كما ذكرنا من قبل، في مقال عن التراث؛ إنّ الإنسان لا يمكنه أن يقف على النهر مرتين، فالفتوى اليوم، والرأي الديني، لا يمكنهما أن يقفا على نهر الحياة المتسارع مرتين، مهما بدا عليهما من شكلانية معاصرة وعموميات حائرة، مثل: الإسلام دين التقدم، الإسلام لا يعادي التحضّر؛ إذ ينفجر الخلاف والتصادم مع الحياة بمجرد أن نقارب هذه العموميات مع الواقع، ليتضح لنا البون الشاسع بيننا وبينها، فيترجم حاملوها عدم إمكانية تفاعلها، وقلة حيلتها، بقلة إيمان الناس، فتقلّ سلطتها، وتقلّ سلطة حامليها من شيوخ ووعّاظ ورجال دين، فيكون اللجوء إلى التكفير والسبّ والشتم ونظرية المؤامرة.
عدّ الشيوخ أنّ ما قيل في تلك الحلقة من حديث حول حقوق المرأة مؤامرة ضدّ الإسلام، وضدّ السودان
خلال رحلة برنامج "شباب توك" في العالم العربي؛ ساقت الأقدار فريق البرنامج إلى بلد مهجور منذ زمن، يسمّى السودان، تمّ إفقاره من أدنى درجات التمدن، فما يزال الإنسان فيه يسأل عن لبسه ومدى توافقه مع الدين والعادات والتقاليد، والمرأة فيه تصبح فاجرة لمجرد سؤالها عن حقوقها، والشاب فيه يعدّ مارقاً صعلوكاً لمجرّد شكل شعر رأسه. خلال هذا الواقع؛ كان على القناة الألمانية أن تصوّر حلقة عن وضع المرأة في هذا البلد، بعنوان "ماذا تريد المرأة السودانية؟"، وكان الحديث عن زواج القاصرات، والختان، وسلطة النظام العام على أخلاق الناس ونواياهم، ولمّا كانت الحلقة شكلاً من أشكال الصدمة القاسية على المجتمع، وسلطة كلمة الشيوخ فيه؛ ظهر مدى تأخرنا عن العالم، ذلك العالم القريب؛ أي البلدان القريبة منا، لا البعيدة؛ إذ عدّ الشيوخ أنّ ما قيل في تلك الحلقة من حديث حول حقوق المرأة مؤامرة ضدّ الإسلام، وضدّ السودان، ورآه مثقفون إسلاميون، ممّن تاهت خطاهم بعد تجربة الحركة الإسلامية في السودان، تفتيشاً قيمياً مرفوضاً، رغم أنّ الشعب السوداني كلّه يعاني من التفتيش القيمي والتديني، الذي مارسه الإسلاميون، وما يزالون، وكأنّ الله خوّلهم من فوق سبع سماوات ليكونوا خلفاً له في محاسبة الناس وقهرهم، بسبب شكلهم، أو تصوراتهم المخالفة لهم .
اقرأ أيضاً: أبو حنيفة كما يراه أهل الحديث
من الأمور التي خلقت الضجة، ونعدّها حميدة، ظهور رئيس هيئة علماء السودان في الحلقة، كشيخ كبير، ورجل دين يمتلك هيبة؛ لأنّه رئيس علماء السودان، أمام شباب يافعين يعبّرون عن تصوراتهم دون خوف أو جهل، ليتكشف للناس مدى بعد رجل الدين عن واقع هؤلاء الشباب؛ إذ إنّ ردوده على التساؤلات لم تتجاوز القرون الوسطى؛ فهو ما يزال يتحدث عن ضرورة الختان للعفة، وكيف أنّ الشرع لم يقيّد الزواج بسنّ دين البلوغ؛ إذ متى احتملت الفتاة الوطء أصبحت جاهزة للزواج، فالزواج بالنسبة إليه لا يراوح أن يكون مجرد علاقة جنسية، فلم يتحدث عن القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والبلوغ الذهني والعقلي للمرأة، فهذا ليس ضمن حساباته الدينية، التي منحته السلطة، كرجل دين يغضب الناس لضعف موقفه أمام شباب متّقدي الذهن.
الشعب السوداني كلّه يعاني من التفتيش القيمي والتديني، الذي مارسه الإسلاميون، وما يزالون
تحدّث الشيخ، بعد بثّ الحلقة عن عدم درايته، وكأنّه يقول: "لقد غرِّر بي"، وادّعى أنّه تفاجأ بوجود شابات سافرات، وهذا دليل واضح عن بعده عن اللحظة التاريخية، فإذا كان لا يعلم أنّ ثمة أشكالاً عدة، وأطيافاً فكرية متعددة، تعيش اليوم في السودان، فكيف يعرف منطق اللحظة التاريخية وجذورها المفاهيمية التي أنشأتها؟! كيف يمكن أن يناقش مفهوماً كالنسوية؟! أو أن يعرف متطلبات المرأة السودانية اليوم وحتمية سؤالها عن دورها في الحياة وحقوقها وحريتها؟!
إنّ رئيس هيئة علماء السودان، ومن انبروا في الدفاع عن رؤاه القاصرة، ما يزالون يبرّرون التحرّش؛ اللّفظي أو الجسديّ، بما ترتديه المرأة، فليس ثمة سبب للتحرّش غير إغراء المرأة لفحولة الرجل؛ إذ ثمة اختزال كبير لكلّ من المرأة والرجل، على حدّ سواء، في العملية الجنسية، كأنهما وحشان كبيران يفترسان بعضهما متى شعر الذكر بالإغراء، فلا دور هنا لميّزة الإنسان كونه عاقلاً بالغاً مختاراً حراً، بل تتحكم فيه غريزته الجنسية، وتخلق منه متحرشاً بتبرير ناجز سلفاً، يتقبله الشيوخ، وهو لبس المرأة.
اقرأ أيضاً: التسامح: كيف تتحرر من الحكم على الآخرين؟
إنّ هذا السبب يسقط بمجرد أن نعرف أنّ المتحرش لم يصدّه الحجاب يوماً، أو اللبس الذي يسمى محتشما يوماً، وهو ليس في حاجة إلى أيّ إغراء؛ فالتحرّش شكل من أشكال المرض والعصاب، يسبّبه عدم ألفة الرجل للمرأة كشريكة حياة، وليست سريراً عابراً، إنّه لا يراها امرأة فاعلة في الحياة الإنسانية، والشقّ الآخر في الحضارة البشرية، ومهمتها كمهمته؛ هي بناء الحياة البشرية وإثراؤها.
اقرأ أيضاً: من الإكراه إلى الحرية.. نحو عقل منفتح وقلب لا تحده حدود
لقد بدأ جيل جديد، يتشكّل في الحياة السودانية، جيل عصيّ عن الثنائية التي كانوا يعرّفون بها الناس؛ شيوعيّ أو إسلاميّ، إنّه جيل بدأ حياته ورحلته في البحث عن حياة جديدة، بعيداً عن الأنساق البالية المعروفة في السودان؛ إذ يبحث ويسأل عن الحقوق الإنسانية، بما هي حقوق، دون أن ينتظر رجل دين أو تجديدياً حتى يحفر في التراث، ليخرج ما هو جديد، وما هو أفضل، من الشكل المعاصر للحقوق العامة، التي أقرّها عالم اليوم؛ إنه لا ينتظر هذه الصالونات التي يحتدّ فيها النقاش، ولا يتجاوزها إلى حياة الناس وحقوقهم؛ إنّه جيل ما بعد الشيوخ.