حسن حافظ: هناك تيارات من السلفيين في حالة صدمة لانهيار المشروع الأصولي

حسن حافظ: هناك تيارات من السلفيين في حالة صدمة لانهيار المشروع الأصولي

حسن حافظ: هناك تيارات من السلفيين في حالة صدمة لانهيار المشروع الأصولي


03/09/2023

أجرى الحوار: عماد عبد الحافظ

عوامل عديدة ساهمت في انتشار الفكر السلفي الوهابي في المجتمع المصري، والذي ترك آثاراً لا يمكن إنكارها على الشخصية المصرية وشكل أنماطاً جديدة من التدين تتميز بالعديد من السمات؛ أبرزها الانغلاق والجمود والتشدد ورفض كل جديد، والرغبة في استعادة صورة نموذجية متخيلة من الماضي.

 وكان للدولة السعودية الدور الأبرز في نشر ذلك الفكر منذ ستينات القرن الـ (20) في مصر والمنطقة، ساعدها في ذلك عدة عوامل؛ أهمها إمكاناتها المادية الكبيرة التي منحتها القدرة على ضخ أموال هائلة لنشر ذلك الفكر، وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمت ذلك الفكر لمواجهة الشيوعية، وسياسة السادات التي سعت لاستخدام الإسلاميين في مواجهة خصومه من اليسار، وكذلك سياسته الاقتصادية التي شجعت على هجرة أعداد كبيرة من المصريين إلى الخليج خاصة السعودية، فتأثروا بالفكر الوهابي وساهموا في نشره بعد عودتهم. اليوم تحدث تحولات كبيرة في المملكة السعودية فيما يتعلق بالحالة الدينية، حيث تتخلى الدولة عن دعم الفكر الوهابي ونشره، وتتجه نحو الانفتاح بشكل أكبر على أفكار وثقافات مختلفة، فهل من الممكن أن تؤثر تلك التحولات على حالة التدين في مصر؟ هذا ما نسعى إلى التعرف عليه من خلال هذا الحوار مع حسن حافظ باحث متخصّص في تاريخ مصر خلال العصور الوسطى وتاريخ المذاهب الإسلامية، وهو حاصل على ماجستير في التاريخ الإسلامي من "جامعة القاهرة" عام 2015، وله كتابٌ بعنوان "الدعوة الإسماعيلية في مصر في العصر الفاطمي".

انتشار الوهابية في مصر

شهدت فترة السبعينات من القرن الماضي حضوراً سلفياً وانتشاراً واسعاً للفكر الوهابي القادم من المملكة العربية السعودية، فهل ترى أنّ ذلك الفكر كان وافداً غريباً على المجتمع المصري آنذاك، أم أنّه كانت له جذور ممتدة في المجتمع من قبل؟

أعتقد أنّ الفكر الأصولي لم يكن غريباً عن مصر والمصريين، فالفكر السلفي كان موجوداً في مصر منذ فترة مبكرة، فهناك جذور له سابقة على المدّ الوهابي المباشر الذي بدأ في الظهور بشكل أوّلي في فترة حكم عبد الناصر، ثم في فترة السبعينات بشكل واضح وصريح، فهناك جمعية أنصار السنّة المحمدية وبعض التشكيلات السلفية الأخرى في بدايات القرن الـ (20)، والتي سبقت حتى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، فيجب أن نفهم أنّ التيار السلفي بجذوره الحنبلية موجود في مصر منذ زمن طويل، صحيح كان على الهامش في ظل الهيمنة الأشعرية، لكنّه كان موجوداً على كل حال.

هل تعتقد أنّ حسن البنا كان يحمل أفكاراً تتقاطع مع الفكر السلفي، وأنّه ساهم في تهيئة المجتمع المصري لتقبل ذلك الفكر من خلال انتشار الإخوان وتأثيرهم حتى فترة الخمسينات؟

النشاط الوهابي في الفترة التي عاصرها حسن البنا لم يكن بالاتساع الذي عرفناه بعد ذلك، ولذا ظلت معرفته بالدعوة الوهابية ومنجزها الفكري ومن ثم تأثره بها محدوداً، ربما تأثر بها بشكل عام، فعلى سبيل المثال فإنّ الاسم الذي أطلقه على جماعته وهو "الإخوان المسلمون" ربما جاء نتيجة تأثره باسم تنظيم آخر يُسمّى "إخوان من أطاع الله"، وهو تنظيم وهابي متشدد نشأ في العام 1911 في الدولة السعودية في نسختها الثالثة، وقد اصطدم هذا التنظيم فيما بعد بالسلطة في السعودية، بعد أن حقق لها الانتصارات الميدانية، ثم تخلصت منه بعنف وقوة، وقد أسس البنا جماعة الإخوان مستلهماً أفكار ذلك التنظيم نفسها، والتي رأى أنّها من الممكن استخدامها لتوحيد المسلمين لتحقيق أوهامه وأطماعه وأهدافه الشخصية في أن يتحول إلى زعيم سياسي يحكم المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام، لكن أظن أنّ البنا استقى معظم أفكاره من المناخ المصري، خصوصاً بعد سقوط ما قيل إنّه الخلافة العثمانية، وهو الحدث الذي ترك تأثيره النفسي على الحالمين من الإسلاميين، أمّا تأثيرات الوهابية، فسوف تأتي في مرحلة تالية لمرحلة البنا، تحديداً مع الصراع السعودي المصري في فترة عبد الناصر، فأفكار حسن البنا في مجملها أفكار أصولية تلتقي في أصولها ومنابعها مع الوهابية في أمور كثيرة، لذا يبدو للمشاهد في الوهلة الأولى أنّ هناك تشابهاً كبيراً بينهما، لكن لا يعني هذا أنّ هناك تبادلاً واضحاً للأفكار.

حسن البنا

كيف بدأ الفكر السلفي الوهابي في التسلل إلى المجتمع المصري؟

 يمكننا هنا أن نفرق بين مرحلتين من انتشار الوهابية في مصر؛ المرحلة الأولى في فترة الخمسينات والستينات، وكانت مرتبطة بأحداث تكتيكية أو مرحلية في إطار الصراع مع عبد الناصر، تم خلالها فتح الباب لخصومه السياسيين وهم قادة جماعة الإخوان الذين ذهبوا إلى السعودية بعد الصدام مع نظام عبد الناصر، حيث وفرت لهم السلطة هناك ملاذات آمنة وحواضن فكرية، فالتقى الفكر الأصولي المصري ممثلاً في جماعة الإخوان مع الفكر الأصولي السعودي الوهابي، وبدأ يحدث نوع من أنواع التلاقي والتلاقح الفكري بين التيارين، خصوصاً أنّ السعودية في تلك الفترة كانت تبحث عن زعامة العالم الإسلامي، والفكرة ذاتها كانت لدى الإخوان متمثلة في الهدف الذي وضعه البنا وهو "أستاذية العالم"، فأصبح هناك هدف واحد، وهو البحث عن زعامة إسلامية مشتركة للعالم الإسلامي في مواجهة عبد الناصر وصعود القومية العربية، وهذا التلاقي بدأت تظهر ثماره في السبعينات، حيث ساهم في حدوث تحولات فكرية داخل جماعة الإخوان التي بدأت منذ تلك اللحظة تعرف أفكاراً أكثر تشدداً، وذلك مع صعود نجم سيد قطب الذي تأثر بفكر أبي الأعلى المودودي، خاصة فيما يتعلق بفكرتي جاهلية المجتمع والحاكمية، وهذه الأفكار ذاتها مستمدة من فكر محمد بن عبد الوهاب؛ وهذا الأمر يحتاج لمزيد من الدراسة لمعرفة تأثير الفترة التي قضتها جماعة الإخوان في السعودية خلال تلك الفترة.

مما ساهم في انتشار الوهابية قدرة الكيانات السلفية على الاستفادة من تكنولوجيا العصر في تلك الفترة، من خلال استخدام شرائط الكاسيت، والذي مثّل استعارة ناجحة من منجز الخميني الذي قدّم ثورة في الدعاية السياسية عبر استخدام الكاسيت

والمرحلة الثانية كانت في السبعينات، وفيها تحول الأمر إلى استراتيجية متكاملة لنشر الفكر الوهابي في العالم الاسلامي وبين أبناء المهجر من المسلمين في أمريكا وأوروبا، وهنا اختلفت اللعبة تماماً، وأصبح للحضور أو للوجود السعودي الوهابي الدور الأبرز على الساحة الإسلامية في العالم، خصوصاً بعد غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، الذي أعطى فرصة كبيرة للسعودية للترويج للفكر الوهابي وفكر الجهاد، من خلال شحن الشباب لتفريغ طاقتهم في حروب تحت شعار الجهاد في أفغانستان؛ وهو الأمر الذي ولّد انفجاراً في الحركات الأصولية في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً بعد التحول الكبير الذي حصل في إيران بعد نجاح الخميني في إقامة دولة شيعية أصولية صارت هي النموذج الأنجح للحركات الأصولية في العالم الإسلامي؛ الأمر الذي مثّل دافعاً وسبّب ضغطاً على السعودية التي حاولت أن تقدم نموذجاً للأصولية السنّية، ربما تكون هذه التحركات قد سببت نوعاً من الحرج للإخوان الذين شعروا بأنّ السعودية الوهابية تسحب البساط من تحت أقدامهم، لكنّهم فضلوا استمرار التعاون مع الوهابية كخطوة تكتيكية.

ما أبرز العوامل التي ساعدت على انتشار الفكر الوهابي في مصر؟

 إنّ فترة "الصحوة الإسلامية" التي بدأت في المجتمع المصري منذ السبعينات، وظلت في تصاعد حتى عام 2013، شهدت ميلاد العديد من الحركات الأصولية التي تدين بالولاء بشكل واضح وصريح إلى الوهابية السعودية وإلى خطوط التمويل السعودي التي فتحت لها أبواب الحركة سريعاً، ووفرت لها ضخ الأموال في نشر الوهابية في مصر؛ ممّا أنتج لنا في النهاية الوهابية المصرية، وهي حركة تتبع الأفكار الأساسية والخطوط العريضة للوهابية السعودية، مع إضافة بعض الأفكار الأساسية الخاصة بالمجتمع المصري الذي يتميز بأنّه محافظ في بعض مكوناته، وهي الأفكار التي كانت منتشرة بشكل أكثر في الريف المصري، وهذه الخلطة هي التي أنتجت لنا الصحوة المصرية أو الوهابية المصرية، وهي وهابية قائمة على المزج بين العُرف والشرع، دون دراية بأنّها تقوم بالخلط بين ما هو موجود في الشريعة وما هو موجود في العُرف المصري، وهو ما خلق حالة من الجمود الفكري، وساهم في الانتشار أنّ تلك الكيانات السلفية الناشئة بدأت تهيمن على الفضاءات التي تخلت الدولة المصرية عنها تباعاً بعد فشل نظام عبد الناصر وانقلاب السادات عليه، والتخلي مع الوقت عن المشروعات ذات البعد الاجتماعي، حيث بدأت الدولة مع الوقت تتخلى عن مساحات كبيرة في عدة مجالات؛ منها الرعاية الصحية والتعليم والخدمات والإعانات المقدمة للفئات الأكثر فقراً، وهذه المساحة بدأت الأصولية الإسلامية في ملء فراغها من خلال الأموال القادمة من الخليج إلى تلك التنظيمات في صورة تبرعات يتم جمعها من شيوخ وأمراء ورجال أعمال خليجيين، ثم ضخها وتسخيرها للإنفاق على مشروعات ذات مردود في نشر الدعوة السلفية في مصر، فبدأت توجد مؤسسات دينية ذات بعد اجتماعي تقدم خدمات مجتمعية، وبدأنا نرى مسجداً بجواره مستشفى أو نرى مستوصفاً وبجواره جمعية خيرية تقدم خدمات مثل التبرعات للغارمين والغارمات وتزويج الشباب... إلخ.

ومن خلال هذه الأعمال بدأت الوهابية المصرية في خلق مساحات لها في الشارع، كما ساهم في انتشار الوهابية أيضاً قدرة تلك الكيانات على الاستفادة من تكنولوجيا العصر في تلك الفترة، وذلك من خلال استخدام شرائط الكاسيت، والذي مثّل استعارة ناجحة من منجز الخميني الذي قدّم ثورة في الدعاية السياسية عبر استخدام الكاسيت، حتى أننا نستطيع القول إنّ الثورة الإسلامية في إيران ثورة الكاسيت بامتياز، وهذه الأداة استطاع من خلالها شيوخ الوهابية أن ينتشروا في مساحات أكبر كثيراً من قدرتهم على الحركة، لدرجة أنّه كان يتم تقديم أموال إلى سائقي التاكسي والميكروباص لاستخدام هذه الشرائط لضمان ترويج أكبر قدر منها على أكبر قدر من المصريين طوال اليوم، وقد كان لهذه الفكرة دور كبير في نشر الفكر الوهابي في مصر، حتى بين دوائر لا تحتك بشكل مباشر بالأصوليين.

كيف ترى حدود تأثير الأفكار الوهابية على الشخصية المصرية؟

 كانت نتيجة انتشار الأفكار الوهابية على الشخصية المصرية هي التشويه المطلق والكامل لكل ما هو مصري، بمعنى أنّه تم التركيز على بعض الصفات في الشخصية المصرية وتضخيمها، فالشخصية المصرية محافظة بطبيعتها، فتم التركيز على هذه النقطة لرفض كل ما هو جديد، لاحظ مثلاً الحرب الشعواء ضد الموالد الصوفية، وهي تجربة دينية مصرية صميمة، والتركيز على فكر الصحوة وفكر الأصولية بالعودة إلى القديم عن طريق تقديم تصور مختلق وتصور خيالي لشكل المسلم عن طريق النقاب واللحية والجلباب، وبدأ هذا الشكل ينتشر في الريف وفي الطبقات الدنيا في المدينة، مع التركيز على الشكل وليس المضمون.

كذلك تم تشويه كل منابر الفن والأدب والموسيقى، وكل ما له علاقه بالفن والآداب، كما تم تشويه رموز الأدب والفن مثل طه حسين ونجيب محفوظ ومعظم الفنانين، وكل ما هو معبّر عن التنوع في مصر، كما تم إقصاء المسيحيين من المشهد السياسي، رغم أنّه كانت لهم تجربة سياسية تاريخية في النصف الأول من القرن الـ (20)، وقد أدى هذا فيما بعد إلى نوع من أنواع الانكفاء من المسيحيين داخل الكنائس، وعودتهم مرة أخرى بشكل فعلي إلى نظام الملة، بمعنى أن يكون البابا هو الممثل السياسي لهم، وهو ما يمثل انتكاسة حقيقية للمسيحيين في مسار الحركة الوطنية المصرية، فبعدما استطعنا أن ننجز مفهوم الهوية الوطنية الجامعة في ثورة 1919، عدنا بعد (50) عاماً إلى فكرة الملة مرة أخرى، وهذا لم يكن ليحدث لولا وجود الأصولية في صيغتها الوهابية، وضغطها الشديد على المجتمع المصري لاستنفاره بهذا الشكل وتفكيك مكوناته.

كل ذلك يمثل نتائج سلبية جداً أثرت على المجتمع المصري في لحظة تحول اجتماعي واقتصادي كانت شديدة القسوة مع سياسات السادات ومبارك والتحول الاقتصادي من اقتصاد يمثل رأسمالية الدولة إلى اقتصاد يمثل رأسمالية القطاع الخاص والمحاسيب دون أيّ ضوابط اجتماعية أو سياسية تواجه الفساد الذي بدأ يستشري في المجتمع وأدى إلى ميلاد طبقات جديدة وأنتج أعداداً كبيرة من الفقراء الذين فقدوا أيّ أمل في تحسن أحوالهم؛ بسبب السياسات الفاشلة للأنظمة واستشراء الفساد في بنية المجتمع، فبات الإحباط هو الشعور العام، وهو الأمر الذي وفر المناخ الذي تحركت فيه الوهابية المصرية بسهولة.

كيف ترى حجم الحضور السلفي في مصر بعد 2013؟

 رغم هزيمة حزيران (يونيو) 2013 للتيارات الأصولية في مصر سواء لجماعة الإخوان أو التيارات السلفية؛ فإنّه ما يزال هناك حضور قوي للأصولية في مصر، ولكنّ الملاحظة الكبرى فيما يتعلق بالمشهد السلفي المصري حالياً هي حالة التشظي التي تميزه، بمعنى أنّ التيار السلفي الآن لديه أجيال من الشباب بلا قيادات، أجيال فقدت الثقة في كل قياداتها السلفية، سواء حزب النور الذي -في نظر البعض منهم- باع الإخوان بعد 2013، أو نتيجة تخلي بعض هؤلاء القيادات عن الشباب الذين لم يقدموا لهم الإرشاد في لحظات تحول مهمة، كما أنّ من بين هؤلاء الشباب من يتحدث عن أنّ الخطاب السلفي خطاب متحجر، وأنّ خطاب شيوخهم قد تخطاه الزمن، وأنّه يجب البدء في قراءة واسعة لا تقوم على المغالطات والأكاذيب والتخيلات، ولكن تقوم على المكاشفة والاشتباك، هذه كلها أمور تدل على حالة التشظي التي يعيشها التيار السلفي في مصر حالياً، ولا يعني هذا أنّ التيار السلفي في لحظة انحسار، ولكنّه في لحظة حيرة كبرى ستؤدي إلى إعادة النظر فيه مرة أخرى من أبنائه، فالبعض سوف يتطور فكرياً، حتى لا نستطيع أن نقول عليه إنّه يمثل التيار السلفي التقليدي، أي أنّه سيقدّم مشروعه المبني على الأخلاقية الإسلامية، ولكنّه سيقطع مع الجمود الفكري عن الأجيال الأكبر في التيارات السلفية، والبعض الآخر سوف يتشدد بصورة أكبر من الأجيال السابقة بعدما رأى فشل تجارب الآخرين، ليتمسك أكثر بما يعتبره ثوابت بما يقوده إلى العنف، فنحن أمام مشهد متحرك جداً داخل السلفية المصرية، سيؤثر فيه بلا شك توجهات الدولة المصرية وقدرتها على النجاح في تقديم تجربة وطنية، وهو أمر محل شك، كما سيؤثر فيه تحول المزاج العام لقطاعات عريضة من المصريين باتت تميل أكثر صوب الفردانية والانخراط في مجتمع الرأسمالية الاستهلاكية العالمية. لذا فنحن بحاجة الآن إلى متابعة التحولات داخل التيار السلفي، لأنّها تحولات ستؤدي إلى نتائج شديدة التطرف في كل الاتجاهات، كما أنّ هذه المتابعة مهمة لمحاولة فهم التحولات التي يمر بها المجتمع المصري ككل.

التحولات السعودية ومحاربة الأصولية

مع مجيء محمد بن سلمان ولياً للعهد وتولّيه السلطة بشكل فعلي، بدأ في اتخاذ سياسات جديدة تمثل تحولاً جوهرياً في إدارة المملكة العربية السعودية، ومنها ما يتعلق بالمجال الديني؛ هل تعتقد أنّ هذه السياسات من الممكن أن تُحدث تغييراً عميقاً في المجتمع السعودي؟ 

 إذا نظرنا إلى التحولات في المملكة العربية السعودية، فأظنّ أنّها تحولات عميقة، سوف يكون لها تأثير قوي في المنطقة بشكل كامل، فنحن نتحدث عن السعودية باعتبارها من أكبر وأهم دول الشرق الأوسط حالياً، والتحولات التي تحدث هناك حالياً تجذب أنظار المجتمع العربي والإسلامي نحو الدولة التي يحمل حاكمها لقب خادم الحرمين الشريفين، فتحولات محمد بن سلمان هي تحولات تضرب في عمق المجتمع السعودي، ويناصره فيها طبقة كاملة من المجتمع السعودي، وهي طبقة وسطى جديدة غنية قادرة على شراء ما ينتجه النظام السعودي من ترفيه، كما تناصره فئة من الشباب الراغب في ممارسة حياته بحرّية بعيداً عن جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتناصره كذلك المرأة السعودية التي تريد أن تحصل على حقوقها المشروعة التي تم إهدارها لعقود تحت مزاعم متخلفة؛ كل هذه الفئات نستطيع أن نقول إنّها تناصر مشروع محمد بن سلمان، فمشروع محمد بن سلمان لم يعد معلقاً في الهواء، لأنّه يعبر عن شريحة كبيرة من المجتمع السعودي لا يمكن إنكارها أو إنكار أنّها متماهية مع تلك التحولات، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا لا يعني أنّه لا يوجد عداء لهذه التجربة داخل السعودية، وفي كل الأحوال فنحن علينا أن ننتظر نتائج سياسات محمد بن سلمان، وهل سيتم السماح لها بالاستمرار لفترة أطول حتى تثبت في المجتمع ويصبح لها قوة الدافع الذاتي بحيث لا يمكن الانتكاس أو الرجوع عنها، وهذا أمر مرهون بفترة الأعوام الـ (10) القادمة، فإذا استمر هذا التحول، فنحن بلا شك أمام تغيرات جوهرية ستكون لها تأثيرات كبيرة جداً على السعودية والمنطقة ومن بينها مصر.

هل تملك السعودية تحت قياداتها الحالية مشروعاً للزعامة والريادة في المنطقة يجعلها تعمل على نشر قوتها الناعمة كما كان في السابق؟

 السعودية لديها الآن مشروع للزعامة العربية مكتمل الأدوات، وهي لا تريد فقط أن تقطع الصلة مع الموروث الأصولي، وأن تحول الوهابية إلى نوع من أنواع الديكور في تركيبة الدولة والمشهد السعودي، بل إنّها قد تنفق المليارات اليوم على محاربة الأصولية، كما أنفقتها من قبل على نشر وتمدد الوهابية، وهي الآن تعمل على تقديم صورة جديدة للدولة في المحافل الدولية، سواء عن طريق الفن أو الرياضة أو الاستثمار أو تحسين صورة الحريات والحقوق الاجتماعية والإنسانية في المجتمع، فضلاً عن نفوذها المالي الكبير في العديد من الدول العربية والذي يترجم إلى نفوذ سياسي، وهذا يؤكد أنّ السعودية لديها مشروع وأدوات وتملك التأثير في المنطقة، ولديها الرغبة في ممارسة هذه السياسة والزعامة عبر إعادة هندسة دورها والنظام العربي كله، نحن إذن أمام لحظة ميلاد للسعودية الرابعة.

هل تتوقع أن تتأثر حالة التديّن في مصر أو نسبة الاتجاه نحو التدين بالتحولات التي تحدث في السعودية؟

خلال الـ (50) عاماً الماضية أصبح هناك نوع من أنواع الارتباط بين مصر والسعودية، بحيث لا يمكن أن نتحدث عن أيّ منهما دون الأخرى، وكما كان هناك تأثر من المصريين بالأفكار الوهابية السعودية، فإنّ هذا التأثير قائم اليوم أيضاً؛ فهناك ملايين المصريين عملوا في السعودية خلال العقود الماضية وحتى اليوم وهؤلاء حملوا أفكاراً من السعودية وجاؤوا بها إلى مصر، الآن الوضع أصبح معكوساً، فهناك أفكار جديدة في السعودية كانت موجودة في المجتمع المصري من قبل وتم لفظها بفعل الوهابية السعودية/ المصرية، الآن ستعود مرة أخرى من خلال السعودية وما بها من تحولات، ومن خلال المصريين الذين يعملون هناك، وسيعودون بالأفكار الجديدة خلال الأعوام الـ (10) القادمة.

من نتائج الوهابية السلبية تشويه كل منابر الفن والأدب والموسيقى، وكل ما له علاقه بالفن والآداب، وكل ما هو معبّر عن التنوع في مصر، وإقصاء المسيحيين من المشهد السياسي

كما سيحدث ذلك التأثير أيضاً من خلال عامل آخر، وهو الصدمة؛ فهناك تيارات كاملة وشرائح من الشباب السلفي في مصر في حالة صدمة نتيجة انهيار المشروع الأصولي في نظرهم في معقل المشروع نفسه، وهي السعودية وعدد من دول الخليج الأخرى، فقد نظروا إلى قطر وكيف نظمت كأس العالم فلم تعجبهم بعض مشاهد الانفتاح هناك، حتى أنّ البعض روّج أنّ هناك مظاهر ماسونية ظهرت في مونديال قطر، كما أنّهم ينظرون إلى الإمارات على أنّها دولة علمانية؛ كل هذه المشاكل والتحولات ستضرب في الصميم الصورة الذهنية للخليج باعتباره معقل الأصولية عند الشباب السلفي في مصر، ولذلك فإنّ هؤلاء الشباب أصبحوا اليوم في حالة من اليأس والتشتت والتيه بسبب ما يجري، مع عدم قدرتهم على استيعاب كل هذه التحولات السريعة والمتلاحقة، من لحظة ظنوا فيها أنّهم امتلكوا الدنيا قبل 2013، إلى لحظة يجدون فيها أنّ المشروع الأصولي قد تحول إلى أطلال، وهم يشعرون الآن بأنّهم في مرحلة ما بعد الأصولية في المنطقة العربية، كيف سيتعاملون مع هذا؟ البعض بدأ يبحث عن قراءات جديدة أو مشايخ جدد ومحاولات للعودة وتأسيس مشروعات جديدة بآليات جديدة، وهذا كله يؤكد أنّ المشهد في حالة سيولة كاملة، لكن على الجانب الآخر فإنّه يجب ملاحظة أنّ مركز الوهابية قد انتقل من السعودية والخليج ويتم توطينه في مصر في مفارقة، إذ أصبحت الحركات السلفية في مصر تمتلك الآن القدرة على الحركة الذاتية، دون أن تنتظر المعونة من السعودية.

إذا قلنا إنّ السلفية، على الرغم من تعدد تياراتها واختلافها، هي في جوهرها نمط من التفكير يعبر عن النزعة المحافظة التي ترفض التجديد وتتمسك بالموروث؛ فهل ترى أنّ الأصولية الدينية عَرَض أم مرض؟

 الحقيقة هي أنّه ليس التيار الأصولي فقط هو التيار الجامد، ولكنّ معظم التيارات المصرية حتى العلمانية منها هي تيارات سلفية بامتياز، فالمشكلة الحقيقية في المجتمع المصري هي عدم القدرة على النقد وتقبل الرأي الآخر، وهذه أزمة عابرة لكل التيارات الموجودة، وليست مقتصرة على تيار واحد، الاختلاف الوحيد بينهم هو أنّ التيار الأصولي يرفع راية التكفير واستباحة الآخر، وهذا ليس موجوداً في التيارات الأخرى التي يلجأ بعضها في المقابل إلى الاستقواء بالدولة لتحميه من تغوّل التيارات الأصولية، لكن في المحصلة النهائية لدينا تيارات لا تقبل الآخر، ولدى كل منها اعتقاد بأنّها على صواب مطلق، والآخر على خطأ مطلق ويجب حذفه لا الدخول معه في حوار، فكلها في الحقيقة تيارات سلفية تركز على استدعاء خطابات ليست لها بل من الخارج، سواء كانت خطاباتها يسارية أو قومية أو ليبرالية أو علمانية أو أصولية دينية، فكلها استعارات صوتية لأفكار وفلسفات ومذاهب بعيدة عن إنتاج معرفة ذاتية، وهي أزمة مرتبطة أكثر بتعقّد الموقف والمشهد المصري الذي غابت عنه الممارسات الديمقراطية منذ عقود طويلة، وتربى على الفكر الواحد، وأنّ الاختلاف خيانة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية