مرت ذكرى استقلال الشعب الجزائري في الخامس من تموز (يوليو) الجاري. وفي كل عام يتجدد الأمل بانبعاث فجر عربي جديد، لا سيما وأنّ الجزائريين ألهموا العالم بمقاومة استمرت 132 عاماً للتحرر من الاحتلال الفرنسي الدموي للجزائر، وكان لهذا الاستقلال ثمن غال دفعه الشعب الجزائري الذي قدم أكثر من مليون شهيد، علاوة على مدن أُبيدت بأكملها.
ركز الاستعمار الفرنسي على نهب الثروات وإفسادها فهو يخدم شهية الطبقة الحاكمة وكان يعمل لنهب أكثر الأراضي الزراعية خصوبة
الثورة الجزائرية قصة كفاح لشعب ثار وحقق الأمجاد، ولعلّ لهذا النصر العظيم ملامح مميزة، جعلت ثورة التحرير هي درّة ثورات القرن العشرين، رغم البشاعة التي تعرض لها الثوار على مدار سنوات الاحتلال والنار.
البرجوازية الاستعمارية تلتهم الجزائر
"إنّني مبتهج بأن أكون أوّل من يصعد إلى المقصلة، فبنا أو بدوننا ستحيا الجزائر، ليس من عاداتنا أن نطلب بل من عاداتنا أن ننتزع، وسننتزع منكم حريتنا عاجلاً أم آجلاً". هذه كانت كلمات الشهيد الجزائري أحمد زبانة، حيث تعتبر الثورة الجزائرية أحد أقسى وأعنف ثورات القرن العشرين، وأكثرها دموية، وذلك بسبب ما ارتكبته فرنسا من مجازر وحشية وإبادة ممنهجة بحق الشعب الجزائري، من أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حيث توجه حوالي ثلثي الشعب الجزائري حينها لصفوف المقاومة، من الرجال والنساء على سواء، واستخدم المستعمرون، في المقابل، أكثر الأساليب البربرية لإخضاع الأرض لسيطرتهم.
ويعد الجنرال بوغيود (Bugeaud) أشهر جنرالات استعمار الجزائر، وقد عينوه لتلك المهمة، بعد سيطرته على الإضرابات العمالية للفرنسيين في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر؛ إذ ركز على إخضاع القرى الصغيرة التي استماتت في مقاومتها للمستعمر، فكان يقوم بحصار القرية، حتى الجوع، أو احتجاز رجالها في السجون وتعريضهم لأساليب تعذيب وحشية. ومن الأقوال الشهيرة المتواردة عنه في سنوات الإستعمار الأولى: "أعتقد أنّ قانون الحرب يجيز لنا أن ندمر البلاد، وأننا يجب أن نفعل ذلك إما بتدمير المحاصيل في وقت الحصاد، أو في جميع الأوقات من خلال القيام بهذه الغارات السريعة، والهدف من ذلك هو الاستيلاء على الرجال".
لم تحظ حركة من حركات التحرر الوطني بمثل ما حظيت به الثورة الجزائرية من تأييد الشعوب والمحافل الدولية
قام الاستعمار بالتركيز على نهب الثروات وإفسادها، فهو يخدم شهية الطبقة الحاكمة، وكان يعمل لنهب أكثر الأراضي الزراعية خصوبة، وأخذ المحاصيل إلى فرنسا، بينما تركت الأراضي الجافة والصخرية للجزائريين؛ فأكثر من 55% من الأراضي الزراعية كانت بيد الفرنسيين، ويسيطرون على إنتاجها، وعلى إثر الدعاية الموجهة للفرنسيين، هاجر العديدون منهم إلى الجزائر، حيث روّجت الدولة أنّها أرضهم الجديدة، وهي مكان يتحقق فيه الثراء السريع، فهاجر الآف من الفرنسيين واستوطنوا الجزائر، حتى سنوات الاستقلال، وكانت المستعمرات الفرنسية على رأسها الجزائر خير مؤونة للجيش خلال الحرب العالمية الأولى، حيث العمالة المنخفضة، والجند والمخزون الغذائي الجيد، حتى نهض الحزب الشيوعي الفرنسي 1920 الذي أبلى بلاءً حسناً في مواجهة حكومة بلاده بهذا العار الذي يمارسونه ضد الجزائريين.
الصراعات المناهضة للاستعمار
"ليس صحيحاً أنّ هناك مستعمراً صالحاً ومستعمراً شريراً، إنّما هناك مستعمر وحسب" كانت تلك إحدى مقولات الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي ناهض استعمار بلاده للجزائر، وقد أتت مناهضته ببعض ثمارها في تحرير الجزائريين. ومثلت نهايات الحرب العالمية الأولى والثانية موجة احتجاجية في كل البلدان المستعمرة لا سيما الجزائر، وكانت هناك تحركات شعبية قوية تصارع للانفصال عن الإمبريالية والهيمنة الإستعمارية، في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، أطلقت جبهة التحرير الوطني سلسلة من الهجمات، استهدفت ونسقت على النقاط الإستراتيجية للجزائر الفرنسية. هذه مجموعة غير معروفة تقريباً من أجهزة الاستخبارات الفرنسية، وهؤلاء المقاتلون قليلون، معزولون عن المنظمات السياسية الأخرى، في السرية الأكثر كمالاً، ومع ذلك، تمكنوا في غضون بضعة أشهر من جلب غالبية الجزائريين وراءهم، إلا أنّ الرياح تأتي دائماً بما لا تشتهيه السفن، ففي 5 كانون الثاني (يناير) 1956، تم اكتشاف موارد هائلة من النفط والغاز في باطن الصحراء، مما ساعد على إطالة أمد الحرب لعدة سنوات بسبب هذه القضية.
كرست الإمبريالية الفرنسية في المرحلة الأولى من الثورة (1954 – 1957) كل قواها لأجل مواجهة التمردات، وإلقاء القبض على الناشطين في جبهة التحرير، وحين لاحظوا تمرد أهل الريف الذين لم يطيقوا بعد، سيطرة المستعمر على أراضيهم، وإعطائهم حصصاً غذائية معينة، فحاصروا سكان الريف بمخيمات، وحبسوهم فيها كالمعتقلين، وحين كانوا يتشككون بأنّ البعض منهم يعلم أخباراً عن أعضاء جبهة التحرير، يقومون بتجويع المخيمات بأكملها، وقطع الحصص الغذائية عن كل السكان حتى الاعتراف، وتوفي على أثر عمليات التجويع الممنهج هذه قرابة 500 طفل يومياً، فقد سكن تلك المخيمات قرابة مليونين ونصف من الجزائريين مقدرين بثلث التعداد السكاني للدولة، وتلك الإحصائيات جاءت وفقاً لتقارير برلمانية فرنسية، استطاعت جبهة التحرير بصفتها الجهة الوحيدة المعبرة عن تطلعات الجزائريين في الاستقلال، جذب فئات مختلفة من الشعب من الوجهاء المحليين، والعلماء، والجبهات الإسلامية التي شاركت في الحرب ضد المستعمر، وكلها علقت آمالها على جبهة التحرير، فانطلقت الإضرابات العمالية في الجزائر، حيث بدأت بإضراب عام في مصنع (سومل)، لمدة 24 يوماً، وقد نجح هذا الإضراب لتتوالى فيما بعد الإضرابات الناجحة على الرغم من اعتقال مئات العمال وتعذيبهم وقتل العديد منهم، إلّا أن الصمود العمالي كان السمة الغالبة لتلك الإضرابات التي أصابت فرنسا بالإنزعاج، وأبهرت العالم كله بهذه البسالة النادرة.
لهيب الثورة وفجر النصر
قسماً بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
هذا مقطع من افتتاحية النشيد الوطني الجزائري، الذي مهدت له الثورة الشعبية، بعد أن شكلت جبهة التحرير الوطني أزمة سياسية للنظام الفرنسي، فبعد الصمود الذي حققه الجانب الجزائري، جاء الجنرال شارل ديجول، أملاً في حل تلك الأزمة بالنسبة لبلاده، وكان السياق العالمي حينها يخبر بأن الجزائر لن تظل فرنسية بعد، حيث إنّ ثورة الجزائريين لاقت تأييداً من كل القوى الخارجية والأمم المتحدة، نظراً لأنها قامت في حقبة مهمة من صعود حركات التحرر الوطني حول العالم، واستماتة الشيوعيين والقوميين، في عمليات الحشد الشعبي التي كانت من أهم أسباب النصر.
اقرأ أيضاً: المصالحة الوطنية تخرج الجزائر من دائرة الإرهاب
وأجبرت المظاهرات العارمة في 1958 الجمهورية الرابعة على طلب التفاوض من جبهة التحرير الوطني، بعدما عجزوا عن سحقها، على الرغم من عدم تكافؤ الميزان العسكري بين القوتين، فديجول القادم لإدارة الأزمة السياسية التي خلقتها بلاده الإستعمارية، طلب بشكل مباشر التفاوض مع جبهة التحرير للوصول لحل والخروج من الأزمة، وتبييض وجههم أمام العالم الذي احترق بعد غضب العديد من الشعوب من ما تفعله فرنسا بالجزائريين.
ما بين العامين (1959-1961) ضعفت التكتيكات العسكرية التي استخدمها الفرنسيون، في محاولات بائسة لاستعادة السيطرة، وبدأت الجلوس على مائدة المفاوضات حتى حصلت الجزائر على استقلالها بشكل نهائي 1962، إلّا أن المحتل يأبى أن يرحل دون أن يأخذ غرضه الأصلي من الاستعمار، فبموجب الاتفاقيات الدبلوماسية السرية التي حدثت وقتها، كان على فرنسا أن تلتهم ثروات الجزائر، وفقاً لنصوص نشرتها وزارة المجاهدين في الجزائر والتي عرفت باتفاقية ايفيان، ونصت على ما يلي: "تضمن الجزائر مصالح فرنسا والحقوق المكتسبة للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين [أي الشركات] بموجب الشروط المنصوص عليها في هذه الإعلانات، وفي المقابل، ستقدم فرنسا المساعدة التقنية والثقافية للجزائر، وستقدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمساعدة مالية تفضيلية".
اقرأ أيضاً: انتكاسة غير مسبوقة لأحزاب الإسلام السياسي في الجزائر
بعد رحيل المستمعرين ورحيل ملاك الأراضي والمصانع من الفرنسيين، سادت حالة من الفراغ المؤسسي والسياسي، وهي العقبة الأولى التي واجهت جبهة التحرير الوطني، وهو ما أوضحه المحامي وأحد أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري الحاج علي لزرق لـ"حفريات" فـ "بعد قرابة قرن ونصف من الاستعمار العسكري والفكري، كان من الطبيعي وجود حالة من الفراغ السياسي والمؤسسي عاشتها الجزائر فترة ليست بالطويلة، ولكن بدأت الأحوال المعيشية بالتحسن، والرواتب في الارتفاع، وبنيت أعداد هائلة من المستشفيات والمدارس، مما ساهم في ارتفاع مستوى معيشة المواطن الجزائري، كما بدأت الدولة بإعادة بناء مؤسساتها وبدأت بالجيش، الذي كان لاعب أساسي بعد الثورة في الساحة السياسية".
اقرأ أيضاً: متطرف جزائري يحطم تمثالاً تاريخياً لامرأة بحجّة "العورة"
ومثّل هذا الوضع السياسي غير المستقر والأيدلوجيات المتضاربة، عملية مستمرة من الإضرابات والاحتجاجات، حتى مجيء نظام هواري بومدين عام 1965، وهو ما استعرضته وزارة المجاهدين الجزائريين في إصداراتها المتتالية بعنوان "لمحات من ثورة التحرير".
ملامح ميزّت الثورة
نساء الجزائر الثائرات: تميزت الثورة الجزائرية بمميزات لم تكن لغيرها من ثورات القرن العشرين، على الرغم من مشاركة النساء في بعض الثورات إلى جانب الرجال، إلّا أن الجزائريات كان لهن حضورٌ طاغٍ في ثورة التحرير، حيث انضمت لصفوف المقاتلات أكثر من 11 ألف مقاتلة جزائرية حملن السلاح ضد المستعمر وشاركن في الاغتيالات وزرع القنابل، ومثلت الريفيات منهن 80%، وأثبتت المرأة الجزائرية خاصة الريفية قدرتها على إدارة حرب بمثل تلك القوة.
النخبة الفرنسية تنصر الجزائر: على الرغم من العداء الذي ولده الاحتلال الفرنسي في نفوس الجزائريين ضد الفرنسين، إلّا أنّ نخبة من مثقفي فرنسا انضموا لصفوف الجزائريين وعادوا حكومات بلادهم وانتقدوا سياساتها الاستعمارية، وطالبوا بالاستقلال، كان أشهرهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وكتابه الشهير"عارنا الذي في الجزائر"، والطبيب النفسي فرانز فانون الذي كرّس حياته مناضلاً لتحرير الجزائر، وعلاج شعبها، وقد امتن الجزائريون لهؤلاء أشد الامتنان، لدرجة أن دُفن فانون من قبل المجاهدين الجزائريين ووري ثرى الجزائر التي أحبها.
اقرأ أيضاً: السلطات الجزائرية تلاحق أتباع "المسيح المنتظر"
الاحتفاء الدولي بالثورة: لم تحظ حركة من حركات التحرر الوطني بمثل ما حظيت به الجزائر من تأييد الشعوب والمحافل الدولية، وكذلك التوثيق الذي لم يهتم به الجزائريون كثيراً بقدر اهتمام المثقفين من ذوي الجنسيات الأخرى الذين اعتبروا حركة التحرر الوطني في الجزائر ملهمة بشكل كبير، فاهتموا بالتوثيق والرصد أكثر من أبناء الثورة نفسها.