سرت.. خط أحمر أمام أردوغان

سرت.. خط أحمر أمام أردوغان


17/06/2020

الحبيب الأسود

في الثالث من يونيو الجاري، خاطب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي أحمد معيتيق، الذي كان في زيارة لموسكو مصحوبا بوزير خارجية الوفاق محمد السيالة، بالقول إن بلاده تقدر عاليا دور الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وبالمقابل ترى أن ميليشيات الوفاق تضم إرهابيين ومرتزقة، وأضاف أن حكومته كانت وراء دعوة قيادة الجيش إلى الانسحاب من مناطق الغرب، مشددا على أن سرت والجفرة خطان أحمران، ولن تسمح موسكو بأي هجوم لإخراج القوات المسلحة منهما.

بعد يومين، شنت أطراف في حكومة الوفاق وأمراء حرب تابعون لغرفة العمليات التركية هجوما شديدا على معيتيق، متهمين إياه بتعطيل هجوم كانت الميليشيات تتجه لتنفيذه على مدينة سرت، حيث اتصل بآمر ما يسمى غرفة عمليات تحرير سرت وحذره من أن الاقتراب من سرت يعني الانتحار، لأن هناك توافقات دولية تحول دون ذلك.

ربما كانت أشد تلك الحملات هي التي تزعمها فتحي باشاغا وزير الداخلية المفوض ورجل تركيا الأبرز في حكومة السراج، الذي لا يزال يمارس العمل الحكومي بمنطق الزعيم الميليشياوي وتاجر الحرب، كما كان في العام 2011، حيث غرّد قائلا “الخطوط الحمراء ترسمها دماء شهدائنا ولا يخضع للإملاءات سوى ثلة من الانتهازيين ضعاف النفوس والهمم.. سرت ستكون في حضن الوطن وتحت مظلة الشرعية ولن نفرط في دماء الرجال من 2011 مرورا بالبنيان والبركان، وسرت ستعود دون قيود”.

لكن معيتيق رد عليه واصفا إياه بالانتهازي ضعيف النفس، ودعاه إلى الانكباب على الشؤون الداخلية بدل التدخل في السياسة الخارجية.

عندما كان معيتيق في موسكو، كان فايز السراج يعد حقيبة السفر للالتحاق به هناك طمعا في لقاء مع الرئيس بوتين، والإمضاء على جملة من الاتفاقيات ضمن دبلوماسية الصفقات التي صار ينتهجها منذ فترة لشراء المواقف اقتداء بحليفه القطري، لكنه فوجئ بأن لا لقاء مبرمجا مع بوتين، دون أن تعطي الخارجية الروسية أي تفسير لذلك.

قبل ذلك بأيام كانت تصريحات محلية ودولية وتقارير إعلامية تتحدث عن وصول طائرات حربية حديثة وقوات روسية إلى مدينة بني وليد لدعم الجيش الوطني، لكن دخول مرتزقة أردوغان وميليشيات السراج الإرهابية للمدينة أثبت أن لا شيء من ذلك حاصل على الأرض، وأن الآلة الدعائية الإخوانية وشركاءها ومراكز النفوذ التي يتعامل معها التحالف القطري التركي استطاعت ترويج معلومات خاطئة حول وجود عسكري روسي لضمان صمت واشنطن والناتو على تدخل تركيا المباشر في ليبيا.

الأمر ذاته يروج له ذات التحالف في ما يتعلق بمدينة سرت التي أكد الروس للأتراك أنها خط أحمر، والتي يحاول أردوغان الوصول إليها بكثير من الاندفاع، باعتبارها بوابة الهلال النفطي، لكن التوافقات الدولية السرية تنظر إليها على أنها خارج نطاق إقليم طرابلس التاريخي، تماما مثل الجفرة، غير أن دعاية الإخوان تحاول استثارة واشنطن والناتو من جديد بزعم أن هناك قوات روسية في المدينة ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة في وسط ليبيا.

جهزت غرفة العمليات التركية أعدادا من المسلحين، سواء من الميليشيات المحلية التابعة لمدينة مصراتة، أو من المرتزقة السوريين والأفارقة للهجوم على سرت، ونشرت سبع بوارج حربية في الخليج المقابل، وصار كل هدف أردوغان الذي ينام ويصحو عليه هو الوصول للسيطرة على المدينة التي تعني له الكثير، فهي مفتاح الثروة في داخل ليبيا وكذلك نقطة التماس مع خارطة المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة التي يسعى لاحتلالها في المتوسط بعد مذكرة تفاهم وقعها مع السراج في 27 نوفمبر الماضي.

أرسل الرئيس التركي إشارات عدة لنظيره الروسي بأن سرت تحظى باهتمامه، وأنه لن يعود عن هدفه بالاستيلاء عليها، وأدركت موسكو أن الأتراك أعدوا العدة للهجوم على المدينة، وأن لا فائدة من الحوار مع نظام أردوغان الذي لا يفي بتعهداته، لذلك بادرت بتوجيه رسالة مضمونة الوصول إلى أنقرة، بعدم إرسال وزيريها للخارجية والدفاع لاجتماع كان مقررا الأحد الماضي.

تحولت سرت خلال الأيام الماضية إلى أكبر تجمع عسكري لقوات الجيش وللمتطوعين من أبناء القبائل، وأدركت قيادة الجيش أن المراهنة على حكمة الأتراك مجرد قبض ريح، وأن اندفاع الميليشيات والمرتزقة لا يعترف بالالتزامات الدولية، وارتفع سقف القلق الدولي من مغامرات أردوغان، وخاصة من مصر وفرنسا واليونان  وبات الأمر يهدد بتدويل الصراع على نطاق واسع، خصوصا وأن تركيا تتجه إلى إعلان وصايتها على ليبيا، ووضع نفسها في موقع دولة احتلال، من خلال الاتجاه للسيطرة على القواعد والموانئ العسكرية، وهو ما لا يكتمل بالنسبة لها إلا بوضع يدها على الثروات وتوسيع تدخلها إلى شرق وجنوب البلاد.

في طرابلس، تحول فايز السراج إلى رقم زائد على الحساب، ولكنه ضروري للمرحلة الحالية باعتباره رئيس المجلس الرئاسي المعترف به دوليا، غير أن السيطرة الفعلية تعود إلى جماعة الإخوان التي قال الدبلوماسي السابق أحمد قذاف الدم إن عدد عناصرها لا يتجاوز 650 فردا، وإلى قيادات الجماعة المقاتلة التي تدير شؤونها من تحت طاولة أردوغان، عن طريق زعيمها عبدالحكيم بالحاج، وكذلك إلى أمراء الحرب في مصراتة وممثلهم الأول في حكومة الوفاق فتحي باشاغا.

وجميع هؤلاء يدفعون إلى اقتحام سرت ومباشرتها بذات الانتهاكات الإجرامية التي شهدتها ترهونة، والنواحي الأربعة، وبني وليد، وقصر بن غشير، والأصابعة، وقبلها صرمان وصبراتة وغيرها، فحيثما حلت الميليشيات وجماعات المرتزقة والإرهابيين حل الخراب والدمار وتجاوز القانون والأعراف.

في طرابلس أيضا، لا يزال أحمد معيتيق، الذي يبدو أكثر جماعته وعيا بالالتزامات الدولية، يؤكد للمقربين منه أن سرت خط أحمر، وفي الرجمة ببنغازي لا يزال المشير حفتر يتلقى رسائل إقليمية ودولية على مستوى عال مفادها أن الجيش الوطني لن يكون وحده في مواجهة أي هجوم على مواقع تمركزه الحالية، فقد تأكد للجميع أن أطماع أردوغان لا حدود لها، وأن الصمت عليها لن يستمر طويلا، خصوصا عندما تتجاوز حدود الالتزامات التي مكنت مرتزقته وإرهابييه، القادمين من إدلب وريف حلب، من أن يتحولوا إلى عقداء وعمداء في قوات السراج النشطة، على مرمى حجر من الضفة الشمالية للمتوسط.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية