
أجرى الحوار: رامي شفيق
بدت معركة الصراع ضد حركة النهضة، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين في تونس، قائمة رغم الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في تموز (يوليو) من عام 2021، وذلك نظراً لتمدد جذور التنظيم في أجهزة الدولة واعتماده على ممارسات الكمون والتقية، ترقباً لزمن وظرف ملائمين لاستئناف الحركة والنشاط.
وفي هذا السياق، قال الكاتب الصحفي خليل الرقيق: إنّ الحديث عن استمرار نفوذ حركة النهضة داخل مؤسسات الدولة يرتبط فعلاً بمخلفات سنوات حكمها، إلا أنّ من المهم تحديد المجالات التي ما يزال فيها حضور إخواني.
وتابع الكاتب التونسي خليل الرقيق، في حوار خصّ به موقع (حفريات)، أنّ حركة النهضة تسعى إلى تحقيق حلم العودة عبر بوابة التحالفات السياسية، نظراً لرفض الشارع التونسي عودتها بالشكل القديم.
وهنا نص الحوار:
كيف ترى التهديد الذي تمثله حركة النهضة على استقرار الدولة التونسية، خاصة أنّ هذه التنظيمات تتجذر في العمق وتلتزم الكمون؟
ـ أرى أنّ الدولة التونسية نجحت بدرجة كبيرة في الحدّ من مخاطر هذا التهديد، الذي يظل قائماً بالنظر إلى التاريخ الطويل لقدرة الإخوان على التكيف مع أوضاع الصراع. فتهديد حركة النهضة للدولة والمجتمع لا يكمن في واجهتها الحزبية العلنية، بل في ما تختزنه من أجهزة سرّية للعنف والاختراق. وقد استوعبت الأجهزة السيادية للدولة هذا الخطر بعد تثبيت منظومة 25 تموز (يوليو)، حيث تم تحرير المرفق القضائي من هيمنة الحركة، فظهرت الملفات الدفينة، وعلى رأسها ملف الجهاز السري للحركة، الذي أصبح موضوع قضية جزائية تورطت فيها قيادات من الصف الأول، من بينهم راشد الغنوشي وعدد من أصهاره ومقربيه، إضافة إلى عناصر معروفة كـ "مصطفى خذر وسيد الفرجاني"، إلى جانب عدد من المنتمين سابقاً إلى المؤسستين الأمنية والعسكرية، ممّن شاركوا في محاولتين انقلابيتين: الأولى أُحبطت استباقياً في تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 عند وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم، والثانية تم إجهاضها سنة 1991 وكانت من تدبير عناصر نهضوية ضمن ما عُرف بـ "مجموعة براكة الساحل". وفي الواقع، لا بدّ أن تظل الأجهزة الأمنية التونسية في حالة يقظة دائمة، نظراً لما يضمره تاريخ هذا التنظيم من أساليب الكمون والتقية، إضافة إلى خيوط ارتباطاته الخارجية وتمويلاته المشبوهة.
إلى أيّ مدى تعتقد أنّ النهضة ما تزال تمتلك نفوذاً داخل مؤسسات الدولة، رغم الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد؟
ـ الحديث عن استمرار نفوذ حركة النهضة داخل مؤسسات الدولة يرتبط فعلاً بمخلفات سنوات حكمها، لكن من المهم تحديد المجالات التي ما تزال تشهد حضوراً إخوانيّاً. من الواضح أنّ التغييرات العميقة التي مسّت المنظومتين الأمنية والقضائية، إضافة إلى قرار الرئيس قيس سعيّد بحلّ المجالس البلدية، قد ساهمت إلى حد كبير في تقليص نفوذ النهضة. لكنّ المعضلة الكبرى تكمن في تواجد عناصرها بشكل مكثف داخل الجهاز الإداري، نتيجة لسياسة الانتدابات المبنية على الولاء التي نُفذت خلال فترة حكمها، والتي شملت مؤسسات ومنشآت عمومية، وبعضها تم اعتماداً على شهادات علمية مشكوك في صحتها، وهي حالياً محل تحقيق من قبل لجنة وطنية مختصة. لذلك يعتبر الرئيس أنّ التطهير والإصلاح الإداري من أساسيات "حرب التحرير الوطني الجديدة"، وهناك إصرار على المحاسبة القضائية لكل من يثبت تورطه في الفساد الإداري أو المالي، أو في التلاعب بقوت المواطنين عبر دعم المحتكرين والمضاربين، وهي ظاهرة تقلصت بفعل حزم أجهزة الرقابة والأمن.
هناك حديث عن محاولات النهضة للعودة عبر تحالفات سياسية جديدة، ما مدى جدية هذا السيناريو؟
ـ بالفعل، تسعى الحركة إلى العودة عبر بوابة التحالفات السياسية، نظراً لرفض الشارع عودتها بالشكل القديم. وتعتمد في ذلك على مسارين: الأوّل يتمثل في استخدام المنصات الخارجية التي تنشط من خلالها عناصر هاربة بعد 25 تموز (يوليو) 2021، مستفيدة من علاقاتها مع أطراف دولية كالكونغرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي، إضافة إلى منظمات حقوقية دولية غير حكومية ارتبطت سابقاً بمشروع "الشرق الأوسط الجديد". أمّا المسار الثاني، فهو محاولة خلق واجهة تعددية عبر التحالف مع أحزاب صغيرة وشخصيات انتهازية استفادت من نظام المحاصصة في عهد النهضة، مثل "جبهة الخلاص الوطني"، التي تسعى لتقديم نفسها كمعارضة متنوعة، رغم أنّها لم تحقق أيّ اختراق يُذكر في المشهد الرسمي أو الشعبي. هذه المحاولات، رغم تأثيرها التشويشي، قوبلت بإرادة وطنية رافضة لأيّ عودة إلى الوراء.
كيف تُقيّم أداء الرئيس قيس سعيّد منذ إعلانه التدابير الاستثنائية في 25 تموز (يوليو) 2021؟
ـ كان الرئيس قيس سعيّد على موعد مع لحظة تاريخية عند إقراره التدابير الاستثنائية، مجسداً تطلعات التونسيين الذين منحوه ثقتهم سنة 2019. ولأنّه لم يكن منتمياً لأيّ حزب أو تحالف سياسي تقليدي، اتخذ قراراته بتجرد تام من أجل المصلحة العامة. ويمكن تلخيص منجزه في "شرعيتي التفكيك والبناء": تفكيك منظومة الإخوان من دستور محاصصي، وبرلمان هش، وأذرع قضائية وأمنية مسيّسة، ثم الشروع في بناء منظومة جديدة تنحاز للدولة الاجتماعية وتكافح الفقر والبطالة، وتسعى إلى تنمية اقتصادية تقوم على السيادة الوطنية والتعويل على الذات، وهو ما بدأ يتجسد تدريجياً منذ انتخابات 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
ما أبرز التحديات التي تواجه الرئيس سعيّد في محاولته تطهير الدولة من الفساد والتحالف مع التنظيمات المتطرفة؟
ـ تواجه الرئيس تحديات داخلية وخارجية كبرى؛ داخلياً، ما تزال آثار التحالف السابق بين أحزاب الحكم ورموز اقتصاد الريع والمحتكرين تشكل عائقاً حقيقيّاً داخل الإدارات. وخارجيّاً هناك تأثير مباشر للتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، كأزمة أوكرانيا وانعكاساتها على أسعار الغذاء والطاقة، فضلاً عن تطورات الصراع العربي-الصهيوني، وعودة الجماعات المتطرفة بدعم بعض القوى الإقليمية والدولية. لذلك لا خيار سوى الاستمرار في الإصلاح والبناء، مع تعزيز الوحدة الوطنية والتصدي لمحاولات الإرباك.
إلى أيّ مدى ترى أنّ الرئيس سعيّد قادر على بناء مشروع سياسي واقتصادي متكامل، أم أنّ غياب الحاضنة السياسية يضعفه؟
ـ المشروع السياسي للرئيس سعيّد يتميز عن المشاريع التقليدية، حيث يرتكز على فكرة الدولة الاجتماعية والانطلاق من روح انتفاضة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 لا من سردية 14 كانون الثاني (يناير) 2011. ويهدف المشروع إلى إعادة الاعتبار للخدمات العامة، والاعتماد على الذات، وتقليص التبعية والمديونية، وتحقيق تنمية وطنية شاملة. ورغم محدودية الحاضنة الحزبية، فإنّ الحاضنة الشعبية تظل نقطة قوته الأساسية، إذ ينطلق مسار البناء الجديد من تفاعل الشعب لا من إرادة الأحزاب.
هل تخشى على تونس من سيناريوهات تصعيدية من طرف النهضة في ظل التطورات السياسية وتحالفاتها الخارجية؟
ـ لا خوف على تونس ما دامت الرؤية المستقبلية واقعية وعقلانية. الإصلاحات تحتاج إلى وقت وصبر ووحدة وطنية لحمايتها. أمّا التصعيد من قبل تحالف المنظومة القديمة، فهو مجرد انعكاس لحالة الارتباك بعد فقدانهم السيطرة، ولن يغير من مسار التغيير الذي حظي بدعم شعبي واسع، ترجمته قرارات الرئيس في اللحظة المناسبة.