جهاز المخابرات العراقي في مواجهة ماكينة تشكيك الميليشيات الإيرانية

جهاز المخابرات العراقي في مواجهة ماكينة تشكيك الميليشيات الإيرانية


27/04/2021

تعرّض جهاز المخابرات العراقي، في الآونة الأخيرة، لـ "هجوم" سياسي في وسائل الإعلام المحلية، من قبل زعامات شيعية ولائية لإيران في العراق. ويكشف التشكيك في أهمّ جهاز أمنيّ  عريّ الدولة وعدم خصوصية عمل أجهزتها، التي يعدّ جهاز المخابرات أكثرها حساسيةً.  وجرى التصعيد ضد دور جهاز المخابرات من قبل الولائيين، وتحديداً قيس الخزعلي، أمين عام "عصائب أهل الحق".

المخابرات بوصفها أبرز المعاول الأمنية

يعدّ جهاز المخابرات الوطني العراقي، أحد أبرز المعاول الأمنية، إلى جانب جهاز مكافحة الإرهاب، لدى رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في مقاومة سلطة الفصائل الولائية لإيران داخل العراق، فجهاز المخابرات يعد من أقل الأجهزة الأمنية اختراقاً وطائفية، كون معظم رؤسائه جاؤوا وفق عملية توازن سياسي تفضي دائماً إلى أن يكون رئيس الجهاز من الدائرة الشيعية المناكفة لمحور ولاية الفقيه، وهذا الترشيح يأتي بمباركة أمريكية ورضى من أيّ رئيس وزراء عراقي يبحث عن توازن للقوى المتصارعة على تشكيلات الدولة المدنية والأمنية.

ترؤس مصطفى الكاظمي ،المقرَّب من الإدارة الأمريكية، في حزيران (يونيو) 2016، لجهاز المخابرات الوطني، جاء بأمرٍ صادر من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، الذي كان يعاني ضغط الدولة العميقة التي يمثّلها تيارا: "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، و"الولائيون" بقيادة هادي العامري، ما أفضى إلى وجود أطراف مدنية في التشكيل الأمني حاجةً لحكومة العبادي التي خاضت نزالين في آن واحد؛ أحدهما مع داعش، وثانيهما مع الفصائل الولائية بعد انتهاء الحرب مع الطرف الأول.

بقاء الكاظمي في منصبه بعد مجيء حكومة الفصائل، برئاسة عادل عبد المهدي، يرجع إلى إصرار الأخير على ذلك البقاء، كيلا تفقد الحكومة آنذاك الطرف الأمريكي، الممتعض من أدائها واختراقها إيرانياً.

  سقوط حكومة عبدالمهدي نتيجة احتجاجات تشرين (أكتوبر) 2019، وقيادة مصطفى الكاظمي لحكومة انتقالية تُمهّد لانتخابات مبكرة، جعل لجهاز المخابرات الأولوية على سائر الأجهزة الأمنية العراقية، فضلاً عن بقاء الكاظمي رئيساً للجهاز وللحكومة في وقتٍ واحد.

وثّق جهاز المخابرات العراقي أغلب سلوكيات الحراك المليشاوي لـ "عصائب أهل الحق" بقيادة قيس الخزعلي ضدّ التواجد الأجنبي ومرافق الدولة العراقية في البلاد

ونجحت الكتل الولائية المنضوية في "تحالف الفتح"، عبر استخدام وكلائها الحزبيين في الجيش والشرطة والحشد الشعبي، في إعاقة الكثير من قرارات الحكومة الجديدة التي تحاول قضم سلطة تلك الكتل في الدولة وخارجها، لكنّ الولائيين فشلوا في إعاقة عمل جهازَي المخابرات ومكافحة الإرهاب، نتيجة ضعف التواجد الحزبي لهم في كلا الجهازين؛ لذلك راحت التصعيدات الإعلامية تنال منهما؛ بحجة "العمالة الأمريكية"، وتقويض "المشروع  السياسي الشيعي" في العراق، وغيرهما من التهم المعلبة.

وأخذ الأمر يتطور لدى إناطة القائد للقوات المسلحة العراقية، مهمة ملف فساد المنافذ الحدودية، الذي يعدّ النافذة الاقتصادية لغالبية الجماعات المسلحة التي تنتمي عقائدياً إلى إيران، لجهاز المخابرات الوطني؛ إذ وجّه الكاظمي، في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بنقل 300 عنصراً ما بين ضابط ومنتسب من الجهاز إلى المنافذ الحدودية، من "أجل تعزيز الكوادر الوظيفية في هيئة المنافذ"، وهي خطوة تشي بعدم ثقة الحكومة في بغداد بموظفيها المدنيين في تلك الهيئة، والموظفون هناك دائماً متهمون بقبض الرشاوى من قبل رجال الأعمال وسماسرة الجماعات المسلحة، لتمرير بضائعهم المستوردة، دون الخضوع للتعريفات الجمركية، بحسب القانون العراقي، كما أنّ جهاز المخابرات يمتلك ما يسمى "الأرشيف الدبلوماسي" في وزارة الخارجية العراقية، الذي يتضمن مجمل بيانات الجهات والشركات التي تعمل في خارج العراق وداخله.

ثائرة التيار الولائي ضدّ حكومة الكاظمي، توزعت بين أشرس ثلاثة فصائل شيعية، وهي :

*  كتائب حزب الله في العراق، بقيادة أبو حسين الحميداوي. 
*  كتائب سيد الشهداء، بقيادة أبو آلاء الولائي .

* عصائب أهل الحق، بقيادة قيس الخزعلي.

ودائماً لا تؤخذ تصريحات الفصيلَين، الأول والثاني، في الاعتبار السياسي، كونهما جناحين مسلحين لا يمتلكان ذراعاً سياسية عاملة في العملية السياسية العراقية، والهدنة معهما دائماً ما تكون عبر النافذة الإيرانية، التي يمثلها "رئيس أركان الحشد الشعبي"، عبد العزيز المحمداوي، الملقب بـ "أبو فدك"،  بينما للفصيل الأخير "عصائب أهل الحق" ذراع سياسية برلمانية تحت مسمى "كتلة صادقون"، ولديها 15 مقعداً في "تحالف الفتح"؛ لذلك فإنّ الهجوم المتواصل من قبل زعيم "العصائب"، قيس الخزعلي، على الحكومة العراقية وشخص رئيسها، يراه الأخير، أنّه هجوم يخضع لحسابات شخصية وحزبية، أكثر مما هي ولائية محضة. 

مداراة الزعل الإيراني

قبيل الانتخابات التشريعية، عام 2018، طلبَ الإيرانيون من زعيم "عصائب أهل الحق"، قيس الخزعلي، البقاء ضمن التشكيلات العسكرية لما يسمى "محور المقاومة" في العراق، دون الخوض في المعترك السياسي وتحويل فصيلهِ إلى حركة سياسية يريد الخزعلي من خلالها خوض الانتخابات الأخيرة والانتقال من قائد لفصيل عسكري إلى زعيم سياسي يناظر الزعامات الشيعية أمثال : هادي العامري، وعمّار الحكيم، وحيدر العبادي، ونوري المالكي.

اقرأ أيضاً: تقرير: إيران وأذرعها "العقبة الأكبر" أمام السيادة العراقية الكاملة

الرغبة الإيرانية كانت في بقاء "العصائب"  كفصيل مسلح فقط، على شاكلة "كتائب حزب الله"، و"حركة النجباء"، و"كتائب سيد الشهداء"، مع توسيع الدور السياسي لـ "منظمة بدر"، بزعامة هادي العامري، التي أُريدَ لها تمثيل المحور الولائي في السلطتين التشريعية والتنفيذية في العراق، على اعتبار أنّ البدريين ولائيون عقائديون للولي الفقيه في إيران. وأنّهم أكثر ضمانة من بقية الفصائل ذات الجذور الصدرية المنشقة عن قيادة مقتدى الصدر، والتي بقيت مؤمنة بولاية أبيه الفقهية، آية الله محمد محمد صادق الصدر، الذي اغتِيل في شباط (فبراير) عام 1999، على يد أجهزة أمن صدام حسين.

إحكام الكاظمي قبضته على جهازَي المخابرات ومكافحة الإرهاب وإناطتهما بمهام تتعلق بملاحقة الفاسدين والمتورطين بسرقة المال العام وقتل الناشطين، دفع الإعلام الولائي إلى التشهير به

ذهاب الخزعلي صوب الاتجاه السياسي أزعجَ الإيرانيين منهُ كثيراً، وكانت ثمة جفوة بينهما، على الرغم من بقاء فصيلهِ المسلح ضمن هيئة الحشد الشعبي وفصائل "المقاومة"، لكنّ الحاجة إلى ترتيب البيت السياسي الولائي في "تحالف الفتح" بُعيد الانتخابات الأخيرة، والصراع مع محور (الصدر – العبادي – الحكيم) حيال الكتلة البرلمانية الأكبر التي ستشكل الحكومة، جعل الإيرانيين يغضّون الطرف عن تمرّد "حركة عصائب أهل الحق" مؤقتاً، وتمكّنت الحركة فيما بعد من الحصول على وزارتي الثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية، في حكومة عادل عبد المهدي، وقتذاك.

الضربة الأمريكية الموجعة لإيران، في الثالث من كانون الثاني (يناير) 2020، التي أدّت إلى مقتل "قائد فيلق القدس الإيراني" قاسم سليماني، و"نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي" أبو مهدي المهندس، جعلت معظم الفصائل الولائية في العراق في حالة استنفار دائم، وتمكّن زعيم "عصائب أهل الحق"، قيس الخزعلي، من تشكيل جماعات مسلحة صغيرة داعمة لفصيلهِ المسلح (هذه المجاميع الصغيرة عبارة عن عصابات تعمل وفق نظام الأجرة في ملفات معينة وتختلف عن الفصيل الرسمي للعصائب في الجانب الديني العقائدي فقط) تستهدف التواجد الأجنبي في العراق، وذلك في إطار المنافسة الميليشياوية مع "كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء" على تلك العمليات، فضلاً عن تصفية قيادات فاعلة في انتفاضة تشرين، في العاصمة بغداد وسائر محافظات وسط وجنوب العراق، وتعد النشاطات الميليشاوية "للعصائب"، عبر فصيلها الرسمي أو مجاميعها المستأجرة حديثاً، بمثابة المداراة للزعل الإيراني من شخص رئيس الحركة.

اقرأ أيضاً: العراق العربي في الميزان الإيراني

إحكام رئيس الحكومة الحالية، مصطفى الكاظمي، قبضته على جهازَي المخابرات ومكافحة الإرهاب وإناطتهما بمهام تتعلق بملاحقة الفاسدين والمتورطين بسرقة المال العام وقتل الناشطين، دفع الإعلام الولائي إلى التشهير بعمالة الجهازين للخارج، لا سيما من قبل قناة العهد الفضائية، التابعة لحركة "عصائب أهل الحق".

وينفرد قيس الخزعلي عن باقي سياسيي التيار الولائي بالهجوم الإعلامي المشخصن ضدّ الكاظمي، الذي سبق أن اتّهمهُ بمشاركة الأمريكيين بقتل الجنرال قاسم سليماني، وقائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بوصفه رئيساً لجهاز المخابرات ومقرّباً من واشنطن، وأيضاً اتُّهم رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية بالوقوف وراء تصعيد أحداث تشرين بالتواطؤ مع الخارج المناوئ للمشروع الولائي في العراق.

والخزعلي كان من أوائل المعارضين علناً لرئاسة مصطفى الكاظمي للحكومة العراقية المؤقتة، علماً بأنّ زعيم تحالفه "تحالف الفتح"، هادي العامري، قد حضر مراسم تكليف وتنصيب رئيس الوزراء الجديد، مع ضمان حصة التحالف الولائي في التشكيلة الوزارية الجديدة تحت يافطة "التكنوقراط" .

الكاظمي يوثق ممارسات الخزعلي

وثّق جهاز المخابرات العراقي أغلب سلوكيات الحراك المليشاوي لـ "عصائب أهل الحق" ضدّ التواجد الأجنبي ومرافق الدولة العراقية في البلاد، وهذا التوثيق وضعهُ الكاظمي في يد قادة الكتل المتعاونة والمهادنة للحكومة المؤقتة؛ فقد أطلَعَ مكتب رئيس الوزراء كلّاً من  (هادي العامري ونوري المالكي وعمّار الحكيم وحيدر العبادي) على التقرير الخاص بالعصابات التي تديرها الحركة، في محاولة من رئيس الحكومة لبيان حجم التحديات التي تخوضها حكومته مع الداخل الولائي "المتطرف"، ووحده زعيم "التيار الصدري"، مقتدى الصدر، لم يرسَل له تقرير جهاز المخابرات، ويُعزى ذلك إلى احتمالية استثمار هذا الملف مبكراً من قبل الصدر ضدّ الخزعلي، إذ توجد بينهما خصومة عميقة نتيجة انشقاق الأخير عن الأول قبل سنين. مما يجعل الكاظمي يفقد ورقتهُ الوحيدة والضاغطة على  "عصائب أهل الحق". 

ونفى قيس الخزعلي كلّ الاتهامات الموجهة له من قبل جهاز المخابرات، لدى مساءلتهِ من قبل زعيمَي "تحالف الفتح" هادي العامري، و"ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي. متّهماً الجهات الأمنية المختصة بأخذ اعترافات من بعض الشخصيات المعتقلة لديها ضدّه تحت "الإكراه والتعذيب"، لكنّ الزعيمَين الشيعييَّن واجها الخزعلي بالوثائق المرفقة بالتقرير من حيث حجم الأموال المعطاة لجماعاتهِ الصغيرة وخريطة العمل المهددة للسلم الأهلي، ما دعا زعيم "عصائب أهل الحق" إلى الإقرار بصورة التفافية على القصدية المباشرة في دعم تلك المجاميع المستأجرة، ووصفهم بأنّهم من "أبناء" المرجع الديني محمد الصدر،  ومنشقين عن "لواء اليوم الموعود" (ميليشيا تابعة للتيار الصدري كانت تواجه الأمريكيين في العراق، جمدها مقتدى الصدر إلى إشعار آخر)، ومنزعجين من قرار تجميدهم من قبل زعيم "التيار الصدري" الذي طالبوه بالدعم المالي واللوجستي لمواجهة التواجد الأجنبي في البلاد، وقد وعدَ قيس الخزعلي حلفاءهِ بجلب وثائق تدعم موقفه هذا، لكن لم يأتِ بها لاحقاً.

اقرأ أيضاً: ميليشيا "ربع الله" تستعرض عسكرياً ببغداد.. متى يتوقف عبث إيران بالعراق؟

ورأى رئيس الوزراء العراقي هذا التقرير فرصةً لوقف مناكفة "العصائب" لحكومته، وبعث برسالة للخزعلي أنّ أجهزته الأمنية ستعمل على جرِّ  قياداتٍ في حركتهِ لاتهامهم بدعم هؤلاء العصابات التي بعض أفرادها معتقلاً لدى السلطة، وبشهادة القيادات الشيعية التي اطّلعت على التقرير المخابراتي الخاص بهذا الحراك الميليشاوي.

 الاستباق الإعلامي كان أبرز أدوات الخزعلي في الردّ على الكاظمي؛ حيث راح يتهم جهاز المخابرات مرة أخرى بأنهُ يخضع لإدارة فريق أمني من دولة الخليجية. وقال، في منتصف آذار (مارس) الماضي، إنّ "إبعاد 300 عنصراً من جهاز المخابرات إلى هيئة المنافذ الحدودية، له علاقة بمجيء فريق خليجي لإدارة الجهاز".

هذا الاتهام المباشر عبر وسائل الإعلام، أرادَ أمين عام "عصائب أهل الحق" من خلاله أن يستبق الحكومة في نشر التقرير المخابراتي الخاص بتحركاته، والذهاب نحو نظرية المؤامرة والاصطفاف الطائفي ضده من قبل الكاظمي، ومن يدعمه من دول مجلس التعاون الخليجي.

فالسلاح الطائفي هو السلاح الوحيد الذي يمكن للخزعلي أن يواجه بهِ وثائق الحكومة التي تدينهُ قضائياً وسياسياً ويضع مجمل حلفائه في دائرة الحرج أمام الشارع الناقم على محور ولاية الفقيه في العراق.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية