سامح عسكر: نحتاج نصوصاً دستورية تحظر الإخوان لـ 50 عاماً على الأقل لمنع عودتهم

سامح عسكر: نحتاج نصوصاً دستورية تحظر الإخوان لـ 50 عاماً على الأقل لمنع عودتهم

سامح عسكر: نحتاج نصوصاً دستورية تحظر الإخوان لـ 50 عاماً على الأقل لمنع عودتهم


16/08/2023

 

أجرى الحوار: عماد عبدالحافظ

تقول الحكمة إن "التاريخ لا يتكرر، لكن الأخطاء هي التي تتكرر"، قبل نحو سبعين عاماً وبعد أن كانت جماعة الإخوان في أوج قوتها، أطاح بها النظام الناصري من المشهد بشكل شبه كامل واختفت عن الساحة السياسية والدينية سنوات بلغت نحو عشرين عاماً، ثم بعدها وبعد تغير الظرف السياسي عادت الجماعة من جديد ومعها عدد من الجماعات الإسلامية الأخرى وبدأ معها فصل جديد من الصحوة الدينية التي لا نزال نعيش آثارها حتى اليوم، واليوم وعلى الرغم من حالة الضعف التي وصلت لها جماعة الإخوان نتيجة العديد من الإجراءات التي تم اتخاذها تجاهها، ومع تراجع حضور التيار الديني بشكل عام عن ذي قبل؛ فهل من الممكن أن يعود هذا التيار إلى الواجهة مرة أخرى في وقت من الأوقات، وهل ما تم من إجراءات وسياسات خلال العشرة أعوام الماضية كانت بداية لتغيير جذري في المجتمع، أم أنّها كانت ذات تأثير ظاهري ضعيف لم يصل بعد إلى العمق؟

عن آليات المواجهة الفكرية ومدى فاعليتها مع الجماعات الدينية خلال الأعوام الماضية، كان لنا هذا الحوار مع الباحث سامح عسكر.

هنا نص الحوار:   

في البداية إذا أردنا أن نضع توصيفاً لأزمة الإسلام السياسي، فماذا يكون من وجهة نظركم؟

ليست أزمة واحدة بل عدة أزمات مركبة ومتطورة بشكل معقد، فالمقدمة إذا كانت خاطئة تتبعها نتائج خاطئة، ما بالك والإسلام السياسي ينبني على عدة مقدمات خاطئة معاً! فالطبيعي أن تتعقد مشكلاته وتصبح أزمات جوهرية وبنيوية وليست متعلقة فقط بشكل التنظيم السياسي والعسكري.

توجد عدة ظواهر عانى منها المجتمعان العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، وهي الفترة الزمنية التي شهدت نمواً وظهوراً لجماعات الإسلام السياسي، وكل هذه الظواهر رديفة ومرتبطة بتلك الجماعات شرطياً؛ بمعنى إذا عدم الإسلام السياسي عدمت تلك الظواهر، وإذا ضعف ضعفت، وإذا قوي الإسلام السياسي قويت ونمت، من تلك الظواهر، انتشار عدة حروب دينية وطائفية بالمنطقة مما أدى لقتل وتشريد عشرات الملايين وتدمير بعض الدول وإزالة عدة مدن وقرى من الوجود، كذلك تحول المعابد والمدارس الدينية إلى أماكن لنشر التعصب الديني والظلم والتكفير، بدلًا من نشر الفضيلة والعدل والتفكير، ومن الظواهر أيضاً احتكار الشيوخ للعلم الديني ومنع غيرهم من الاجتهاد فيه بدعوى الثوابت، مما أنتج غضباً كامناً وشعوراً بالظلم والقهر من فئات أخرى ترى لها الحق في اختيار دينها بحرية، وغضب آخر من فئات ترى لها الحق في السلطة والثروة طالما تملك الأهليّة لذلك، وغضب آخر من فئات ترى لها الحق في التعبير عن رأيها دون قيود، وغضب آخر من فئات مختلفة قومياً وعشائرياً ولغوياً عن الإسلام السياسي لم تر من قصة صعوده سوى استشعار الخطر على وجودهم ومصالحهم.

من أبرز دلالات حقبة الإسلام السياسي إيهام الناس (بالدولة الفاضلة)

لم تكن هذه الظواهر تحدث لولا أنّ هناك خللاً بنيوياً في فكر جماعات الإسلام السياسي، حيث يمكن اختصار هذا الخلل في عدة أخلاط (جمع خلط) هي بين (التاريخ والشريعة) وبين (الدين والدولة) وبين (العقيدة والمصلحة) وبين (العقيدة والشريعة) وبين (التراث والدين) إضافة لتقديس زعماء وشيوخ ورجال دين بشكل أدى لوضع كلام هؤلاء كنص ديني يحرم نقده أو الاعتراض عليه، وهو الأمر الذي أدى لإشعال مشكلات تافهة وتضخم أزمات صغيرة، فالناس لا ترى نفسها مقدسات والأصل شعور كل فرد بحريته كحق طبيعي، ولأن عصرنا لا يعرف مفردات العبودية ويثور عليها، فعندما تصنع قدسية شخص وتجبر الآخرين على الإيمان بها طبيعي سوف تتعرض لأزمات وحروب ومشكلات أساسها عدم إيمان الآخر بتلك القدسية، وأحيانا تنبع المشكلة من أن الآخر لديه مقدسات أخرى تختلف أو تنتقد مقدسات الإسلام السياسي.

الإسلام السياسي وإيهام الناس بالدولة الفاضلة

بعد ثورة يناير تصدر التيار الإسلامي المشهد السياسي والديني وكشفت الممارسة عن العديد من سمات هذا التيار، هل ثمة دلالات من الممكن أن تمنحها لنا تلك التجربة؟

دعنا نرصد في البداية أسلوب الإسلام السياسي في الظهور، فهو يقدم نفسه أولًا كثورة إصلاحية، فيُكثر من شعارات الإصلاح البراقة بهدف جذب شريحة واسعة من الجمهور بتنوعاته السياسية والعرقية والدينية واللغوية.. إلخ، ثم إذا حصل على شعبية مناسبة يوظفها في كراهية الطوائف والأحزاب والمذاهب والأديان المختلفة، حتى ممن دعموه في السابق، وهذا سر من أسرار تعلق هذا التيار بالعنف وإشعاله للحروب الدينية والمجازر الطائفية دون توقف، وقد أشرت قديماً إلى أنّ أيّ حكومة تعطي المساحة للجماعات بالحركة وشيوخها بالدعوة هي تمهد عملياً لتدمير نسيج شعبها وقتل ملايين الأبرياء في المستقبل.

من أبرز دلالات حقبة الإسلام السياسي إيهام الناس (بالدولة الفاضلة) وإطلاق عليها مسميات دينية (كالخلافة ودولة الشريعة) والنفس الإنسانية تستجيب وتشتاق لهذه الدولة وتفاصيلها وتتمنى أن لو عاشت في رحابها لو ساعة، برغم أن التاريخ يُكذب حدوث تلك الدولة والعلم ينفي إمكانية تحققها، فكل تجربة حكم سياسية عرضة للصواب والخطأ مهما بلغت ملائكية وذكاء وصلاح قادتها، ومنبع هذا القصور الذاتي في قصور رؤسائها ومرؤوسيها الذين يمكن وصفهم بذخيرة بقاء الدولة وحصن دفاعها الأول، فالمنطق يقول إذن لو كان القائد وشعبه قاصرين ذاتياً فالدولة ستكون قاصرة ذاتياً، وهذه البدهية لا يمكن الاعتراض عليها بأي شكل، لكن الإسلام السياسي جعل لنفسه مدخلًا يتحايل على تلك البداهة.

الإسلام السياسي يقدم نفسه في البداية كثورة إصلاحية، فيُكثر من شعارات الإصلاح البراقة بهدف جذب شريحة واسعة من الجمهور ثم إذا حصل على شعبية مناسبة يوظفها في كراهية الطوائف والأحزاب والمذاهب والأديان المختلفة

ويتلخص مدخل الجماعات للتحايل في استبدال قصورهم الذاتي بعصمة قادة ورموز وأشخاص في الماضي يجري تقديمهم بصورة مقدسة وإبراز سلوكيات وأفعال هؤلاء القادة (السياسية) على أنها دين، ويعد ملف الصحابة أبرز نموذج على تحايل تلك الجماعات، حيث يبرزون من قصة الصحابة ملف الغزوات الخارجية لإشعار المسلمين بالفخر الذاتي والقوة المناسبة التي تنافس قوى العالم العظمى، بينما يصمتون عن ملف اقتتالهم الداخلي أو الصراع بين البعض منهم وبين الهاشميين وآل البيت، وهذا الملف نجحوا في عصر الصحوة بتجاوزه وإرهاب كل من يفكر فيه أو يفتح الباب لنقد هذا الاقتتال ورفض تلك الصراعات وبالتالي رفض قدسية وعصمة كافة أطرافها..

كذلك من أبرز دلالات حقبة الإسلام السياسي (الطبقية والعنصرية) حيث وضعوا كافة من يختلفون معهم في الدين والمعتقد والرأي السياسي في طبقة أدنى لا حق لها في السلطة أو الثروة أو الوظائف بشكل طبيعي، ولكي يصبح هذا السلوك مقبولاً استدعوا بعض النصوص الروائية مع تفاسير قديمة للنص القرآني تشرعن لهم ذلك العمل، وبعد أن كان المسيحي واليهودي مواطناً بنص القانون والدستور أصبح "أهل ذمة" وبقاؤه مع المسلمين مجرد منحة من أصحاب الأرض المسلمين على الضيوف والغرباء غير المسلمين، مع عزلة ثقافية تامة عن الآخر وإشغال الجماهير بهَوَس المؤامرات الخارجية للتغطية على فشلهم وعدم القدرة على الاستجابة لطموحاتهم أو الصمود في وجه بعض التحديات.

كذلك من تلك الدلالات انتشار الكراهية ومفردات الاحتقار والحقد ضد الآخر، فانتشرت ألفاظ (كافر – مبتدع – زنديق – مرتد – ملحد – رافضة – صليبيين – أحفاد قردة وخنازير.. إلخ) وكل هذه الألفاظ وجدت بيئة شعبية حاضنة ورواجاً كبيراً على السوشيال ميديا بفضل إطلاقها بمنتهى التساهل والجهل من عناصر وقادة وشيوخ الإسلام السياسي.

الإسلام السياسي عرض ومرض

هل الإسلام السياسي عَرَض أم مرض؟ بمعنى هل الأزمة تتعلق فقط بأفكار تخص الجماعات الدينية، أم أن الأمر يتعلق بأزمة مجتمع لا تزال تتحكم فيه الأبنية التقليدية سواء دينية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية؟

هو الاثنان معاً، فهو النتيجة الطبيعية لمجتمع منغلق ويمر بأزمات اقتصادية وثقافية عاصفة، وهو المقدمة لسلوك العنف الديني والراعي الرسمي له، فالإسلام السياسي ظهر بفضل صراع مذهبي وقومي وإيديولوجي كبير امتد منذ القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وكلما حاول أحد إطفاء هذه الصراعات الغبية أو التحكم في تلك القواعد العالمية يحاصروه أو يسجنوه وربما يقتل، ولا فارق بين مثقف وسياسي ورجل دين، وأبرز ما حدث هو عقاب الفيلسوف الإنجليزي الشهير "برتراند راسل" على موقفه السياسي من مواقف بريطانيا العظمى الإمبريالية.

ويمكن تلخيص هذه الأزمات التي صنعت وخدمت الإسلام السياسي في:

أولًا: الرأسمالية المتوحشة التي صدّرها الغرب بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، وكانت بعض الدول العربية ذراعاً لهذا النفوذ الرأسمالي في تشكيل قناعات الشعوب كما فعلوه بنشر الوهابية عن طريق أموال النفط، ثانيًا: الصراع الديني والقومي في الشرق الأوسط، والذي عزز بعد سقوط الحكم الشيوعي ونهاية الحرب الباردة بالدمج بين مصالح الرأسمالية ومصالح تلك الجماعات، وهذا كانت له جذور قديمة بتكفير الشيوعية وشيطنتها في المجتمع طوال القرن العشرين، ثالثاً: الفجوة الكبيرة بين المجتمع والسلطة لغياب الديمقراطية وشيوع حكم الفرد، هذا أفقد العرب نموذجاً وقدوة صالحة يمكنها التغيير فوقعوا فريسة للجماعات التي أقنعتهم بالبديل، وقد استغلت الجماعات هذه الفجوة في الانتشار اجتماعياً وثقافياً بالسيطرة على التعليم والمنابر.

الإسلام السياسي ظهر بفضل صراع مذهبي وقومي وإيديولوجي كبير

رابعاً: غرق المجتمع العربي في الماضوية والاعتقاد بأن الإصلاح يلزمه نقطة انطلاق من الخلف لا من الأمام، فجرى تقديس مفردات ومفاهيم التراث بشكل متزامن مع حركة الإسلام السياسي بتحويل تلك المفردات والمفاهيم من أجوائها التاريخية والاجتماعية لمشروع سياسي وبرنامج حكم، مما أدى لامتلاك الجماعات سلاحين في منتهى القوة، الأول: حق تمثيل الدين والثقافة والدولة، الثاني: هو المال من عدة موارد كالدعم السياسي من ناحية، والتبرعات لخدمة قضايا الأمة من ناحية، وإقامة مشاريع دراسية وتجارية من ناحية أخرى، كما حدث في أواخر السبعينات مثلًا من صعود كبير لشركات توظيف الأموال وينتهي الآن باحتكار شبه تام للإسلاميين والمحافظين على التعليم وخصوصاً التعليم الخاص.

مواجهة التنظيمات الإرهابية

استطاعت الدولة من خلال العديد من الإجراءات بعد 2013 أن تفكك التنظيمات الإسلامية، هل ترون بأنّ الإجراءات السياسية والأمنية كافية للقضاء على هذه التنظيمات والحد من تأثير أفكارها في المجتمع؟

عزيزي نحن بحاجة لفهم عقلية الإرهابي قبل محاربته، فقد تكون أكثر ذكاءً منه، وأكثر موهبة، وأكثر قوة وسلاحاً ومالاً، لكنه إنسان مختلف عنك، هذا لا يخاف الموت ويعلم جيدًا حجم الفارق بينك وبينه، الحكمة في أن لا تتحدى الإرهابي في تلك الجزئية (فقط) وهي الأمن، إنها تزيده قوة وتكسبه قناعة أنك على باطل، إنما الحكمة في (تشكيكه فيما يفعله)، هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب على المجتمع إنجازه، فالمقاومة الفكرية للإرهاب كفيلة بتدميره ذاتياً، أما المقاومة الأمنية فهي قد تؤجل الإرهاب بدفع خطره لحظياً، لكنه يبقى مشتعلًا ليعود بأشكال وأساليب أخرى.

نعم فالمقاومة الأمنية ضرورية بدفع الخطر اللحظي لكنها لا تكفي للقضاء على الإرهاب أو حتى إضعافه على الأمد الطويل.

من الذي يقع على عاتقه عبء المواجهة الفكرية مع تلك الجماعات؟

 نظراً لأن الإسلام السياسي يحشر نفسه في مجالات وأبواب متعددة فوجب رد أصحاب ومتخصصي تلك المجالات؛ فالواجب على الطبيب أن يتصدى لفتاواهم في الطب، وعلى الفيزيائي والكيميائي أن يتصدى لفتاواهم في الفيزياء والكيمياء، والفلكيون وعلماء الرياضيات والاجتماع.. إلخ، يجب أن يتصدوا لحشر هؤلاء أنوفهم في تلك العلوم وتطويعها بما يخدم تلك المذاهب.

المقاومة الفكرية للإرهاب كفيلة بتدميره ذاتياً، أما المقاومة الأمنية فهي قد تؤجل الإرهاب بدفع خطره لحظياً، لكنه يبقى مشتعلًا ليعود بأشكال وأساليب أخرى

لكن ولأن هذه الجماعات تحمل إيديولوجية لها بُعد فلسفي وفني وديني للجمهور فمن الواجب على المثقفين والفلاسفة والفنانين ورجال الدين المستنيرين أن يتصدوا بنفس القوة والحسم والرغبة التي عليها علماء الطبيعة، فالمسؤولية الكبرى تقع على عاتق تلك الشريحة من عدة جهات، الأولى: أنّ هذه الشريحة لديها القدرة على تفكيك مرجعيات التطرف الديني ومناقشتها والطعن فيها وتقبيحها لدى الجمهور، ولديها القدرة على مناقشة تلك المرجعيات بنفس أسلوب وتناول المتطرفين لها بهدف ضربهم من الداخل وإشعال الشقاق بينهم حول سؤال (ما هي الحقيقة)، والجهة الثانية: أنّ تلك الشريحة لديها اتصال مباشر مع الجمهور والأحزاب ولديها حضور كبير في وظائف ومسؤوليات الدولة، فبالتالي صارت هدفاً للمتطرفين بعمليات إرهاب وتخويف واختراق.

الدولة التي لا تهتم بالفنانين والمثقفين ولا تعطي مساحة كافية لرجال دين مستنيرين ومجددين للفقه والتراث تتسبب مباشرة في إضعاف هذه الشريحة المهمة، واختراق المتطرفين دينياً للبعض منهم وإرهاب وتخويف البعض الآخر.

ما هو تقييمكم للدور الإعلامي في مواجهة التطرف؟

 أذكر أنّ مفكراً وصديقاً عزيزاً وطبيباً متخصصاً ظهر على قناة النيل الثقافية للحديث عن الدكتورة "نوال السعداوي" وبعد وصلة مدح للدكتورة قطعت القناة البث وأنهت البرنامج! فعندما ترفض قناة النيل "الثقافية" الحديث في "الثقافة" فهناك أزمة كبيرة وجب البحث فيها بجدية، وبرأيي أنّ المشكلة تبدأ من تعريف المثقف نفسه، من هو؟ وإلى أي جهة وفكر ودين ينتمي؟ فحسب ما أظن أن تعريف المثقف عند هذه القناة هو ما ينطبق على زغلول النجار وذاكر نايك وأمثالهم ممن كان ينتقدهم الدكتور في معرض دفاعه عن جهود نوال السعداوي في خدمة العلم ورفض الخرافة وما يسمى بالإعجاز العلمي في الدين!

وفي تقديري أن سجن المفكرين والمثقفين بتهمة ازدراء الدين أضعف الثقافة في مصر بشكل عام، ووضع المفكرين موضع الشبهة وقوّى من خصومهم المتطرفين بشكل كبير، وأفقد الجمهور فرصة التعرف على العلم من مصدره، كذلك ظاهرة طرد الملحدين من الإعلام كانت سلبية في حق الدولة، تصرف يثبت أن إعلامنا الوطني غير مثقف وغير متدرب على أسس الحوار والمناقشات مع المخالفين في الدين والرأي والمعتقد، وفي تقديري أن لو ظل الوضع بهذا الشكل من الانحدار فسيعود الإعلام المصري إلى ما قبل يناير بتجريم ظهور الأفكار المخالفة للدين السائد، لكن مقاومة السوشيال ميديا قد تعطل هذه العودة، فمواقع التواصل فرضت نفسها، وغالبًا فقدت القنوات الفضائية تأثيرها في تشكيل القناعات خصوصاً الدينية.

شخصياً لو كنت مسؤول إعلام في هذا البلد لفرضت العلم بالفلسفة وأصول الحوار المنطقي على المذيعين، وعمل تدريبات وكورسات تؤهلهم للتعامل بشكل جيد مع الناس، فالمسألة ليست فقط تعصب شخصي، بل جهل بالواقع والتاريخ والعلم والمنطق، حتى أوشك المذيع المصري أن يكون نسخة مكررة من إنسان الكهف، علاوة على إعادة النظر في حجم البرامج الدينية والفتاوى التي تكاثرت بشكل كبير منذ سنوات حتى صارت هي السمة الغالبة على الإعلام الحكومي والخاص، عشرات البرامج الدينية والفتاوى التي شغلت حيزاً كبيراً في حياة الناس في ظل خطاب ديني غير حداثي وغير عصري ولا يؤمن بحقوق الإنسان فمن الطبيعي أن تكون النتيجة المباشرة (كارثة معرفية).

كيف تنظرون لدور المؤسسة الدينية الرسمية في إطار المواجهة الفكرية مع تلك الجماعات، وهل هي مؤهلة لذلك؟

كل المؤسسات الدينية الرسمية من الأزهر للأوقاف لدار الإفتاء إلى لجان الفتوى المختلفة لها دور مهم للغاية في التطوير والتجديد، وفرصتهم للتأثير على الجمهور تظل أقوى من فرصة المثقفين نظرًا لنشاطهم من داخل الصندوقين الديني والمذهبي، وفي تقديري أن هذه المؤسسات مؤهلة بالفعل لهذه المهمة شريطة تمكين رجال دين مستنيرين ومؤمنين بالدولة الحديثة وحقوق الإنسان في مناصب قيادية، فلا يليق أن يخرج بعض قادة وشيوخ الأزهر الكبار لتكفير بعض المثقفين والفنانين واتهامهم في عقيدتهم ، تصرف يثبت أن هناك أزمة في عقل تلك المؤسسات أدت لبروز هذا الفكر المتطرف على السطح، التي في تقديري أنها لن تخرج من كونها أزمة قيادة لا أزمة فكر ومذهب.

يوجد تغير دراماتيكي كبير يصيب المجتمع المصري

ولا تفوتني الإشارة إلى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الذي جرى افتتاحه عام 2015 والمقارنة بينه وبين مركز اعتدال السعودي لمكافحة التطرف والذي افتتح بعده بعامين سنة 2017، حيث يركز مرصد الأزهر على التنظيمات فقط ويغض الطرف عن التكفير والتشدد الفكري، بينما مركز اعتدال يواجه كلا الأمرين معاً؛ الجماعات وأفكارها.

ما يقوم به مركز اعتدال السعودي لمكافحة الفكر المتطرف هو نشاط جيد ورؤية صادقة واعية لمكافحة التكفيريين، بينما مرصد الأزهر لمكافحة التطرف لا يقوم بنفس الدور، والسر أن "اعتدال" يمس الأسس الفكرية والأيدلوجية والنفسية التي أنتجت جماعات الإسلام السياسي ومنها موقف هذه الجماعات من الآخر (السياسي والديني) وموقفها كذلك من الفن والإبداع والحريات، بينما مرصد الأزهر لا يتعرض لمعظم هذه الجوانب التي لا يملك بعد الجرأة على خوض غمارها مما يتبعه الحاجة إلى تفكيك مرجعيات التطرف الديني وإعادة النظر في مفاهيم منتشرة عند الإسلام السياسي كمفاهيم (الردة والكفر والزندقة والإيمان والبدعة.. إلخ).

ما هي أبرز المعوقات التي من الممكن أن تقف في طريق المواجهة الفكرية وإحداث تغيير حقيقي في المجتمع؟

يوجد تغير دراماتيكي كبير يصيب المجتمع المصري، فبرغم كثرة الرأي المحافظ والرجعي وانتشار فكر الجماعات - حتى بعد سقوط حكم الإخوان – إلا أن هذه الكثرة وجدت (ممانعة قوية) دخلت ضدها معركة شبه متكافئة من حيث التأثير النخبوي – لا الشعبي – لأن الجماهير لن تستنير أبداً مثلما تظن، ولكنها سوف تتبع المستنيرين ولو لم يعلموا أنّ تلك استنارة، وهذا معنى أن التنوير هدفه مراكز القوى والحكم ودوائر صنع القرار، لا إقناع العامة بأفكار نيتشه وشوبنهاور وزكي نجيب محمود، هذا مستحيل.

عندما يصل التنوير لمراكز القوى يبدأ في تهيئة الرأي العام لإصلاحاته، وبالتالي تظهر قاعدة شعبية كبيرة تؤيد تلك الإصلاحات ليس لكونها (تقدماً وعقلاً نقدياً) ولكن لأنها مصالح، ومن تلك الزاوية يستحيل على التنويريين أن ينتصروا في أي معركة دون إقناع الجمهور بأن ما يفعلوه يحقق مصالحهم.

سجن المفكرين والمثقفين بتهمة ازدراء الدين أضعف الثقافة بشكل عام، ووضع المفكرين موضع الشبهة وقوّى من خصومهم المتطرفين بشكل كبير، وأفقد الجمهور فرصة التعرف على العلم من مصدره

لذلك أرى أن العائق الأبرز في مواجهة الإسلام السياسي هي السلطة نفسها التي بإمكانها أن تعطي القوة للمجددين وتحميهم من الرجعيين والمحافظين، وتفتح الباب للرأي الآخر بحرية، نحن لدينا مخزون هائل من الثقافة بحاجة للاستهلاك والعمل لكن هذا المخزون حاليًا معطل بفعل قوانين الحسبة والحجر على الرأي، فقرارات تعسفية مثل منع بعض رجال الدين المستنيرين من الظهور يعطل ويبطئ من حركة التجديد، بينما إطلاق يد الشيوخ ورجال الدين المتشددين للعمل بحرية في الإعلام يسهم في نشر جوانب وشعور التطرف عند العامة، ويكرر تجربة الإسلام السياسي دعائيًا، لذا فمن الواجب عمله في هذا النطاق قبل كل شيء هو إعادة نظر السلطة في موقفها من التنوير وقياس هذا الموقف على ما تم إنتاجه وإحداثه، وبرأيي أن هناك فارقاً كبيراً بين القياسين، حيث خرج مشروع التجديد كلام لا فعل، نظريات بلا برنامج ومشروع واضح المعالم.

نحن لا نريد معركة متكافئة بين الرجعية والتقدمية، ولا أن تكون متساوية بين التطرف والاعتدال، لأن الجماهير بطبعها غير مفكرة تميل للمقدس مما يعني أن أقرب مواجهة مباشرة وعلنية بين التيارين ينتصر أكثرهم تشدداً ومحافظة، إنما الذي نريده هو انحياز السلطات للمفكرين والمجددين وتقييد أصوات التطرف والتكفير بشدة وعقاب أصحابها في المجتمع، فبرغم قوة التيار المستنير إلا أن هذه القوة لم تأت بجهد وفعل السلطات ولكنها جاءت رديفة لنشاط وعمل الإنترنت وآلياته في السوشيال ميديا من الهاشتاج والتغريدات وقنوات اليوتيوب التي صارت شعبية رغم تبنيها أفكار متحررة وتقدمية.

حتى لا يعود الإخوان

خلال فترة الحكم الناصري تم تفكيك تنظيم الإخوان وتوقف نشاط الجماعة لمدة أربعة عشر عاماً، ثم ما إن رحل عبد الناصر عادت الجماعة من جديد، فما هو تفسير ذلك برأيكم، وهل من الممكن تكرار ذلك السيناريو مرة أخرى اليوم، وما المطلوب حتى لا يتكرر؟

اسمح لي أن اقتبس جزءًا من مقال لي ناقشت فيه هذا السؤال بالتفصيل قبل أيام:

"ما فعله عبد الناصر أدى للقضاء على معظم قوة ونشاط الجماعة على السطح، لكن بقي أمران اثنان:

الأول: أفكارهم بدون كفاح ومقاومة، واتجاه عبدالناصر للمزايدة على إيمان الإخوان بمشاريع منها إصلاح الأزهر وإنشاء إذاعات دينية ومنع ما كان يوصف وقتها (بعُري المجلات)، وخلافه، إضافة لدعم واسع لشيوخ الأزهر وتقديمهم كممثلين ووكلاء عن الدين، وهو الأمر الذي رفع أسهم (الشعراوي والقرضاوي ومحمد الغزالي) لاحقًا رغم تبنيهم معظم أفكار الجماعة، الثاني: بقيت قيادات الجماعة من الصفوف الثانية والثالثة حتى العناصر نشطة في المجتمع، وهذا الجيل كان من مؤسسي الإخوان الأوائل سواء الذين شاركوا حسن البنا في إنشاء الجماعة أو الذين تأثروا من هذا الجيل.

كانت النتيجة أنه فور استدعاء السادات للجماعة عاد الإخوان بكامل قوتهم، لأن الجيل الذي كان يعيش آنذاك كان يتمتع (بالمهارة والقوة والتواصل) اللازم لاختراق المجتمع، ولديهم القدرة على مواجهة الانشقاقات وتبرير الاختلافات وإقناع عناصرهم بحدوثها دون لغط.

الآن الإخوان محظورين منذ عشرة أعوام فقط، ومعظم ما كان يفعله عبدالناصر يفعله السيسي، مما يعني أنّ خطر الجماعة على الدولة لا زال باقياً، فالجيل الذي اخترق الدولة والمجتمع خلال الأربعين عاماً الأخيرة لا يزال قائماً ويعيش وينشط، وإن قلّ حضوره نوعاً ما، لكنه ينتظر الفرصة للانطلاق في أي لحظة، وكذلك لا تزال أفكارهم باقية وشعاراتهم تخترق الوعي الجمعي وترتفع من حين لآخر، وأذكر حضراتكم أنّ الخوارج ظلوا يحاربون خلفاء المسلمين أكثر من 150 عاماً، وبقيت حواضنهم الشعبية حتى منتصف القرن 2 هـ، والسر كان في شعاراتهم البراقة والخادعة التي تتميز بسهولة الترويج والدعاية والانتشار مثل ( الحكم لله) نفس شعار الإخوان الذي لا يزال يخترق الوعي الجمعي الإسلامي (هي لله والحكم لله).

إنّ القضاء على الإخوان يلزمه أمران:

الأول: منع وحظر فترة زمنية لا تقل عن 50 عامًا، وهي الفترة التي سينقضي فيها الجيل الحالي من الإخوان والذي تأثر به كذلك، وبالتالي يفقد التنظيم كافة مهاراته السلوكية والحركية والفكرية التي أدت لاختراقه المجتمع في الماضي، وهذا يلزمه على الأقل نصوص قانونية ودستورية تمنع عودة هذا التنظيم ليصبح الحاكم المصري – ما بعد السيسي- ملزماً بها.

إنّ القضاء على الإخوان يلزمه أمران: الأول؛ منع وحظر فترة زمنية لا تقل عن 50 عاماً، وهذا يلزمه على الأقل نصوص قانونية ودستورية تمنع عودة هذا التنظيم ليصبح الحاكم المصري – ما بعد السيسي- ملزماً بها

الثاني: مواجهة فكرية حقيقية ودعم الدولة للتنوير والثقافة والفنانين، وهذا يلزمه إنفاق كبير جداً على قصور الثقافة والنقد والإعلام التقدمي، وخفض مساحة الإعلام الديني المتمثل في برامج الفتوى التي كنت ولا زلت أحذر من أنها الباب الخلفي لعودة الجماعة، إضافة لتعديل أو إلغاء قانون الحبس بتهمة ازدراء الدين، ومشروع واسع لدعم رجال دين مستنيرين يغزون القرى والمدن لشرح معنى وأهمية التجديد في الفكر الديني.

أما ما يحدث حالياً وإن كان له ثمرة في إضعاف الجماعة لكنه يظل (إضعافاً مؤقتاً) حتى تنتهي كافة العوامل التي أدت لتقوية خصوم الإخوان ليعود التنظيم وأفكاره كما كان، وربما أشد" انتهى.

ما أود قوله إنّ التاريخ يثبت أن نشاط الإسلام السياسي أو الجماعات أو المذاهب بشكل عام لا يقوى ولا يشتد سوى بدعم السلطة، وبعد رفع الدعم عنه يضعف، وبعد قهره ومنعه ينتهي، هكذا الحق لعبة قوة، ودعنا نكون صرحاء، إذا رغبت السلطة في القضاء على الإخوان سيحدث ذلك، وإذا رغبت في عودتهم سيحدث أيضًا، فالسلطة هي المسؤولة وهي التي بإمكانها تحديد مستقبل هذا التيار من عدمه.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية