لم يكن مدفع رشاشٍ ذاك الذي بيد داوود؛ بل مقلاع، وقد وقف ذلك الفتى، وعيونه تشتعل أملاً، فوق ترابه الوطني الفلسطيني، ملوّحاً بمقلاعه الذي يضمّ في جرابه حجراً متكوراً، التقطه من البستان المجاور، مستلهماً قصة النبي داوود، إذ كان النبي في القصّة، التي قرأها مراتٍ عديدةً، بنفس عمره، حين قتل القائد العسكري جالوت، أو "جليات"، بحجرٍ كهذه التي يحملها بمقلاعه، وترقبها عيناه من فترةٍ لأخرى، ليتأكّد أنّها ما زالت هناك في جيب المقلاع، الذي خاطته له أمّه، ليواجه به المدرعات، والسيارات العسكرية الصهيونية، بعيداً عن بيته وقريته؛ بل وليخيف به جنوداً متغطرسين، ترتعد فرائسهم، خشية أن يصيبهم حجرٌ يرشقه داوود، فيقتلهم، أو يترك جرحاً غائراً يدوم طويلاً في أبدانهم.
يلحظ كلّ قارئٍ جيدٍ للتاريخ أنّ داوود الفلسطيني لن يملَّ من كفاحه ولن يتوقّف عن مقاومته
نعم، الرواية الدينية تقول: إنّ داوود كان عبرانياً، وجالوت أو جليات كان فلسطينياً. لكن، لو سألت الفتى الفلسطيني داوود، من منهما أقرب لقلبك؟ لكان ردّه: نبي الله داوود، فهو مؤمن مثلي تماماً، وليس كمثل هؤلاء الصهاينة، الذين يقتلون الأطفال بدمٍ باردٍ؛ بل إنّني قرأتُ يوماً، أنّهم اتّهموه، أي النبي داوود، بأنّه زنا بامرأة أحد حراسه في غيابه، ومن ثمّ أمر رفاقه بقتل ذلك الحارس، وسجد للأوثان من دون الله. فمن، لعمرك، أقرب لداوود النبي مني، وأنا من يجلُّه، ويوقّره أكثر من قاتلي النساء، والأطفال هؤلاء؟
ثم استطرد داوود الفلسطيني، قائلاً: سأقصّ عليكم قصةً حصلت لي في الأسبوع الماضي؛ حيث تقدّمت إحدى مدرعات الصهاينة إلى كروم الزيتون في قريتنا، وخفت أن تتقدّم أكثر، فتكسر شجرة الزيتون التي غرستها إحدى جداتي، في يومٍ مشمسٍ عتيقٍ، فأخذت مقلاعي، وتحصّنت في مكانٍ بين صخور الكروم، ولم أزل أرشق تلك المصفّحة بحجرٍ تلو الآخر، ومناظيرها تستدير، يميناً وشمالاً، بحثا عني، لكنّهم لم يستطيعوا تحديد مكاني الذي أرميهم بالحجارة منه. لقد أطلقوا رصاصاً حياً، ورصاصاً مطاطياً، وقنابل غازيةً، هنا وهناك. لكنّهم لم يعرفوا مكاني؛ فقد سترتني أرضي بسترها، وحمتني بجناحها، وطمست أغصان الزيتون على أعينهم، فلم يستطيعوا أن يبصروني. وقد ألقت تلك الحجارة الطاهرة، في نفوس المتحصنين في ذلك الصندوق الحديدي، الرعب والهلع، فارتدوا بكومة الحديد تلك، مبتعدين إلى خارج الكروم.
لقد حميت بمقلاعي، في ذلك اليوم، أشجار الزيتون، وبقيت أغصانها الخضراء، تعانق أشعة الشمس بكلّ حرية.
حكاية داوود الفلسطيني فصل من فصول كرٍّ وفرٍّ تتكرّر كلّ يومٍ منذ قرابة قرن من الزمان
أقول بعد سماعي قصة البطولة هذه: إنّه لا يعرف رمزية المقلاع، ودلالاته الموغلة في التاريخ القديم، إلّا داوود الفلسطيني، وجليات الصهيوني. إنّها مواجهة بين غرٍّ رقيق البنية، مفتقرٍ للمتاريس، والدروع، والرماح، والرشاشات، ينتهض عاري الصدر، إلّا من إيمانه بحقّه في الوقوف، فوق ثرى أجداده، لينافح عن زيتونه، وبرتقاله، وعنبه، بحجارةٍ صغيرةٍ جادت بها أرضه عليه، عندما رأت ضيق صدره، أمام "جليات" الذي يريد أن يسلبه حقّه في الوجود، متمترساً بدروعه، ودباباته، ومدافعه الرشاشة.
وفي موقعة أخرى؛ عندما أخذ الكبر والتبجح، كلّ مأخذٍ من نفس "جليات"، وأصحابه من الجنود الصهاينة، المدججين بكلّ أدوات القمع والقتل، فشرعوا بإطلاق وابلٍ من الرصاص وقنابل الغاز، نحو شبابٍ خرجوا، في قرية داوود الفلسطيني، يذودون عن وطنهم بأذرعهم وهتافاتهم، لقد خرج كلّ فتيان القرية، وبينهم داوود، ردّاً على الصهاينة يومها، ولا يحملون سلاحاً بأيديهم، إلّا حجارةً صغيرةً.
وعندما اقترب الفتية من عصبة الصهاينة تلك، أدخل داوود الفلسطيني يده في جيبه، وأخرج منها خيطاً، في منتصفه رقعة من جلد، وهمَّ بالتقاط حصاة يلقّم بها ذاك الجراب الجلدي، فوجد أنّ كلّ الأرض من حوله غدت أياديَ تتسابق لإمداده بأفضل الحجارة التي بحوزتها، فتناول أكثرها تكوّراً، ولسانه يتمتم شاكراً ثرى وطنه، الذي جاد عليه بسلاحٍ لا ينضب، يرجم به متغطرساً استولى، من قبل، على بيوت أقاربه ومزارعهم، وجاء اليوم ليأخذ بيته وأشجاره.
وعندما لوّح داوود الفلسطيني بمقلاعه، بشكلٍ دائريٍّ، ومتكرّرٍ، ثمّ أفلت أحد طرفي الخيط، انطلقت مقذوفةٌ من جرابه ذاك، وما لبثت الحصاة أن استحالت إلى عشرات المقذوفات، فظنّ داوود أنّ معجزةً قد حصلت، لكن عندما التفت خلفه، وجد مئة داوود فلسطيني، غُرست أقدامهم في تراب فلسطين الأحمر، يلقمون مقاليعهم بالحجارة بدأبٍ مستمرٍّ، ليرموا بها من جديدٍ.
خرج كلّ فتيان القرية وبينهم داوود ردّاً على الصهاينة ولا يحملون سلاحاً بأيديهم إلّا حجارةً صغيرةً
وأوجس" جليات" وجنده خيفةً، عندما رؤوا حجارةً من سجيل، تتساقط عليهم كسفاً، وترتطم بآلياتهم، فردّوا بإطلاق النيران من أسلحتهم، فأُصيب بعض الشبان برصاصٍ حيٍّ، وتمّ إخلاؤهم من المكان.
لكنّ الشبان الآخرين صمدوا بكلّ شموخ، وظلوا يرشقون جنود الاحتلال بزخّاتٍ جديدةٍ من حجارة فلسطين.
وهنا، لاحت في ذهن داوود الفلسطيني فكرةٌ، هي أن يستهدف كبيرهم، الذي ما زال واقفاً هناك، يحثّ جنوده على دخول البساتين والمزارع، لتعقّب الشباب المقاوِم. فأطلق داوود حجراً نحو جبهة "جليات"، لكنّ، هذا الأخير، تحرّك قليلاً، قبل أن يصله الحجر المقذوف، الذي ارتطم بخوذته العسكرية البلاستيكية، فتهشّمت، وسقط "جليات" الصهيوني أرضاً، فركض إليه أعوانه مذعورين، وقد تملكهم الخوف من أن يكون رأسه قد تحطم، لكنّه نهض مترنّحاً، بوجهٍ أزرقٍ لا حياة فيه، وأمر جنوده بالانسحاب فوراً من المنطقة.
داوود الفلسطيني لم يعد يافعاً بل اشتدّ ساعده وأصبح أكثر مِراساً ودربةً في النزال
عرف حينها الشبان الفلسطينيون، أنّ "جليات" الصهيوني سوف يعود بتعزيزاتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ، فانسحبوا "تكتيكياً"، وعادوا إلى منازلهم، وبقيت الطائرات الصهيونية تحوم لساعات طويلة ليلاً، فوق تلك البساتين، ومن ثمّ هجم "جليات" وزمرته على القرى المجاورة، وقاموا باعتقالات كثيرة، لكنّهم لم يعثروا على داوود الفلسطيني.
نعم، لم تنتهِ هذه القصة، كما انتهت القصة التاريخية، بمقتل "جليات" الصهيوني، وانتصار داوود الفلسطيني. لكنّها كانت فصلاً من فصول كرٍّ وفرٍّ، تتكرّر كلّ يومٍ على أرض فلسطين، منذ قرابة قرن من الزمان.
ويلحظ كلّ قارئٍ جيدٍ للتاريخ؛ أنّ داوود الفلسطيني لن يكلَّ، ولن يملَّ، من كفاحه، ولن يتوقّف عن مقاومته لاسترداد ثرى أجداده، وإن لم يقبل "جليات" أن ينصفه، ويعطيه حقّه بطيب خاطر، فسيكون خطأ ذاك الصهيوني جسيماً، وستكون عواقبه وخيمةً.
عندها، سيدرك أنّ داوود الفلسطيني لم يعد ذلك الفتى الصغير اليافع؛ بل اشتدّ ساعده، وأصبح أكثر مِراساً، ودربةً في النزال. وعندها؛ سينتزع حقوقه المشروعة كاملةً، بذراعه ومقلاعه، اللذين لن يخذلاه أبداً.