سيجارة المارلبورو... ضحية جديدة للجشع الرأسمالي

سيجارة المارلبورو... ضحية جديدة للجشع الرأسمالي


03/09/2019

"عند الملمّات نجد في السجائر العون الفعّال أكثر مما نجده في الأناجيل"
إميل سوران

في روايته "هياج الأوز"؛ أفرد الكاتب السوري، سليم بركات، مقاطع مطوَّلة للحديث عن التبغ، يقول فيها: "تذوق آدم التبغ في الجنة، فطرده الله حرصاً على السرّ، لكن هناك من خذل الله، وأشاع التبغ في الأرض، التبغ سرّ الحقيقة"، يرى بركات أنّ التبغ وريث البخور (الدخان المقدَّس) الذي يُرضي الخصم [غير المدخن] بلباقة انتسابه إلى ما لا يشبه دخان الحرائق.

منذ عقود بدأت حملة محمومة في مجال التوعية بمخاطر التدخين وخفض استهلاك السجائر وتحميل المسؤولية للشركات المنتِجة

التبغ ظلّ متربعاً على عرش الأدمغة طوال القرن العشرين بلا إزعاج، وصارت السيجارة رفيقة ظلّ الأدباء والفنانين والسياسيين، إلى أن أتى "الزمان الصحي" الذي يُحتفى فيه بالجسد البشري السليم، والمُروَّض، والخاضع لمعايير المجتمع السويّ بلا تشوهات، وهي معايير إكراهية قضى فوكو الشطر الأكبر من حياته في محاولة تفكيكها.
الفيلسوف المجري، ملادن دولار، لاحظ مؤخراً، في مقاله البديع "شيوعية التدخين"؛ العزل الاجتماعي الذي يمارَس على المدخنين في الأماكن العامة، وحصرهم في أماكن مخصصة للتدخين، مُراقبة من قبل الشرطة، وزجاجية في الغالب؛ ليكونوا موضع نظر وعبرة للأصحاء؛ كقرود في أقفاص حديقة الحيوان.

التبغ ظلّ متربعاً على عرش الأدمغة طوال القرن العشرين بلا إزعاج
يصف ملادن تجربته في التدخين خارج واحدة من ناطحات السحاب في جنوب منهاتن، فيقول: "نحن، أي جماعة المدخنين، ندخّن في صمت، نقف ملتصقين نسبياً ببعضنا البعض، لأنّ هذا المكان المخصص للتدخين يبدو مطوَّقاً بأسلاك غير مرئية، مراعياً، لا شكّ في ذلك، قواعد ما، سنّتها إحدى السلطات، التي يعلم الله وحده كنهها، لكننا ننظر في اتجاهات مختلفة، شاعرين، على نحو مبهم، بالحرج أو بعدم الارتياح على الأقل؛ رغم أنّ المكان الذي نقف فيه موجود خارج الطرق الرسمية".

اقرأ أيضاً: حكاية ثورة التبغ التي هزت عرش الشاه في إيران
ويضيف الفيلسوف السلوفيني: "وبالتالي؛ الآخرون في مأمن من الضيق الذي قد يسبّبه تدخيننا لهم، إلا أنّه، في الوقت نفسه، مكان مكشوف؛ إذ لا يمكن له أن يكون مستوراً بالكلية، في مثل هذه المنطقة المطروقة بكثافة، وبالتالي يشعر المرء منا كما لو كان معروضاً (بسيجارته) للفرجة أمام أعين الناس، فالمارة والمتوجهون نحو مدخل البناية الفخم، يلقون علينا، نحن المنبوذين الجدد (المدخنين)، نظرة جانبية خاطفة ملؤها الريب وعدم الاستحسان".

اقرأ أيضاً: "نتفلكس" تحد من مشاهد التدخين في محتوى المراهقين
ومنذ عقود، بدأت حملة محمومة في مجال التوعية بمخاطر التدخين، وخفض استهلاك السجائر، وتحميل المسؤولية للشركات المنتِجة، إلا أنّ التدخين ما يزال مستمراً حول العالم وبمعدلات متزايدة، ولا يبدو أنّه سينتهي يوماً؛ رغم سياسات الاحتواء والمراقبة، والإجراءات الصارمة لحظر التدخين في الأماكن العمومية والطائرات، والسياسات الضريبية القاسية إلى درجة أنّ ثمن علبة السجائر ارتفع في أمريكا مثلاً، خلال العقود الأخيرة، من 28 سنتاً إلى أكثر من 6 دولارات، بحسب موقع "سي إن إن".
المارلبورو سيجارة عريقة طرحها فيليب موريس

كيف يمرّون من دون مارلبورو؟
في أوساط الصناعات البحرية في العالم، تُعرَف قناة السويس المصرية باسم "قناة المارلبورو"؛ بسبب الرشاوى التي تدفعها السفن والحاويات للعاملين بالقناة على هيئة حزم من سجائر المارلبورو، مقابل تسهيل مرورها؛ بحسب تقرير لموقع "المنصّة" المصري، وذلك في دلالة على مكانة "المارلبورو" عند المدخنين المصريين. وللدخان في مصر تاريخ عريق يصل إلى أربعة قرون، على الأقل، كما بيّنت هيام صابر في كتابها "الدخان والمجتمع المصري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر".

اقرأ أيضاً: عادات غذائية تضر بصحتك أكثر من التدخين.. ما هي؟
والمارلبورو؛ سيجارة عريقة طرحها فيليب موريس، وسمّاها باسم الشارع الذي أنشأ فيه أول مصنع للتبغ، في لندن، عام 1924، واستهدف منتجه الجديد نساء الصفوة اللائي يدخنَّ سيجارة مارلبورو ليكملن أناقتهنّ، لكنّ المارلبورو فشلت كسيجارة نسائية، وخلال الحرب العالمية الثانية فشلت تماماً، وسيطرت "لاكي سترايك" على السوق.
قرّر فيليب موريس، في الخمسينيات، التعاقد مع وكالة "ليو بورنت" الإعلانية، للترويج لمارلبورو، وكانت العلبة على شكل خطوط حمراء وبيضاء وتبدو غير جذابة للجمهور المستهدَف الجديد، فطلب تصميمها باللون الأحمر الصلب، ووضعت صورة "الكاوبوي" (راعي البقر) في حملة الإعلانات الجديدة: أصبحت المارلبورو رمزاً للذكورة؛ وحققت نجاحاً ساحقاً لعقودٍ طويلة.

اقرأ أيضاً: ما علاقة التدخين بالعينين؟..هذا ما تفعله 20 سيجارة يومياً!
عام 2014؛ انتهت حياة إريك لاوسون، الوجه الإعلامي لسيجارة المارلبورو، والذي وقف وراء تحويلها إلى أكبر شركة سجائر في العالم، بسبب سيجارة "المارلبورو" الذي قضى حياته في الترويج والدعاية لها، توفّي رجل المارلبورو بعد معاناة طويلة مع مرض عضال أصاب رئته؛ بسبب استهلاكه يومياً ثلاث علب مارلبورو.
وقبل أعوام من وفاته، تحوّل لاوسون إلى أكبر صوت يدافع عن مراقبة استهلاك السجائر، نشط لاوسون مع الجماعات المناهضة للتدخين؛ داعياً الشباب واليافعين إلى تجنّبه، ولم يكن هناك أبلغ من دعوة رجل بنى مملكة "المارلبورو" التي دمّرت حياته للإقلاع عنها.
وكأنّ اتجاه شركة "فيليب موريس إنترناشيونال" السويسرية المنتجة للمارلبورو، منذ أوائل العام الحالي، للتوقف عن بيع السجائر التقليدية (وعلى رأسها المارلبورو) في المستقبل، مع تحوّلها إلى بدائل خالية من الدخان، كان صدى لتلك الوفاة المحزنة والمعبرة.
لكن إذا توقفت "فيليب موريس" عن إنتاج المارلبورو، فكيف تمرّ السفن في قناة السويس؟ هذا هو السؤال الذي سيطرحه المصريون على العالم قريباً.
قلب الرأسمالي
أوّل درس يتعلمه أيّ يساري مبتدئ؛ هو أنّه ليس هناك في العالم أظلم من قلب الرأسمالي؛ فحين تطلب "فيليب موريس" أكبر شركة مُصنِّعة للتبغ في العالم من عملائها، الذين تُخرِج ربحها من جيوبهم، التوقف عن التدخين؛ فإنّ هذا التحول الكبير الحاصل في إستراتيجيتها لا يخرج عن أمرين: مجاراة ثقافة المجتمع الصحي من خلال رفع شعار "مستقبل خالٍ من التدخين"، والثاني تحقيق أرباح من طريق آخر، وهذا هو الحاسم في الأمر.

اقرأ أيضاً: رفع السن القانونية للتدخين إلى 100 عام
تطلب "فيليب موريس"، بطيبةِ قلبٍ مُثيرة، من المُدخّنين اليوم، بعد خمسين عاماً من إمدادهم بالمارلبورو، الإقلاع عن تدخين السجائر التقليدية؛ ولأنّها تعلم أنّ المدخنين لن يستجيبوا لهذا النداء، فإنّها تُشجعهم على التحوُّل إلى بدائل أقل ضرراً من منتجاتها الخاصة الخالية من الدخان، مثل: جهاز "آيكوس/ IQOS"، وهو اختصار لعبارة "أنا أترك التدخين التقليدي" (I quit ordinary smoking)، بحسب تقرير لــ "سويس إنفو".
وأجرت مؤخراً "فيليب موريس إنترناشيونال" (أكبر منتج للمارلبورو خارج أمريكا) و"ألتريا" (أكبر منتج للمارلبورو في أمريكا)، مفاوضات لإعادة اندماجهما وإيجاد وسائل التعويض عن التراجع الكبير في مبيعات هذه السلعة، بحسب "فرانس 24".

تطلب "فيليب موريس" بطيبةِ قلبٍ مُثيرة من المُدخّنين بعد خمسين عاماً من إمدادهم بالمارلبورو الإقلاع عن تدخين السجائر التقليدية

و"ألتريا" شريكة "فيليب موريس" مجدداً، كانت قد قضت عقوداً طويلة من الكذب على المستهلكين حول الآثار السلبية للتدخين على صحة الأشخاص عبر حملات دعاية معقدة تستهدف اليافعين وأصحاب الدخل المحدود، وعام 1996؛ أقسم كبار مديريها أمام القضاء على أنّه لا علاقة للنيكوتين بالإدمان، وأنّ التدخين لا يقتل، إلى أن أصدر قاضٍ أمريكي حكماً في 2006 يدعوها إلى "تصريحات تصحيحية" تعترف بسوء تصرفها.
وتهدف الشركتان إلى تنويع مصادر مواردها من خلال الاستثمار الضخم والمكثف في سوق السجائر الإلكترونية، وتمكنت "ألتريا" بالفعل من السيطرة على ثلاثة أرباع سوق السجائر الإلكترونية في الولايات المتحدة؛ من خلال استثمارها 13 مليار دولار في الشركة الناشئة "جول"، المتمركزة في سان فرانسيسكو، وتحاول "فيلب موريس" مجاراتها في الحصول على موارد متنوعة تُضخّم أرباحها، للسيطرة على سوق السجائر الإلكترونية في العالم.

جهاز "آيكوس / IQOS"
كلا الشركتين تحاولان إيجاد وسائل للتعويض عن تراجع مبيعات السجائر عبر الاستثمار في بدائل من نوعية السجائر الإلكترونية، والتبغ غير المخصّص للتدخين (من خلال تسخينه وليس حرقه)؛ أي إنّ الانتقال من المارلبورو إلى السيجارة الإلكترونية لا يتعلق بأيّ قلق مفاجئ على صحّة المستهلكين.

اقرأ أيضاً: ما سرّ إقلاع مليون فرنسي عن التدخين عام 2017؟
ولم يكن من المفاجئ للمطلعين على أوليات الاقتصاد السياسي؛ أن يروا "ألتريا" التي تُخفض إنتاجها من المارلبورو، بحجة الحفاظ على صحة المستهلكين، وقد بدأت استثماراً ضخماً في حشيشة "الكيف" مؤخراً.
فيما تحاول "فيليب موريس" غسل سمعتها كأكبر منتج للمارلبورو في العالم من خلال الاستثمار في أنواع جديدة من التدخين، تلقى رواجاً كبيراً بين الشباب، مثل السجائر الإلكترونية، على اعتبار أنّها تعدّ بديلاً أقلّ ضرراً من السجائر الكلاسيكية.
في المقابل؛ منظمة الصحة العالمية أكدت مراراً أنّ السجائر الإلكترونية "مضرة بالتأكيد"، ويجب تنظيمها، لكنّ هذا لن يؤثر على ضمير "فليب موريس"، و "ألتريا"، طالما تدرّ أرباحاً أكثر تأكيداً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية