لأن حياتها كانت تجربةً نوعية فريدة، من خلال الاشتغال بأنثروبولوجيا الإسلام، والعلاقة بين الدين والعلمانية، والمرأة والإنسان والدين، فقد شكل رحيل صبا محمود في 10 آذار (مارس) 2018 عن عمر لم يتجاوز 56 عاماً، ثغرة يصعب تعويضها في هذه المجالات التي تشكو أصلاً فقراً في المتخصصين فيها، لكن الموت، لم يمنع من استمرار نقاش الأفكار الغنية والجريئة التي نهضت بها.
استنطاق الليبرالية
تنحدر هذه الأمريكية السمراء من أصولٍ باكستانية، وهي أستاذة في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، تحمل درجة الأستاذية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، وتتخصص فعلياً في مجالات الجندرية والعلمانية، والدين والأخلاقيات. وحصلت على ماجستير في العلوم السياسية، والهندسة المعمارية.
تركزت أبحاث واهتمامات صبا محمود، المولودة في باكستان العام 1962، على التشكلات السياسية للدين والعلمانية في المجتمعات ما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمارية)، مع اهتمامٍ خاص بالتركيبة السياسية للدول التي تضم هذه المجتمعات، والعلاقات بين القوانين فيها، وبين الجندر (الجنس)، والثقافة، والدين.
تعد تجربتها بارزةً في استنطاق الليبرالية حول الحدود بين الدين والحرية والقمع والسياسة
وتعد التجربة الأبرز، في اشتغالاتها الفكرية، هي تلك المتعلقة بنقد واستنطاق الليبرالية، من خلال أسئلتها المطروحة حول الحدود التي تفترضها الليبرالية في العلاقة بين الأخلاق والسياسة، الحرية والقمع، والدين والعلمانية أو الدنيوية. وكانت أعمالها في الآونة الاخيرة، تركزت حول البقاء في ظل العنف السياسي، وحول العلاقات السنية الشيعية في الشرق الأوسط.
الاختلاف من خلال الأنثروبولوجيا
وبشأن اختيارها حقل الأنثروبولوجيا بالتحديد، صرحت في حوار مع صحيفة "الشرق الأوسط" نشر بتاريخ 20 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2016 "الأنثروبولوجيا مكنتني من متابعة مسألة الاختلاف بطريقة جدية. كان الهدف التقليدي للأنثروبولوجيا الاجتماعية/الثقافية، دراسة الآخر البدائي من أجل تأكيد خصوصية القيم الثقافية والاجتماعية الغربية". وهنا تشير محمود، إلى أنّ متابعة مسألة الاختلاف من خلال الأنثروبولوجيا، يمكن لها أن تأخذ منحى أكثر موضوعية، في حال لم تهدف إلى تعزيز مركزية قيمٍ ضد أخرى.
انخرطت صبا محمود في النضال ضد سياسة الولايات المتحدة الخارجية في أمريكا الوسطى والشرق الأوسط
وتضيف، خلال حوار مترجم معها على موقع "حكمة"، بتاريخ 14 آذار (مارس) 2016، "كنت مهندسة معمارية لأربع سنوات، كنت منخرطةً في النضال ضد سياسة الولايات المتحدة الخارجية في أمريكا الوسطى والشرق الأوسط في ذلك الوقت، وأدركت عندما اندلعت حرب الخليج الأولى بأنَّ هناك العديد من الأسئلة الملحة التي ساهمت الحرب في جلبها إلى الواجهة، والتي أنا نفسي لم أجد لها إجابة، أسئلة تتعلق بالمشهد السياسي والاجتماعي المتحول في العالم الإسلامي".
وتؤكد محمود، من خلال حوارها هذا، ومن خلال مقالاتٍ عديدة لها، مدى قربها واطلاعها على الواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، وجديتها في دراسة ظواهر كالحركات الإسلامية، والانزياحات الكبيرة التي ترتبت على "الربيع العربي"، وهي رأت أن "الحركات الإسلامية وظيفية واختزالية إلى حدٍ كبير"؛ أي إنّها "كانت بديلاً لما هو أهم وأكثر جوهرية؛ الفشل الاقتصادي والافتقار إلى الديمقراطية وغيرها".
بين الإسلاموية و العلمانوية
لكن ما يميز تجربة صبا محمود، التي تأثرت بأستاذها، الباحث المعروف في الأنثروبولوجيا والدين والثقافة طلال أسد، هو رؤيتها بأنّ لكل من "الإسلاموية" و "العلمانوية" مشاكلهما الخاصة، ذلك أنّ التجربة العلمانية اليوم، أسست لليبرالية السياسية التي لها دورها في إدارة الاختلاف؛ الطائفي، والديني، والاجتماعي، ولا بد لها أن تتولّى قدراً من المسؤولية عما تؤول إليه الأحوال من سوء، وأن تتقبل النقد، مقابل الإسلاموية التي لا تخلو مشاريعها من نتائج كارثية هي الأخرى.
اختارت الأنثروبولوجيا بصفتها حقلاً مثالياً لدراسة الاختلاف والعلاقة بين العلمانية والدين والمجتمع
ويأتي كتابها البارز "الاختلاف الديني في عصرٍ علماني"، ليخوض في هذا السياق، مركزاً على دور كل من العلمانية والدين، في التعامل مع التعددية والاختلاف الديني، وتنوع أساليب تعاملهما مع العنف واللامساواة. وكانت محمود، درست التجارب الاجتماعية والسياسية خلال "الربيع العربي"، متخذة من مصر حقلاً لدراستها.
ولها مؤلفات أخرى لا تقل أهمية، مثل كتابها "سياسة التقوى"، الذي تشير من خلاله تقريباً، إلى صعوبة جعل مفهوم الحرية، موحَّداً على صعيد العالم. كما ترصد الحركة النسوية، وتحاول التنبيه إلى فكرة "إعادة إنتاج تبعية المرأة" وأدواتها، وفي ممكنات إعادة النظر في المطالبات النسوية من أجل حرية المرأة. وإذا ما كانت تحتاج إلى نقاش.
وبصورةٍ عامة، لم تتقبل صبا محمود أي نموذجٍ قائم، من نماذج العلمانية والدين، وتفاعلاتهما في السلطة والمجتمع، على أنّ أياً منهما، هو مشروعٌ ناجز أو أكثر تفوقاً، وهذا تصور جريء، مكّنها من مراجعة بعض المنجزات الفكرية والسياسية الإنسانية، المحمولة على أنّها فتوحاتٌ بشرية عظيمة، حتى أنّها توجهت لنقاش التوجه النسوي بصورةٍ نقدية، والمطالبة بإجراء مراجعاتٍ بشأنه.
تركزت آخر أعمالها حول البقاء في ظل العنف السياسي والعلاقات السنية الشيعية في الشرق الأوسط
ولعلّ هناك من رأى في تجربة صبا محمود، التي رحلت بعد صراعٍ مع سرطان البنكرياس ملامح "رجعية" بفعل عدم مهادنتها مع الليبرالية، لكن طبيعة منجزاتها ومؤلفاتها، لا تسير بهذا الاتجاه الأحادي، ولا بد أنّ نقد الذات، ومحاولة محبتها، وإصلاحها، لا يُنقص أبداً، من حق الإنسان في قراءة الذات الأخرى، سواء اعتبرها مغايرة، أو شريكة، أو جزءاً من تكوينه ووعيه، وهي محاولةً جديرة، أدتها الراحلة بنجاح، تاركةً خلفها إرثاً قابلاً للنقاش المعرفي المفتوح.