رسائل الحرب.. هل يفقد العقل العربي ثقته في قيم الحضارة؟

رسائل الحرب.. هل يفقد العقل العربي ثقته في قيم الحضارة؟

رسائل الحرب.. هل يفقد العقل العربي ثقته في قيم الحضارة؟


25/10/2023

بعض الأحداث تكون مفصلية في حياة المجتمعات من حيث التأثير العميق الذي تسببه بصورة يصبح ما بعدها غير ما قبلها، وكما كان "الربيع العربي" حدثًا مفصليًا بالنظر إلى طبيعة التحولات التي تسبب فيها على مستويات عدة، منها أنّه كشف الغطاء عن العديد من العيوب الكامنة في البُنية الفكرية للحركات والتيارات الإسلامية التي سمح لها مناخ ما بعد الثورات في أن تمارس نشاطها السياسي والديني بشكل أكثر اتساعًا والتعبير عن أفكارها بشكل أكثر وضوحًا، وامتد الأمر إلى الفكر الديني السائد في المجتمع بشكل عام، وصارت هناك إرهاصات وعي بمواطن الخلل فيه وبمدى مساهمته، بجانب عوامل أخرى، في خلق واقع مليء بالأزمات، وبدأت ظاهرة تتشكل تتمثل في التخلي عن التفكير العاطفي واستخدام العقل وإعادة النظر في العديد من الأفكار التي رسخها الفكر الديني عبر عقود حتى صارت مسلمات لا تقبل الشك، وصار نشاط تلك الجماعات والتيارات أكثر خفوتًا من ذي قبل، وصارت العديد من أفكاره موضع شك وإعادة تفكير من جانب شريحة، وإن كانت قليلة، إلا أنها مرشحة للزيادة.

حتى جاءت أحداث غزة الأخيرة، والتي رغم اعتبارها حدثًا مكررًا تعيشه الأمة منذ سنوات في إطار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن هذه المرة كانت بمثابة صدمة وخيبة أمل للكثيرين، نتيجة ما تركته الاعتداءات الإسرائيلية من كوارث إنسانية لم تجد من العديد من دول الغرب الكبرى سوى الدعم والتأييد والتبرير بصورة جعلت الكثيرون يرون بأن قيم الغرب ومبادئه هشة لا تصمد أمام المصلحة ولا تعترف سوى بمنطق القوة!

هنا كان المناخ مهيأ للحركات الإسلامية لتعيد طرح منظومتها الفكرية مدعمة بالشواهد الواقعية، لاحظنا هذا الأمر من خلال العديد من كتابات بعض رموز الحركات على وسائل التواصل الاجتماعي التي انطلقت لتؤكد على صحة أفكارها وتصوراتها بخصوص العديد من القضايا مثل موقفها من الغرب وحضارته، ومن الأنظمة العربية الحاكمة، ومن عدم جدوى المسار الديمقراطي وأن القوة هي الحل الأمثل، وأن التجديد الديني واستخدام العقل ما هي إلا مؤامرة للتخلي عن الدين، إلى غير ذلك من الأفكار التي كانت من قبل سببًا للصدام والصراع في مجتمعاتنا، الأمر الذي ربما يكون له العديد من الآثار السلبية التي تعيد المجتمع عقودًا من الزمن إلى الوراء، ونحن هنا لا نسعى إلى تقديم إجابات بقدر ما نسلط الضوء على المشكلة، ونطرح الأسئلة التي ربما تثير الانتباه إلى أن هناك تحول ما يجب الالتفات إليه.

تعد الحركات الإسلامية القائمة بمكوناتها المختلفة امتدادًا لأفكار رسختها تيارات وفرق دينية جاءت في قرون الإسلام الأولى

الحركة الإسلامية.. وحدة المنطلقات وتعدد المسارات

تعد الحركات الإسلامية القائمة بمكوناتها المختلفة امتدادًا لأفكار رسختها تيارات وفرق دينية جاءت في قرون الإسلام الأولى، ظهرت في ظروف وسياقات معينة واختلفت فيما بينها في الكثير من الأصول والفروع تبعًا لذلك، وكان جوهر الاختلاف الأساسي يعود لطبيعة المنهج ونمط التفكير الذي يتبعه كل منها، فمن بين تلك التيارات من اتبع منهجًا يقوم على العقل ويضعه في مكانة متقدمة، ويعتمد عليه بشكل أساسي في فهم النصوص الدينية وفهم العديد من الأمور المتعلقة بالعقيدة والحياة والكون بشكل عام، فلم يكن ظاهر النص يمثل قيدًا أو عقبة أمامهم، لكنهم استخدموا التأويل لفهم المعاني الخافية وراء النصوص والتي تزيل الخلاف بين النص وبين مقتضيات العقل والمصلحة، ومن تلك التيارات من أغلق باب التفكير وهمّش دور العقل ووضعه في مرتبة متأخرة، فالتزم بظاهر النصوص وبما كان عليه جيل الصحابة وبالفهم الذي فهموه في سياق معين للنص، ولأن هذا النمط من التفكير هو الأكثر بعدًا عن المجازفة والأقرب إلى منطقة الراحة التي يركن إليها في الغالب العقل البشري، فكان هذا النمط أفضل وأكثر ملاءمة للعامة من الناس الذين يشكلون غالبية المجتمعات، ولظروف سياسية تمثلت في انحياز السلطة إلى تيار التقليد في مرحلة تاريخية معينة؛ فإنّ ذلك التيار استطاع أن يسود لقرون طويلة بعدما تم القضاء على ممثلي التيار العقلاني وهم المعتزلة ومن بعدهم الفلاسفة المسلمون، وصار نمط التفكير التقليدي المحافظ الذي يرى في إسلام القرون الثلاثة الأولى وفي شكل الدولة والمجتمع وفي الأسس التي يقوم عليها هي الأمور واجبة الاتباع، ودخل المجتمع الإسلامي بذلك في مرحلة من الجمود والتراجع بسبب توقف ملكة التفكير لديه، فأصابه الضعف وفقدان القدرة على التجدد والتطور، ومن رحم ذلك المجتمع خرجت الحركة الإسلامية المعاصرة ممثلة في البداية في جماعة الإخوان ثم عدد من الحركات والتيارات الأخرى، والتي جميعها يمثل نموذجًا للفكر السلفي المحافظ الذي يقوم على الاتباع والتقليد، فهي بعيدة تمامًا عن نمط التجديد الذي يمنح الإسلام الحيوية ويجعله قادرًا على مواكبة حركة الاجتماع، كما تمثل في بعض رموز التيار العقلاني في العصر الحديث بداية من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهم، وعلى ذلك فالحركات الإسلامية يجمع بينها مجموعة من الأفكار والمنطلقات المشتركة منها توصيف الواقع، وعلاقتها بالتراث، ونموذج الدولة المتخيلة لديها، والعلاقة مع الآخر الغربي، ومنهج التغيير الذي عليها اتباعه، ولا يمنع ذلك من وجود اختلافات في بعض التفاصيل الخاصة بهذه القضايا.

موقف الإسلاميون من الغرب وحضارته

في تلك الفترة التي كانت الدولة الإسلامية تعيش حالة من الجمود والتراجع ليس على المستوى العسكري، ولكن على المستوى الحضاري حين غاب النمط العقلاني وساد نمط التقليد على التفكير، كانت أوروبا تستعد نحو الخروج من عصورها الوسطى المظلمة التي ساد فيها الجهل والاستبداد والفساد والتفكير الخرافي الذي ساهم فيه الفكر الديني حينذاك، استغرقت تلك الرحلة نحو ثلاثة قرون حتى استطاعت أوروبا الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث الذي يختلف كليًا في الأساس الذي يقوم عليه وذلك خلال القرن الثامن عشر، حينذاك بدأ فصل جديد من الاحتكاك بين الغرب والدول الإسلامية مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، حينها فوجئ العالم الإسلامي بمستوى التقدم الذي وصل إليه الغرب، وتساءل العقل العربي عن أسباب التخلف وعن عوامل النهضة والتقدم، وقد قامت الحداثة الغربية على عدد من القيم والمبادئ التي بشرت بها مثل الحرية والعلم والعقل والمساواة وحقوق الإنسان، وعمل الغرب على نشر وربما فرض نمط الحداثة الخاص به على باقي المجتمعات ومنها المجتمعات العربية من خلال الاستعمار قديمًا وسياسة العولمة حديثًا، والحداثة الغربية كما يقول الدكتور أحمد زايد في كتابه "تناقضات الحداثة" تعبر عن تغير جذري حدث في البناء الفكري والفلسفي للمجتمع الغربي، وفي أنماط التفكير، وأنماط الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية، والبنية الثقافية، وفي العلاقة بين الفرد والدولة، وبين الفرد وذاته، وفي الطريقة التي تُبنى بها نظم الحكم، وقد اختلفت الآراء والتيارات الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي تجاه الحداثة الغربية وأفكارها بين من يرى ضرورة الاتباع للغرب، ومن يرى ضرورة التمسك بالأصول والرجوع إلى الماضي خوفًا من الذوبان وفقدان الهوية، وبين من يرى التوفيق بين الأمرين.

إن ما يحدث يمثل تهديدًا لقيم الحضارة الإنسانية، ويساهم في تقديم قيم الصراع والقوة المتوحشة والعداء والكراهية والفوضى وعدم احترام القوانين إلى الواجهة، وتأخير قيم العدل والحرية والعقل والتسامح والديمقراطية إلى الخلف

 

وقد خرجت الحركة الإسلامية المعاصرة ممثلة في البداية في جماعة الإخوان في ظل سياق اجتماعي وسياسي مضطرب؛ حيث الاستعمار وسقوط الخلافة العثمانية ودخول أفكار جديدة وغير مألوفة إليه نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية؛ فكان هناك خوف وشعور بالتهديد من جانب مؤسس الجماعة تجاه الهوية الإسلامية، الأمر الذي جعله يتخذ موقفًا رافضًا للحضارة الغربية في جانبها الفكري والثقافي، واستمر ذلك الشعور مع الوقت مما كان دافعًا لظهور العديد من التنظيمات والتيارات الدينية الأخرى خلال القرن العشرين، فكل تلك التنظيمات والتيارات نشأت من رحم الخوف، وعاشت في مناخ من القلق والشعور بالتهديد والاقتناع بوجود مؤامرة على الدين والهوية، وبحكم قدرتها على التأثير استطاعت الانتشار وتشكيل عقل شريحة كبيرة من المجتمع، وجعلت من بنيتها الفكرية والنفسية ثقافة سائدة لدى تلك الشريحة، وهذه المنظومة الفكرية تتضمن عددًا من التصورات والأفكار، منها ما هو متعلق بتوصيف الواقع العربي/ الإسلامي وأسباب ضعفه وعوامل نهضته، وما هو متعلق بالموقف من الغرب وحضارته وطبيعة العلاقة معه والأسلوب الأمثل للتعامل تجاهه، وما هو متعلق بنمط العلاقات بين الدول الإسلامية.

خرجت الحركة الإسلامية المعاصرة ممثلة في البداية في جماعة الإخوان في ظل سياق اجتماعي وسياسي مضطرب

ومن هذه التصورات والأفكار أن تلك التنظيمات تفهم الإسلام على أنه دين شامل يجب تطبيق أحكامه في كل جوانب الحياة، والشريعة في نظرهم هي الأحكام المستقرة في المذاهب الفقهية المعتبرة دون حاجة إلى تجديد إلا في نطاق يضيق ويتسع قليلًا من تنظيم لآخر، وهم يرون أن المجتمعات الإسلامية بعيدة عن الإسلام ولا تطبق الشريعة، ويرى كل من تلك التنظيمات أنه هو الأكثر فهمًا للإسلام وبالتالي يجب أن يصل هو إلى السلطة حتى يطبق الشريعة بصورة صحيحة، كما ترى تلك التنظيمات أن استخدام القوة هو السبيل لإصلاح المجتمع وإقامة الدولة ومواجهة الغرب، مع اختلافات فيما بينهم، فمن تلك التنظيمات من يرى أن القوة خيار وحيد، ومنها من يرى أنها ربما تأتي في مرحلة معينة بعد استنفاد عدد من الوسائل كجماعة الإخوان، كما يلاحظ أن تأثير نمط الفكر السلفي القائم على التقليد لدى تلك التنظيمات يجعلها تفهم القوة في صورتها المادية حيث هي الصورة التي كانت تعتمد عليها المجتمعات قديمًا، فترى أن امتلاك القوة من سلاح وخلافه هو الذي يضمن لها تحقيق أهدافها، ولذلك نجد في أدبياتها الحديث عن الجهاد بصورته التقليدية سواء جهاد الدفع أو الطلب، ونراها تفتخر دومًا بالفترات التاريخية التي في حياة الأمة الإسلامية التي كانت فيها الدولة قوية ممتدة الأطراف ومسيطرة على مساحة كبيرة من الجغرافيا، أكثر من تلك الفترات التي كانت فيها الدولة قوية بامتلاكها حضارة وأفكار وفلسفة وعلوم وفن، فكان نموذج القوة لديهم عسكريًا وليس حضاريًا، ولذلك نجد افتخار التنظيمات بمرحلة الدولة العثمانية في فترات توسعها على الرغم من ضعفها حضاريًا، ولذلك أيضًا نجد أن النموذج الذي لدى تلك التنظيمات عن الدولة هو النموذج الإمبراطوري الذي يتمثل في دولة قوية واسعة المساحة تقع تحت سلطة حاكم واحد وتسعى إلى السيطرة والتوسع ونشر الدين في العالم، كما ترى تلك التنظيمات أن العلاقة مع الغرب قائمة دومًا على الصراع، وأن الغرب يسعى دائمًا للسيطرة والهيمنة على الدول الإسلامية ويهدد دينها وهويتها ويعمل على تفكيك مجتمعاتها واستغلال مواردها وثرواتها، ويرى التيار الجهادي خاصة أن الحديث عن السلام والتعاون مع الغرب والتفاهم الفكري وما إلى ذلك إنما هي محض أوهام ليس لها أساس من الواقع وأن العلاقة مع الغرب هي علاقة صراع صفري، كما ترى تلك التنظيمات أن كل الأفكار الواردة من الغرب والتي هي تعبر عن الحضارة الغربية إنما في الغالب تناقض أفكار الإسلام ولا تصلح للمجتمعات الإسلامية، وأنها تهدف إلى التأثير على الهوية، وأن أي محاولة للتجديد أو الإصلاح من داخل المجتمعات الإسلامية وأي طرح فكري يخالف ما يرونه بأنه الفهم الصحيح للدين يكون في نظرهم حربًا على الدين ومحاولة لتمييعه وتضييعه.

الآثار السلبية لأحداث غزة

هذه الأحداث التي بدأت في غزة مؤخرًا ولاتزال مستمرة تركت أثرًا شديد السلبية على الغالبية في المجتمعات العربية، وهذا الأثر له مستويين؛ الأول خاص بغير المنتمين تنظيميًا لحركات وتيارات إسلامية أي أنه خاص بعموم المجتمع، والثاني خاص بالمنتمين لتلك الحركات، والمستوى الأول يمثل المناخ والبيئة المهيأة التي تعمل فيها الحركات. فبالنسبة للمستوى الأول فإنه بجانب ما خلقته الأحداث من مشاعر التعاطف والغضب لما يحدث من تداعيات إنسانية جراء القصف والقتل والتدمير، فإنها خلقت، نتيجة الدعم الغربي والتبرير للجرائم التي تحدث، شعورًا بالإحباط وخيبة الأمل، وقناعة بأن القوة هي الحل وأن القيم والمبادئ التي يدعيها الغرب ليست نابعة من إيمان عميق ومطلق بها، لكن تتحكم فيها المصالح والتحالفات السياسية وأنها لا تُطبق تجاه العرب، وقد لاحظنا عددًا من الكتابات على مواقع التواصل لأفراد لا ينتمون إلى التنظيمات الإسلامية ولا إلى التيار الإسلامي عمومًا تتضمن هذه المعاني، مثال على ذلك ما كتبه أحد الممثلين المشهورين على صفحته قائلًا "ما اسمعش أي حد بعد كده يتكلم في قيم ودين وحضارة وأخلاق"، وما كتبه أحد الصحفيين المصريين قائلًا "الغرب سقط أخلاقيًا"، ومنشور لأحد أساتذة اللغة العربية في جامعة مصرية يقول فيه "سقطت أقنعة الحضارة الغربية، ورأينا المسافة الهائلة بين شعاراتها الإنسانية الزائفة وقبح عنصريتها ودمويتها"، ومنشور آخر كتبه أحد أساتذة الفلسفة في الجزائر قائلًا " أصبحت أخجل من طلابي الذين درستهم عبر عقود فلسفة الأنوار، وما لحقها من فلسفات غربية حديثة ومعاصرة تمجد مفاهيم: الحق، العقلانية، الإنسانية، القيم، الأخلاق، التقدم، العدالة، الإنصاف، حقوق الإنسان، الحرية، النقد.. إلخ، اعتذر لكم طلابي الأعزاء، لأنني كنت مشاركًا في خداعكم، الغرب هو أكبر أكذوبة عرفها التاريخ"، وهذا المنشور تم إعادة نشره من متابعي الصفحة لأكثر من أربعة آلاف مرة، مما يعكس قناعة به وبكونه يمثل شعورًا غالبًا عند الكثيرين، ومنشور آخر للدكتور محمد البرادعي يتضمن المعاني نفسها يقول فيه "إن المزاج السائد بين غالبية العرب اليوم هو الغضب العميق، واليأس الذي يعيد إحياء مشاعر الظلم والإذلال، التي يعود تاريخها إلى حرب العراق، والعديد من المآسي الماضية في المنطقة، وقد ألغى هذا الغضب أي مشاعر تعاطف إنساني مع الطرف الآخر. قناعة راسخة بأنه لا يوجد قانون دولي أو مؤسسات دولية، وأن القوة المجردة فقط هي التي تهم، ومع بعض الدعوات للحصول على أسلحة نووية. اعتقاد راسخ بأن العالم الغربي متحيز تمامًا ويطبق معايير مزدوجة بوقاحة! وأن الحرب هي في الأساس حرب دينية، وهو اعتقاد أكدته تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين.. إذا لم تتم معالجة عقلية الظلم وعدم المساواة والمعايير المزدوجة هذه بشكل عاجل، فسيكون لها عواقب وخيمة على المستوى الإقليمي والعالمي!"، وهذه مجرد نماذج للتوضيح على انتشار هذا الشعور وأنه يمثل حالة عامة.

سياسة الغرب تجاه الدول العربية تساهم في إعاقة محاولة الإصلاح والتجديد الديني في مجتمعاتنا، حيث دائمًا هناك شعور بالخوف والخطر تجاه الهوية والدين لدى التيار الإسلامي الذي يعمل بدوره على ترسيخ هذا الشعور في العقل الجمعي

 

الأكثر أهمية من هذا هو ما يتعلق بالمستوى الثاني حيث إن هذه الأحداث وهذا الموقف الغربي الداعم بلا قيود لإسرائيل؛ قد بث الروح في الفكر الإسلامي الحركي خاصة الجهادي منه، ووفر له البيئة المناسبة التي يستطيع أن ينتشر فيها ويؤثر، ومنحه المبررات والشواهد الواقعية للتأكيد على صواب أفكاره وتصوراته، الأمر الذي من الممكن أن يمثل انكسارًا لمسار إصلاح ديني كان في بدايته، وذبول لبذرة عقلانية كانت في طريقها إلى النمو، وانتشار لثقافة التطرف التي بُذلت كثير من الجهود لمواجهتها طيلة سنوات، وطريق لعودة العنف في الواقع بعد أن تم التغلب على الكيانات الممارسة له وإضعافها.

هذه الأحداث التي بدأت في غزة مؤخرًا ولاتزال مستمرة تركت أثرًا شديد السلبية

ومن الممكن استعراض بعض النماذج من كتابات عدد من الشخصيات التي تمثل الحركات والتيارات الإسلامية المختلفة على وسائل التواصل والتي توضح هذه المعاني، أحد المنشورات جاء فيه "من كل قلبي خالص الشكر يا أبناء() فقد أخرست تصريحاتكم ألسنةً صدعتنا بتجميلكم رغم وضوح قبحكم، شوف يا أخي أنت تقعد سنين تنشر الوعي وتشرح للناس حقيقة الغرب الكافر وتهاتي في عقول منغلقة وتناحر مع ناس منبطحة وتؤذى في سبيل ذلك من أذنابهم في بلدك ثم يريك الله الثمرة من حيث لا تحتسب".

وآخر يقول "أنظر جيداً..لا تُبعدْ عينيك عن صور الدماء والأشلاء والجثث المتفحمة؛ حتى لا يأتي يومٌ ترى فيه المجاهدين يُشعلون هذا العالم القذر فتقول: إنهم خوارج بُغَاة يُشوِّهونَ صورةَ الإسلام السمحة.. وقتها لن تكون أكثر من حشرة يتوجب على المجاهدين دعسها أولاً!"،

كما يعلق أحد الإسلاميين على تصريح وزير الخارجية الأمريكي التي يقول فيها أنه لم يذهب إلى إسرائيل كوزير خارجية ولكن كيهودي فر جده من القتل، فيقول "هذا (بلينكن) جاءكم يعلمكم أصول العقيدة، ومعاني المفاصلة، وبديهيات الولاء والبراء"، ويقول نفس الشخص أيضًا "اعلم أن الزمن القادم لن يكون أكثر من رصاصة تُطلقها أو تتلقاها، فتعلم الآن كيف تُطلقُها كي لا تتلقاها"، ويقول في إطار توصيف أزمة العالم الإسلامي "الوهن مرض الأمّة النفسي، وعلاجه القتل والقتال في سبيل الله"،.

ومنشور آخر لأحد رموز الإسلاميين يقول فيه "الآن نرى كيف أننا ندفع الثمن من دمائنا! بهذا الدم ندفع ثمن الغفلة والجبن والخيانة! كل كلام كان يحرف أمتنا وعقلها وقلبها عن الطريق الوحيد الصحيح كان خداعًا ندفع ثمنه الآن أرواحًا غزيرة، ترى كم سنبقى نبحث عن أمننا الشخصي ونرتبط بمصالحنا الشخصية ونقول الكلام الذي لا يهدم السقوف ولا يخرق الخطوط، فتنخدع به فئات وأجيال، فندفع الفاتورة من دمائنا من جديد؟ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)، ويقول أيضًا "هذه واحدة من اللحظات البشعة المريرة التي نجني فيها مرارة الغرس القسري المستمر للفكرة الوطنية والقومية التي تزاحم الانتماء الإسلامي والهوية الإسلامية.. الوطنية خدعة، وهذه الأوطان هي على الحقيقة زنازين، سموها أوطانًا ليخادعوا المساجين المساكين، فيحسبون أنها تحميهم وتكفيهم، والقصد أن تحبسهم وتكويهم"، ويقول كذلك "لن يتحرر بيت المقدس دون تحرير القاهرة ودمشق".

 ويقول أحد الإسلاميين المشهورين على وسائل التواصل "من أجمل المنح التي أثمرتها الأحداث الأخيرة في قلوب الناس أنها كانت سبيلًا لعودتهم إلى دينهم، ولا أعني هنا التوبة والاستغفار فحسب، بل وإدراك المعاني العظيمة التي نزلت بها الشريعة، ومنها: أن تعلم أن الآخرة خير وأبقى، وأن الرضا بالدنيا ليس هو إعمار الأرض الذي أرادته الشريعة، هذا الشباب الغارق في محاضرات التنمية البشرية واللاهث خلف الماجستير والدكتوراة والمغرم بكل ما هو غربي بدا أنه قد أفاق، قد لا يترك سعيه في الحياة الدنيا، وما أمرته الشريعة بهذا، وقد لا يدع الانتفاع بما عند الغرب وقد يواصل السير في طريق الماجستير والدكتوراة لكن عينه على القدس وعينه الأخرى لا تغفل عن مكر الأعداء وخبثهم، أسقطت الأحداث "وجدت إسلاما بلا مسلمين"، وأدرك الشباب أن رجلًا من هذا الشعب الصامد يريد إعلاء كلمة الله أفضل من هذا الجالس إلى مكتبه يحتسي القهوة متفاخرًا بإنجازاته الدنيوية، إنه انتقال من النجاح الدنيوي إلى الفلاح والفوز الكبير، من إعمار الأرض بمعنى الخلود إليها والركون إلى إعمارها بإعلاء كلمة الله والتزود إلى الآخرة"، وهذه أيضًا مجرد نماذج لعشرات الكتابات التي تعبر عن تلك الحالة فضلًا عن عدد المتابعين الذي يتفاعلون معها في صورة تعليقات مؤيدة وإعادة نشر.

تقدير حالة

من الممكن إجمال بعض الملاحظات والنتائج في نقاط:

- إن ما يحدث يمثل تهديدًا لقيم الحضارة الإنسانية، ويساهم في تقديم قيم الصراع والقوة المتوحشة والعداء والكراهية والفوضى وعدم احترام القوانين إلى الواجهة، وتأخير قيم العدل والحرية والعقل والتسامح والديمقراطية إلى الخلف، مما يؤثر على استقرار المجتمعات سواء في الشرق أو الغرب.

- سياسة الغرب تجاه الدول العربية تساهم في إعاقة محاولة الإصلاح والتجديد الديني في مجتمعاتنا، حيث دائمًا هناك شعور بالخوف والخطر تجاه الهوية والدين لدى التيار الإسلامي الذي يعمل بدوره على ترسيخ هذا الشعور في العقل الجمعي؛ وينتج عن ذلك رفض أي طرح فكري أو محاولة لإصلاح الفكر الديني باعتباره جزء من المؤامرة الغربية على الإسلام.

هذه الأحداث والسياسة الغربية بشأنها ربما تساهم في استعادة الحركات الجهادية نشاطها من خلال عمليات سواء في دول عربية أو غربية

- هناك فهم مغلوط تجاه قيم الحضارة الغربية، حيث يُنظر إليها على أنها خاصة بالغرب فقط ومن إنتاجه الخالص، وبالتالي يتم رفضها باعتبارها تمثل ثقافة متناقضة مع الإسلام، لكن في الواقع أن العديد من تلك القيم يمثل قيمًا إسلامية أصيلة لم يستطع التيار التقليدي السلفي فهمها واستيعابها نظرًا لرؤيته السطحية، فقيم مثل العدل والعقل والحرية وغيرها كلها قيم إسلامية، وهي لا تقتصر على الإسلام بالطبع، لكنها قيم يستطيع العقل أن يصل إليها من نفسه وهذا ما فعله الغرب.

- ربما يكون في تشخيص الحركة الإسلامية للواقع بكل مكوناته بعض المنطق، لكن لا يعني هذا بالضرورة أن الحلول التي وضعوها صحيحة، فالمنظومة الفكرية للحركة الإسلامية بها العديد من العيوب التي تتسبب في الواقع العملي في الكثير من الأزمات ولا تساهم في تقدم المجتمع.

- هذه الأحداث والسياسة الغربية بشأنها ربما تساهم في استعادة الحركات الجهادية نشاطها من خلال عمليات سواء في دول عربية أو غربية.

- امتلاك القوة المادية أمر ضروري للدول، لكن تلك القوة ليست فقط قوة السلاح كما ترى الحركة الإسلامية، ولكن ينبغي أن تكون بجانبها قوة العقل والعلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، فالمجتمعات تكون قوية بذلك وليس بالقوة المادية المجردة من كل هذا والتي تعيد البشرية إلى عصورها الوسطى المظلمة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية