أمينة خيري
انتقل النعش من بالمورال إلى إدنبرة، مدة الرحلة محسوبة بالثانية من قبل انطلاق الموكب، الرحلة استغرقت ست ساعات. وفي إدنبرة، وتحديداً قصر "هوليرود هاوس"، ومن القصر إلى كاتدرائية "سانت غايلز" بقي النعش 24 ساعة، حيث ودعه آلاف المعزين. ومن إدنبرة إلى قصر "باكنغهام" في لندن، وعلى أبواب القصر تسلم حرس الشرف الملكي التابوت، ثم تم نقله إلى "غرفة القوس". أمضى الجثمان الليلة في الغرفة مرفوعاً على حاملات، وفي اليوم التالي تم نقل النعش في موكب مهيب حتى وصل إلى المحطة الأخيرة، وهي قاعة كنيسة "وستمنستر" في وسط لندن. بقي النعش هناك أربعة أيام، وتوافد الآلاف لإلقاء نظرة الوداع على مدى أربعة أيام كاملة تنتهي بدفنها اليوم، الإثنين 19 سبتمبر (أيلول)، في "القبو الملكي" أو "رويال فولت".
تفاصيل متناهية الصغر
التفاصيل متناهية الصغر تسبق الكبيرة في إجراءات جنازة ودفن الملكة إليزابيث الثانية. وهي لم تسن عقب وفاتها بساعات أو حتى دقائق، كما لم يكن فيها "خرم إبرة" يسمح باجتهاد هنا أو إنقاذ موقف هناك، اللهم إلا حوادث قدرية واردة الحدوث ولا يمكن التنبؤ بها. يسقط حارس مغشياً عليه، يحاول أحدهم فتح التابوت، يسب أحد المعزين الأمير أندرو ابن الملكة إليزابيث ناعتاً إياه بـ"العجوز المريض" (ربما في إشارة إلى اعتداءات جنسية منسوبة إليه) وغيرها.
أما المراسم والطقوس والعادات والتقاليد، بما في ذلك من يرتدي ماذا، ومن يسير إلى جوار من، ومن يسير كيف، ومن يتوقف متى، ومن يسبق من، ومن يقول ماذا، فمنصوص عليها ومحفوظة ويبقيها مفعلة جيش جرار من الموظفين المتخصصين المدربين على أعلى مستوى من مستويات حفظ العادات وصون التقاليد.
هذه الترسانة من الطقوس والتقاليد ليست حكراً على جنازة رأس العائلة الملكية، لكنها سمة الحياة اليومية، ومصدر فخر واعتزاز بعض الناس ومدعاة لسخرية ورفض آخرين.
العادات الجامدة والتقاليد الراسخة والمراسم التي لا يجوز أن تتم إلا بصورة مبهرة، والطقوس التي يراها البعض بلا طائل أو معنى أو مغزى، هي وغيرها من العادات والتقاليد منظومة متوارثة منذ مئات وربما آلاف السنوات. فريق يعشقها ولا يعرف سواها ولو بالمتابعة وليس الممارسة ولا يتصور الحياة من دونها. وفريق آخر يتابعها من دون شغف أو اهتمام بل قد يسخر منها لأنها "بالية" ويطالب بإلغائها وتوجيه الاهتمام لشيء آخر جدير به، سواء كارثة بيئية أو أزمة اقتصادية أو بطالة شبابية.
محظورات ملكية
مجلة "ماري كلير" رصدت في عددها الصادر في 12 ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 قائمة طويلة من القواعد الملكية الصارمة التي ينبغي على كل فرد من أفراد العائلة الملكية في بريطانيا اتباعها بكل صرامة ومن دون استثناءات. من هذه القواعد "حين تقف الملكة يقف الجميع، حين تتوقف الملكة عن تناول الطعام يتوقف الجميع، إظهار العواطف على الملأ أمر مكروه، الملكة هي التي تختار تاج أي عروس في العائلة، باقة الزهور لأي عرس ملكي يجب أن تحتوي على نبات الآس العطري، يحظر على أفراد العائلة التعبير عن أية آراء أو مواقف سياسية، ممنوع منعاً باتاً لعب (مونوبولي)، يحظر على أفراد العائلة توقيع أوتوغراف أو المشاركة في سيلفي، الثوم غير مسموح به في قصر باكنغهام"، وغيرها كثير.
على رغم تعليقات كثيرة ساخرة وأخرى منددة وثالثة يظهر أصحابها تعاطفهم مع أفراد العائلة الملكية لاضطرارهم إلى الامتثال طيلة حياتهم لقواعد غالبها يبدو للشخص العادي "سخيفاً" أو "فارغاً" أو "مهدراً للوقت"، فإن الغالبية المطلقة من استطلاعات الرأي التي يتم إجراؤها لقياس رد فعل البريطانيين على التقاليد الملكية أو عادات الزواج والموت والولادة الملكية أو حتى حول الجدوى من وجود العائلة ترجح كفة الملكية.
استطلاع الرأي الذي أجرته "إيبسوس" (شركة متخصصة في قياسات الرأي العام والتسويق) في مايو (أيار) الماضي حول شعبية أفراد العائلة الملكية في بريطانيا خلص إلى أن الملكة إليزابيث هي الشخصية الأكثر شعبية لأن البريطانيين يربطون بينها وبين العادات، كما أنها رمز إيجابي لبريطانيا سواء داخلياً أو خارجياً.
لكن الفئات العمرية المؤيدة للعادات والتقاليد والطقوس دالة. فنسبة 64 في المئة من البريطانيين قالوا إن إجراءات وطقوس وداع الملكة إليزابيث الثانية جعلتهم فخورين بأنهم بريطانيون، وهي نسبة كبيرة. وبحسب استطلاع أجرته "يو غوف" (شركة متخصصة في بحوث السوق) قبل أيام، فإن الفئة العمرية الغالبة في الـ64 في المئة هي كبار السن ممن تعدوا الـ85 سنة، يليهم البريطانيون بين 50 و64 سنة، في حين أن النسبة الأقل كانت في الفئة العمرية من 18 إلى 24 سنة.
رئيس الوزراء والملكة
في استطلاعات أخرى لـ"يو غوف" اعتبر الأصغر سناً تغيير رئيس الوزراء هو الأمر الأجدر بالاهتمام، عكس الأكبر سناً الذين رأوا في ملك جديد الحدث الأهم والأكبر. وقبل وفاة الملكة إليزابيث ببضعة أسابيع أشار استطلاع للرأي حول سؤال "هل تعتقد أن علينا الإبقاء على الملكية أم إلغائها؟" قال 40 في المئة من الأصغر سناً المتراوحة أعمارهم بين 18 و24 سنة إن الإلغاء أفضل، في حين لم تزد نسبة أنصار الإلغاء في الفئة العمرية الأكبر من 65 سنة على 16 في المئة.
العادات والتقاليد المختلفة والمتفردة تجذب الجميع، لكن استدامة الانجذاب تختلف بحسب الفئة العمرية. زيارة "وستمنستر" لإلقاء نظرة على نعش ملكة حكمت بلادها 70 عاماً، أو التقاط صورة إلى جوار حرس قصر باكنغهام، أو شراء مجسم لأكشاك هواتف الشارع أو صناديق البريد الحمراء وغيرها أمور مثيرة قد يفعلها الأصغر سناً مرة أو مرتين على سبيل الترفيه. أما أن يزيد الأمر على ذلك، أو يجد العالم من حوله غارقاً في تفاصيل وإجراءات تم سنها قبل مولده بعشرات السنوات، أو يفاجأ بأن أميراً هو حفيد الملكة هاري أمسك بيد زوجته ميغان ماركل في أثناء مراسم العزاء ولقي توبيخاً وتنديداً لأن ذلك غير لائق، أو أن يطول الحديث والاهتمام والبث حول إجراءات الجنازة والدفن أسابيع طويلة، فهذا ما لا تفهمه الأجيال الأصغر سناً.
الأجيال الأصغر سناً لا تكره العادات بالفطرة أو تزدري التقاليد والطقوس المتوارثة لمجرد الازدراء، ولكن الفجوة بين الجديد والموروث سنة الحياة، والثورة الرقمية "فرض عين".
الأجيال التي نشأت في ظل "أساسات" موجودة حولها تتراوح بين هاتف محمول وكمبيوتر شخصي واتصال على مدى الـ24 ساعة بالإنترنت أكثر استقلالية من الأجيال التي سبقتها.
يرى الجيل الذي نشأ مع الهاتف المحمول والكمبيوتر الشخصي أنه أكثر استقلالية من الأجيال الأكبر سناً، ويتبنى وجهة نظر مختلفة تماماً عن تقاليد مثل الزواج والدين مقارنة بآبائهم وأجدادهم، وفقاً لدراسة جديدة شاملة. هذه البيئة المختلفة وتلك الأدوات التي لم تكن موجودة من قبل وثقت جذور الأصغر سناً في مجتمعات افتراضية لها عاداتها وتقاليدها وطقوسها الخاصة بها على حساب المجتمعات الحقيقية وما تتوارثه من عادات وتقاليد.
تشير دراسة لمؤسسة "بيو" لبحوث الرأي العام أجريت حول علاقة أجيال الهاتف المحمول والكمبيوتر الشخصي والإنترنت بالعادات والتقاليد إلى شيوع حال من "الانفصال عن المؤسسات التقليدية" في المجتمع، وهي المؤسسات التي تحظى بمكانة "الفرض" لدى الأجيال الأكبر.
زواج ودين ووطنية
على رغم أن هذه الدراسة أجريت على الأجيال الشابة والمراهقة في الولايات المتحدة فإن نتائجها تقول كثيراً عن علاقة الأجيال الشابة بالعادات بشكل عام. فالزواج والدين والوطنية والانتماءات السياسية والرؤى الاجتماعية نقاط اختلافات كبرى. والأجيال الأكبر سناً أكثر تمسكاً بمنظومة الزواج، وفكرة التدين، وقيمة الوطنية، كما أن الميل جهة التيارات المحافظة سياسياً واجتماعياً أكثر شيوعاً بينها، على عكس الأصغر سناً.
فالأصغر سناً في بريطانيا ولدوا، ومن قبلهم آباؤهم وأمهاتهم وربما أجدادهم وجداتهم، والملكة إليزابيث جالسة على العرش. العين المجردة تشير إلى حزن عارم لدى الجميع لرحيلها، فغالبية البريطانيين لم تعاصر ملكة سواها. العين نفسها تشير كذلك إلى أن الآلاف التي كانت مصطفة لإلقاء نظرة أخيرة على نعشها غالبها يقع بين الأكبر سناً في جيل الألفية (1981-1996) مروراً بجيل (1965-1980) وجيل "طفرة المواليد" أو "بيبي بوومرز" (1946-1964) ومن تيسر وجوده من "الجيل الصامت" (1928-1945)، أما جيلا "زد" (1997-2010) و"ألفا" (بداية من 2010) فحضورهما ليس لافتاً.
يشار إلى أن هناك وجهة نظر أو إشاعة ترجح أن شعبية الملكة الراحلة إليزابيث فاقت شعبية العائلة المالكة لا سيما بين الأصغر سناً، بمعنى أن التأييد الجارف لها كان لشخصها وطرائفها وليس لمنصبها أو لأنها ترمز إلى منظومة العادات والتقاليد والطقوس البريطانية المتوارثة.
المثير أن الملك تشارلز الثالث مرشح ليحتل مكانة مشابهة، لا لأنه أصبح ملكاً أو لأنه يرمز للعادات، ولكن لأنه نموذج فريد يجمع بين هامشين، الأول صيانة العادات والتقاليد، والثاني انتهاج طريق حداثي يكاد يكون ضارباً بالعادات والتقاليد عرض الحائط. فهو لا ينأى بنفسه عن الغوص في السياسة، ويهتم بقضية البطالة بين الشباب، ويطالب بخدمات صحية تعالج العقل والجسد والروح، وينشغل بقضايا البيئة وغيرها من القضايا المعاصرة الحديثة التي تشغل قطاعات كبيرة من صغار السن، كما أنه عجز عن نسيان حبه الأول كاميلا باركر على رغم زواجه بـ"أميرة القلوب" الراحلة ديانا.
على رغم مكانة الأميرة ديانا وشعبيتها المستمرة حتى بين أولئك الذين ولدوا بعد رحيلها فإن زواج تشارلز بكاميلا كان "مغامرة" و"مخاطرة"، وكلاهما يشكل وجدان الأصغر سناً وكلاهما أيضاً يقف على طرف نقيض من العادات والتقاليد والطقوس.
عن "اندبندنت عربية"