حلمي سالم إذ يطل على الفقيه من شرفة ليلى مراد

حلمي سالم إذ يطل على الفقيه من شرفة ليلى مراد


19/11/2017

"الرّبُ ليسَ شرطياً
حتى يمسكَ الجناةَ من قفاهُم
إنّما هو قرويّ يزغّط البطّ
ويجسّ ضرع البقرة بأصابعه صائحاً:
وافرٌ هذا اللّبن
***
الرّبُ ليسَ عسكريّ مرور
إنْ هو إلا طائرٌ
وعلى كلّ واحدٍ منّا تجهيز العنق"

هذه الأبيات التي نشرت في عام 2007م، بمجلة "إبداع" من قصيدة "شرفة ليلى مراد"، ضمن ديوان "الثّناء على الضّعف"، للشّاعر الرّاحل حلمي سالم، أحد أهم شعراء جيل السبعينيات، كانت كفيلة باستدعاء محاكم التفتيش، ونصب المشانق لكاتبها.

ورغم ما في القصيدة من حسّ صوفي، إلا أنّ الذين يرون الإله شرطيًا، لم يتركوا قصيدة كتلك تمرّ بسلام، وسرعان ما قدّم الشّيخ يوسف البدري، بلاغًا للنائب العام ضدّ المجلة، وآخرَ لسحب جائزة التفوق في الآداب من الشّاعر، والتي كان قد حصل عليها قبل عام، كما أصدر مجمع البحوث الإسلامية بيانًا، وقّع عليه مئة من رجال الدّين، يدعون لاستتابة الشاعر الراحل.
وفي تطور سلبي للأحداث، تراجعت الهيئة العامة تحت الضغط، وسحبتْ أعداد المجلة، وصرّح رئيسها تصريحاً معادياً للإبداع، قال فيه: "إنّ القصيدة بها ما يمسّ الذات الإلهية"، وهو ما اتُّخذ ذريعة لمضاعفة الهجوم على سالم.

لكنّ الشّاعر الحالم، والمحلّق في آفاق الإبداع، لم يكن ليتراجع تحت وطأة الضغط، وقد قرر طرد الفقيه من شرفة ليلى مراد، فأصدر كتاباً عن المحاكمة، وأطل على جمهوره بديوان: "الشّاعر والشّيخ"، يقارن فيه بين منطقين: منطق التّحرر والحركة، ومنطق الجمود والثبات. وهو ما كان متوقعًا من فلاح عنيد، ومناضل لا يتنازل عن حقه، ومبدع يقدر قيمة الحبّ والتفكير بحرية.

حلمي سالم، الذي مرتْ ذكراه الخامسة منذ شهر، ولد في قرية الراهب، بمحافظة المنوفية عام 1951، وفور تخرّجه في جامعة القاهرة، اختار صفوف اليسار موقعاً له، وعمل صحفيًا في جريدة الأهالي، لسان حزب التجمع عام 1974، لتحملَه أحلامه الثورية من الثورة في ميدان السياسة، حيث يشارك في تظاهرات الخبز 1977 ضد نظام السادات، إلى الثورة على قصيدة التفعيلة في ساحة الأدب، فيؤسس مع زملائه من أدباء وشعراء السبعينيات مجلة "إضاءة 77"، ثم يعود مرة أخرى للسّياسة، في ترحال مع عدد من المثقفين إلى بيروت، لمؤازرة العاصمة العربية أثناء حصار الجيش الإسرائيلي لها عام 1982. وكما تركت بيروت في نفسه حزنًا كبيرًا، وضعت في قلبه حبًا أكبر، هو حب زوجته ورفيقته، أمل بيضون، كأنما كان يبرهن على إمكانية خروج النهار من أنفاس الليل الطويل: بدأ "حلمى"، يدخل كل يوم إلى مكتبي، ويترك عليه كروتا مكتوبا عليها قصائد رومانسية، لأحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، وغيرهما، حتى بدأت علاقتنا تتوطد، وكان يجمع كل العاملين في الجريدة، ويتحدث عن الشّعر والأدب، ويقرأ علينا قصائد لمحمود درويش، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، حتى أحببت حالته وتعلقت به، وتزوجنا".

رحل سالم إلى قبرص، رئيساً لسكرتارية تحرير مجلة "بلسم" أحد منابر الجهاز الإعلامي للمقاومة الفلسطينية، ثم عاد إلى مصر رئيساً لتحرير مجلة "أدب ونقد"، إبّان صعود موجة العنف المسلح للإسلام السياسي، وكانتْ أكثر مراحل الحياة الثقافية المصرية ضيقاً، فحاول من خلال المجلة فتح النّوافذ لدخول الهواء النّقي، الخالي من الدّماء وعبارات التكفير إلى العقلية العربية. ورغم شحّ مواردها، لكن عزمه كان أشد بأسًا من العقبات، لتستمر المجلة أكثر من 27 عامًا، في سابقة فريدة في تاريخ الدوريات الثقافية الجادة.

موجة العنف المسلح للإسلام السياسي، كانتْ أكثر مراحل الحياة الثقافية المصرية ضيقاً

يعتمد حلمى سالم، في شعره، على "المفارقة المشهدية"، وهي الخاصية المميزة للشعر الحداثي، حيث يجاور المشهد نقيضه، ليس فقط على مستوى اللفظ، أي بتجاور لفظين متعارضين (العسكري والقروي)، بل على مستوى المعنى، فيغطّي المعنى الأعمق بطبقة سطحية، قد تكون عكسها تماماً، فالقارئ قد يفهم من الإله الذي يجس ضرع البقرة، أنه يزدريه، بينما ينزهه من التعسّف بالإشارة إلى رحمته، ومن الممكن أنْ يقرأها آخر بنظرة مختلفة، لكن متى تعددت التأويلات بطلت الإدانة، وللشّاعر وحده حق الاحتفاظ بالمعنى في بطنه، وبعيدًا عن جدلية التأويل الحسن والمغرض، هناك سؤال يعيدنا إلى أصل القضية: ماذا لو أنكر إنسان الدين والله في عمل أدبي أو فكري، أليس الله مانحه حق الاختيار؟

وخلاف هذا، فإن أثر المنع على المجتمع خطير، سواء جاء المنع من الدولة أو المجتمع، لأن حوار الأفكار داخله أمر يساعد على نضجه. ألم يكن من الأفضل عدم حرق أعمال ابن المقفع، وتركها للمستقبل، مع كفالة حق الرّد لخصومه، كما وقع بين الغزالي في "تهافت الفلاسفة"، وابن رشد في "تهافت التهافت"، فأصبحا علامتين مميزتين في الثقافة العربية، علمًا بأن جزءًا كبيرًا من إنتاج ابن رشد تضرر جرّاء ثقافة كتم الأنفاس؟ ما الضرر في أنْ يكتب كاتب "لماذا أنا ملحد"، كما فعل إسماعيل أدهم عام 1937، فيرد عليه كاتب آخر بـكتاب "لماذا أنا مؤمن"، مثلما فعل محمد فريد وجدي، هكذا ببساطة؟ لقد أُسقطت عن عمد إبداعات كثيرة من المكتبة العربية، وعُرقل التراكم المعرفي، والذي هو قاعدة أي بناء حضاري، بسبب هذه التشنجات الإيمانية المستعصية!
ويضم تاريخ الثقافة العربية قائمة طويلة من الممنوعات، من كتب وكتّاب، بعضهم وصل بإبداعه إلى العالمية، تبدأ القائمة بعلي عبد الرازق ولا تقف عند حلمي سالم، وهي قائمة ساهم في خلقها من نصبوا أنفسهم رقباء على الدين والوطن، وعلى الرغم من رفعهم دومًا راية العودة إلى التراث، إلا إنّ هذا التراث لم يسلم من تعنّتهم، فاكتشفوا فجأة منذ سنوات، عندما أصدرتْ هيئة قصور الثقافة طبعة جديدة من المؤلف الشّهير "ألف ليلة وليلة"، الذي حفظ حكايات الأجداد من الضياع، أنّ به ما يخدش حياءهم الرقيق، فطالبوا بتهذيبه، وتنقيته من الشوائب، معتقدين بذلك أنهم يحافظون على الأخلاق، غير مدركين أنهم يقزمون عقل المجتمع ببتر ذاكرته.

متى تعددت التأويلات بطلت الإدانة، وللشّاعر وحده حق الاحتفاظ بالمعنى في بطنه

بمناسبة صدور الأعمال الكاملة لحلمي سالم، عقب رحيله بعامين، كتب رفيقه في جماعة إضاءة، وشريكه في أول دواوينه "الغربة والانتظار"، الشّاعر رفعت سلام، مقالاً مهماً في جريدة "الحياة"، ينتقد فيه الأخطاء الفادحة بتلك الأعمال، فهي لم تأخذ، في رأيه، حقها من تحقيق الأسماء والأحداث الواردة في القصائد، ولا اهتمت بضمّ ما لم ينشر من شعره، بل حتى إنها تخطتْ بطريقة تدعو إلى الدهشة أول دواوينه، على الرغم من ذكره في المقدمة، والتي أسندوا كتابتها إلى الدكتور جابر عصفور، أبرز ناقدي التّيار الحداثي في الشعر، والذي كان سالم أهم ممثليه! وإذا كان هذا حال جماعة المثقفين، فيمكننا أنْ نلتمس العذر لأعداء الحياة والثقافة.

لم يستطع سالم طرد الفقيه من "شرفة ليلى مراد"، كي تتمكن من مواعدة "شحات الغرام"، لكنه مات وهو يناضل حتى الرمق الأخير، ففي يوليو 2012 بمستشفى المعادي العسكري، وسط مشارط الأطباء، ووجوم الأحبة، ارتضى الفارس النزول عن ظهر جواده، شِعره، الذي طالما خاض به معاركه، كمحارب من عصور نبيلة، يأبى أنْ تختتم حياته بلا دراما، وبلا ناي يعزف في الخلفية، ففي كلمات أخيرة يلقيها في استعراضٍ مؤثر، يكتب لشباب ثورة يناير:

نصّبوا أنفسهم رقباء على الدين، وبالرغم من رفعهم راية العودة إلى التراث، إلا إنّ التراث لم يسلم من تعنّتهم

"كان الطّبيب بالنّجمات الثلاث والنّسر

يحطّ مبضعاً على فأرٍ
ليستأصل الدّاء
بينما كان النّقيب الشّاب في الشّارع الجانبي
يصوّب الرّصاص نحو عيون فتى يصيح
يا عدل
وجند النّقيب يهتفون فيه
أحسنت يا باشا
***
قلتُ لبنت بيضون
وهي تعطيني حبّة المضاد:
هذان وجهان لعملة واحدة
الرحمة والعذاب
ظفرنا نحن بالرحمة
وتركنا الفتية للعذاب".

كاتب وصحفي مصري


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية