وشاتيلا في ذكراها الأربعين: فوضى الجثث في متاهة المجزرة

صبرا وشاتيلا في ذكراها الأربعين: فوضى الجثث في متاهة المجزرة


كاتب ومترجم جزائري
21/09/2022

ترجمة: مدني قصري

"أربع ساعات في شاتيلا/ Quatre heures à Chatila"؛ النصّ الذي كتبه جان جينيه، الذي رأى مخيم شاتيلا في 19 أيلول (سبتمبر) 1982، بعد مذبحة سكانه. هذا النصّ، غير المصنّف، الذي نُشر للمرة الأولى، في كانون الثاني (يناير) 1983، ليس شهادة أو تقريراً، مع ذلك يبقى بعد أربعين عاماً تكريماً أدبياً لنضال الفلسطينيين.

شتاء 1983. صدرت "أربع ساعات في شاتيلا" (Quatre heures à Chatila) في العدد 6 من "مجلة الدراسات الفلسطينية" (Revue d’études palestinees) المرموقة، ثم أعادت دار "Gallimard" نشرها في عام 1991.

عندما وصل جينيه إلى بيروت، في 12 أيلول (سبتمبر) 1982، بصحبة ليلى شهيد، وافق المقاتلون الفلسطينيون الذين لجؤوا إلى الأحياء الغربية من بيروت على مغادرة البلاد، وبعد يومين، في 14 أيلول (سبتمبر)، وقع الرئيس اللبناني الجديد، بشير الجميل، زعيم اليمين المسيحي، ضحية هجوم مميت في مقرّ حزبه، وفي فجر 15 أيلول (سبتمبر)؛ دخل الجيش الإسرائيلي العاصمة، وعند المساء حاصر المخيّمَي الفلسطينيين "صبرا وشاتيلا" في الضاحية المجاورة.

في 16 أيلول (سبتمبر) دخلت عناصر مسلحة بأزياء مختلف الميليشيات المسيحية اللبنانية إلى المخيمات، بموافقة القوات الإسرائيلية، لتنفيذ "تطهير إرهابيين". بفعل تأثرهم بوفاة "زعيمهم" بشير الجميل أقبلوا على تنفيذ مجزرة لمدة يومين وثلاث ليالٍ لم ترحم حتى الأطفال ولا النساء ولا كبار السن، ومن دون تدخّل جنود الاحتلال المتمركزين عند المداخل، الذين كانوا يراقبون المعسكرات من أعلى بنايتهم دون إطلاق أيّ إنذار. لم يتم تحديد عدد الضحايا مطلقاً، لكنّه يتراوح بين 1500  و5000 شخص.

 الرئيس اللبناني السابق بشير الجميل، زعيم اليمين المسيحي

في 19 أيلول (سبتمبر)؛ تمكّن جينيه بصحبة ليلى شهيد واثنين من المصوّرين الأمريكيين من دخول مخيم شاتيلا، متظاهراً بصفة صحفي، كانت جرافات الجيش اللبناني تقوم على عجل بحفر مقابر جماعية، لكنّ الجثث لم تكن قد دفنت بعد. وحده، لمدة أربع ساعات، تحت أشعة الشمس الحارقة، سار جينيه في الأزقة. وقد كتب: "لقد مررت فوق الموتى كما يجتاز المرء الصدوع"، وعند عودته إلى الشقة التي يقيم فيها أقفل على نفسه في غرفته لمدة أربع وعشرين ساعة، ثم في 22 أيلول (سبتمبر) استقلّ الطائرة مرة أخرى نحو باريس، وهناك كتب خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقالة، التي نشرت في 1  كانون الثاني (يناير) 1983 في "مجلة الدراسات الفلسطينية".

شاعرية العمل

غالباً ما يتم اختزال هذا النصّ المشهور في أنّه غير قابل للتصنيف وفق ظروف صياغته، أو أنه يُقرأ كمقدمة لنصّ "أسير عاشق" ( Un captif amoureux)؛ الذي كتِب بعد عام. يقترح جيروم هانكينز، مؤلّف كتاب جينيت في شاتيلا أن نرى فيه قبل كلّ شيء مكان وحي وحفلاً دينياً كاثوليكياً، احتفالاً باختطاف مريم العذراء وصعودها إلى الجنة.

فخلال الساعات الأربع التي قضاها في مسرح المجزرة في المتاهة التي رسمتها فوضى الجثث وجد الراوي خيطاً يرشده للخروج من الصحراء العمياء التي استنفِدت فيها رغبته في كتابة "في شاتيلا نُسِجت فجأة مراحلُ حياة متعاقبة.

مقال بقلم رونين بيرغمان، نُشر في 22 حزيران (يونيو) 2022، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، أكد التنسيق الوثيق للغاية بين الإسرائيليين والكتائب بهدف التخلص من الفلسطينيين

فهذا الذي لم ينشر أيّ شيء منذ كتابه "ستائر" (Les Paravents)، عام 1961، استأنف مشروعه الكتابي بهدف النشر فألّف "أسير عاشق" الذي صدر بعد شهر من وفاته (عام 1986).

في الواقع يربط جينيه تحليلاً سياسياً بمقاربة أدبية تحاول تفسير المشهد الرهيب الذي كان هو من أوائل الأوروبيين الذين اكتشفوه، مع إبراز استعارة ثورية تمّ تصوّرها كشاعرية للحدث. والنتيجة نص في أجزاء، مجموعة أدبية عالية التحليق "تتماسك" كما لو كانت بفعل معجزة.

"الأموات كثر"

يخصّص النصّ المقسَّم إلى ستة أجزاء جزأين فقط للمشهد الرهيب، ولا يبدأ بوصفه، لكن بإشارة أولى إلى إقامة جان جينيه التي استمرت ستة أشهر مع أولئك الذين يسميهم دائماً "الفدائيين" في جبال جرش وعجلون في الأردن، بين تشرين الأول (أكتوبر)  1970  ونيسان (أبريل) 1971.

جان جينيه

الجو العام ولون السماء، والأرض والأشجار، والسير فوق الغبار، وبريق العيون، وشفافية العلاقات ليس فقط بين الفدائيين، لكن بينهم وبين الرؤساء، كانوا جميعهم تحت الأشجار، يرتجفون ويضحكون، منبهرين بحياة جديدة جداً للجميع، وفي هذه الارتجافات كان هناك شيء ثابت بشكل غريب، مترصداً مترقباً، محمياً ومتحفظاً، صامتاً مثل شخص يصلّي دون أن ينبس ببنت شفة، كلّ شيء كان للجميع.

ففي تلك اللحظات، كما كتب، عرف الثورة الفلسطينية "قوة سعادة الوجود هذه" المرادفة للجمال، جمال المقاتلين العمودي وخفتهم العجيبة. ثم تمر عشر سنوات. "وفجأة بيروت الغربية" وأكوام من الجثث.

كانت حركة المرور في شاتيلا وصبرا بمثابة لعبة قفز؛ طفلٌ ميت يمكن أن يسدّ الأزقة أحياناً، فهي ضيقة جداً وشبه نحيفة والأموات كثيرون

من جدار إلى جدار أزقة أرجُلٌ مقوّسة أو منطوية تدفع أحد الجدران والرأس متكئة على الآخر، كانت الجثث سوداء ومتورمة، كان عليّ أن أتخطاها جميعاً، الفلسطينية واللبنانية، بالنسبة إليّ، وبالنسبة إلى السكان الذين ظلوا أحياء، كانت حركة المرور في شاتيلا وصبرا بمثابة لعبة قفز؛ طفلٌ ميت يمكن أن يسدّ الأزقة أحياناً، فهي ضيقة جداً وشبه نحيفة والأموات كثيرون.

لن تتكلم جثث الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا بعد الآن. سيذهب المؤلف بعيداً جداً في وصف تحلل جثثهم، ولن يكشفوا شيئاً غير هذا الحشو الجاف: هذه الجثث جثث، ومن عرفها بأنفسهم لا يريدون أن يقولوا أيّ شيء عنها:

"هل كنت تعرفه؟".

- نعم.

"هل رأيته يموت؟".

- نعم.

- من قتله؟

- لا أعرف.

لا كلام، و لن يخصّهم أحد بأيّ تكريم، سيتم دفنهم على عجل في مقابر جماعية حفرتها الجرافات الإسرائيلية في اليوم نفسه، بينما يخشى حفّار المقبرة التي دمرتها قنبلة من انتشار العظام القديمة، وربما تكون "أربع ساعات في شاتيلا" هي خطبة الجنازة الوحيدة، وربما كان جينيه على علم بها عندما كتب مقالته.

أنت لم ترَ أيّ شيء في شاتيلا

"لم ترَ أيّ شيء في هيروشيما. لا شيء.

- لقد رأيت كلّ شيء. كلّ شيء.

يذكر جينيه عدة أوامر "بالنظر" من قبل أولئك الذين كانوا يرشدونه في المعسكر، يسأله ضابط في الجيش اللبناني وهو يفحص جواز سفره مرة أخرى:

"هل أنت من هناك؟" (أشار بأصبعه إلى شاتيلا).

- نعم.

- ورأيت؟

- نعم.

"هل ستكتبه؟"

- نعم.

كان الطلب الفلسطيني مُلِحّاً، كما يتذكر جينيه لاحقاً في مقابلة مع روديجر ويشينبارت وليلى شهيد: "بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، في أيلول (سبتمبر) 1982، طلب مني بعض الفلسطينيين تدوين ذكرياتي أثناء إقامتي في فيينا، والتقيتُ فلسطينيين آخرين كانوا يأملون في هذا المنشور".

- قل بالضبط ما رأيته، وما سمعته.

لكنّ "الرؤية" وحدها لا تؤدي أبداً إلى "المعرفة"، أقرب إلى حوار مارغريت دوراس في "هيروشيما حبيبتي"، يتحدث جينيه عن "رؤية الأصل الخفية" وأسباب الحقائق وتنفيذها: "لم أرَ هذا الجيش الإسرائيلي سمعاً ورؤية، رأيت ماذا فعل"،" وكيف كان الجلاد يتصرف؟ من كان هذا الجلاد؟ إني أراه ولا أراه".

القضاء على الفلسطينيين

بالنسبة للشخص الذي يسلط الضوء في نصّه على جملة منسوبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، أمام البرلمان الإسرائيلي: "في شاتيلا، في صبرا، ذبح أشخاص غير يهود أشخاصاً غير يهود، ففيما يعنينا هذا؟ المسؤولية الإسرائيلية في إعدام الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا على يد الكتائب اللبنانية، إذا لم يتمّ تحديدها بدقة فهي تُطرح أصلاً على أنّها بديهية، الاتهام يمرّ من خلال الأقوال المصرَّح بها، ولا سيما تلك التي نطق بها شخص باسم "هـ H":

🎞

هو،  نتّهم إسرائيل بارتكاب مجزرتي شاتيلا وصبرا، لا تضعوا هذه الجرائم على ظهر أعوانهم وحدهم، أي الكتائب. إسرائيل مذنبة بإدخالها إلى المخيمات فرقتَين من الكتائب، وإعطائهما الأوامر، وتشجيعهما لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، وإحضار الطعام والشراب لهما، وبإضاءة المعسكرات ليلاً.

عندما صدر كتاب "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" كانت لجنة كهانا، التي تم تشكيلها في أيلول (سبتمبر) 1982، للتحقيق في المجازر، قد قدمت تقريرها بالفعل: وخلصت إلى أنّ الإسرائيليين لم يكونوا مسؤولين بشكل مباشر، ومع ذلك تم الكشف عن المصادر التي رُفعت السرية عنها لهذا التقرير والموساد من خلال مقال بقلم رونين بيرغمان، نُشر في 22 حزيران (يونيو) 2022، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، والذي يؤكد التنسيق الوثيق للغاية بين الإسرائيليين والكتائب بهدف التخلص من الفلسطينيين، وهذا أيضاً ما أظهره سيث أنزيسكا، الباحث الأمريكي من أصل يهودي، في كتابه  Preventing Palestine "منعُ فلسطين"، بفضل الإبداع الأدبي تمكّن جينيه من تخويل نفسه أربعين عاماً من السبق حول هذه الاعترافات.

الشاعر، الذي قال إنّه يشعر الآن بأنّه صار فلسطينياً للمرة الأولى ويكره إسرائيل، يختتم مقالته بشيء يتردّد صداه كوعود وتهديد: "فدائيون آخرون سوف يموتون .. أي أنّهم سيستمرون في الوجود".

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.inf

https://orientxxi.info/lu-vu-entendu/sabra-et-chatila-genet-enjambait-les-morts-comme-on-franchit-des-gouffres,5863



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية