
منذ نشأتها في أواخر ستينيات القرن الـ (20) إلى اليوم، هيمن طابع الصراع والصدام على علاقة حركة النهضة بأنظمة الحكم في تونس، إلى أن تمكنت بعد عام 2011 من النفاذ إلى مؤسسات الدولة وتحكمت في المنظومة الحاكمة، وهي أكثر الفترات التي شهدت هدوءاً في علاقتها بالحكم، الذي قادته، برغم محاولاتها اختراق المؤسستين؛ الأمنية والعسكرية.
هذا الهدوء استمرّ إلى حدود 25 تموز (يوليو) 2021، تاريخ اتخاذ الرئيس التونسي قيس سعيّد جملة من التدابير الاستثنائية التي عادت بموجبها حركة النهضة إلى موقع المعارضة، وباتت خارج المؤسستين؛ التشريعية والتنفيذية، وهي الفترة التي حاولت فيها مراراً استفزاز الأمن والجيش، وتأليب الرأي العام، ونشر الفوضى.
هذا النهج الفوضوي يرجح متابعون للشأن التونسي أن يتطوّر بعد اعتقال زعيمها راشد الغنوشي على خلفية تهم، ليست بغريبة على الطابع الإخواني، تتعلق بالتحريض على حرب أهلية ونشر الفوضى، وهو ما قد يعجّل بمواجهة وشيكة مع الدولة.
هل بدأت المواجهة؟
اعتُقل الغنوشي على خلفية فيديو مسرّب تضمن خطاباً تحريضياً له أمام أنصاره، حذّر خلاله من أنّ إقصاء النهضة و"الإسلام السياسي"، أو أيّ طرف سياسي آخر، يمهد لحرب أهلية في تونس وبداية لانطلاقة الفوضى في البلاد.
الفيديو تم تداوله على نطاق واسع في تونس، واعتبره مراقبون ونشطاء تونسيون رسائل ضمنية لأنصاره من أجل التحرّك في إطار خطّة إخوانية مدروسة جيّداً، من أجل إدخال البلاد في حرب أهلية وحالة من الفوضى التي تمكنهم من العودة إلى أسوار الحكم.
قراءات استندت إلى تدوينة نشرها رفيق عبد السلام صهر الغنوشي على صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك"، انتقد فيها أدوار الجيش التونسي، وشكّك في وطنيته، واتهم جنرالاته بعدم الحيادية والتدّخل في السياسة من خلال دعم الرئيس قيس سعيد "لإحكام قبضته على السلطة"، وقال: إنّ "حياده وابتعاده عن السياسة كذبة كبيرة"، ووصفه بـ "الانقلابي"، في موقف عرّضه، هو وحزب النهضة، لموجة انتقادات كبيرة وأثار استياءً واسعاً لدى التونسيين، واعتُبر بمثابة إعلان حرب من الإخوان على المؤسسة العسكرية.
من جانبه، قال المحلل السياسي مراد علالة: إنّ "المواجهة بين السلطة والنهضة لم تبدأ بل تقدمت، وربما خرجنا من المواجهة النائمة إلى المواجهة المفتوحة، وهذا منعرج جديد في العلاقة بين الطرفين".
هذا النهج الفوضوي يرجح متابعون للشأن التونسي أن يتطوّر بعد اعتقال زعيمها راشد الغنوشي، على خلفية تهم ليست بغريبة على الطابع الإخواني
وأضاف، في تصريح لصحيفة "العرب" اللندنية: "يبدو أنّ الغنوشي ورّط نفسه والحركة من خلال تصريحاته، وزاد في تعقيد وضعية النهضة بوضع المسمار الأخير في نعش الحركة التي غادرها الكثير من أبنائها".
وتابع مراد علالة: "هناك برود وعدم تناسب بين شخصية الغنوشي كزعيم للحركة وقيادات الحزب"، مضيفاً أنّ "النهضة تجني الآن ما زرعته في الأعوام الماضية" (قانون الإرهاب 2015 والتوافق في السلطة مع حركة نداء تونس ومرسوم الأحزاب، والإجراءات الاحترازية التي قد تؤدي إلى حلّ الحزب).
محاولات فاشلة
وحاول الإخوان قبل ذلك كثيراً بث الفوضى في تونس، وتأليب الرأي العام وحشد الدعم الدولي وتجييش التونسيين ضد الرئيس قيس سعيّد، لكنّها جميعها باءت بالفشل؛ ممّا دفعهم مؤخراً إلى ضخ شائعات حول شغور منصب الرئاسة في تونس ومرض الرئيس وعجزه عن إدارة شؤون البلاد، بعد غيابه عن أيّ نشاط رسمي أو ميداني لأكثر من أسبوع، بداية رمضان الحالي، وهي مساعٍ متكررة، وفق مراقبين، ضمن محاولاتهم لإرباك مسار سعيّد.
وقد اعتبر الكاتب الصحفي والمحلل السياسي بسام حمدي، في لقاء مع "كيوبوست" أنّ فشل الخصوم السياسيين للرئيس قيس سعيّد في إثنائه عن مواصلة مسار 25 تموز (يوليو) 2021، وفي حشد دعم دولي للضغط عليه للتراجع عن كل الخيارات المتبعة، دفعهم إلى محاولة خلق الفوضى في تونس، والدفع نحو أزمة دستورية جديدة من خلال افتعال أخبار توحي بوجود حالة فراغ في رئاسة الجمهورية، ووصل الأمر إلى الحديث عن الفصول الدستورية التي يتم اعتمادها بعد تسجيل حالة شغور.
أعلن وزير الداخلية في أيار 1991 عن اكتشاف مؤامرة لإحداث الفراغ في أعلى هرم السلطة بتدبير محاولة اغتيال رئيس الجمهورية
ووفقاً لحمدي، فإنّ هذه المحاولات ستغذي أزمة الثقة بين هذه الطبقة السياسية المعارضة والشعب التونسي؛ خصوصاً بعد أن اكتشف التونسيون أنّ الدعايات والشائعات والمغالطات التي روّجها خصوم الرئيس قيس سعيّد، ليست سوى استهداف ومحاولة لخلق الأزمة، وظهور الرئيس أسقط أضغاث الأحلام التي كان يطمح إلى تحقيقها المعارضون للنظام الحاكم.
وذهبت حينها قراءات المشهد إلى أنّ لجوء إخوان تونس إلى "الشائعة" ليس آخر سلاح بحوزتهم؛ بل بإمكانهم اللجوء إلى عمليات استخباراتية أو التفكير في تسميم الرئيس أو اغتياله، وهي أساليب أثبت التاريخ اعتمادها من قِبل الإخوان، بعد أن باءت جهودهم من خلال النشريات واحتلال المنابر الإعلامية ومحاولات التظاهر وتجميع الناس والاتصالات الخارجية وعمليات "اللوبيينغ" بالفشل، وأثبتت أنّه لم يعد لديهم أيّ صدى يُذكر لدى غالبية التونسيين.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي 2021 حاول الغنوشي إحداث حالة من الصدام بين النواب والشعب، بدعوته التوجه إلى البرلمان والإعلان أنّه في حالة انعقاد دائم، تحدياً لقرارات الرئيس التي تستمد شرعيتها من الدستور، وأيضاً من دعم وتأييد الشارع والتفاف كافة القوى السياسية خلفها.
كما حاولت الحركة على امتداد العامين الماضيين، بطرق مختلفة، خلق صدامات في الشارع التونسي، من خلال الوقوف وراء اختفاء المواد الاستهلاكية الأساسية من الأسواق واختفاء بعض الأدوية الأساسية، فضلاً عن التحريض على الخروج ليلاً لمنع إجراء الانتخابات البرلمانية.
أعوام من الصدام مع الدولة
وكانت دراسة نشرها موقع "تريندز للدراسات والبحوث" قد سلطت الضوء على ما عاشته تونس في الأعوام الأولى لعقد التسعينات من احتداد الصدام بين النظام وحركة النهضة، ووصلت العلاقة بينهما إلى نقطة اللّاعودة عندما أعلن وزير الداخلية في أيار (مايو) 1991 عن اكتشاف مؤامرة لإحداث الفراغ في أعلى هرم السلطة بتدبير محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، من خلال تفجير الطائرة الرئاسية بوساطة صاروخ ستينغر عن طريق تنظيم سرّي تابع لحركة النهضة.
وقد سبقت ذلك أحداث عنف كثيرة تورط فيها منتسبون إلى الحركة على غرار إحراق مقرات الحزب الحاكم التجمع الدستوري الديمقراطي (على سبيل المثال مقر لجنة التنسيق للحزب بمنطقة باب سويقة بالعاصمة التي أدت إلى وفاة الحارس حرقاً في شباط (فبراير)1991، في إطار ما عُرف بخطة تحرير المبادرة التي وضعتها الحركة بعد خروج الغنوشي بطريقة شرعية من البلاد في 1989، وتهريب قادة آخرين، وقد واجه النظام الخطة الإسلاموية بقوة من خلال اعتقال عناصرها وتقديمهم للمحاكمة.
وتمكّن النظام خلال هذه المواجهة من إنهاء الحضور العلني لحركة النهضة في الساحتين السياسية والاجتماعية، وتوارى عناصرها وأنصارها عن الأنظار منسحبين من المشهد السياسي. فكانت الحركة في حالة انحسار، وبدا الأمر داخلياً وكأنّها في وضع موت سريري، واقتصر نشاطها على عقد مؤتمرات في الخارج.
يُذكر أنّ الحركة قامت أيضاً في الثمانينيات بتفجير الفنادق في المدينتين السياحيتين سوسة والمنستير (مسقط رأس الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة) الذي راح ضحيته (13) سائحاً أجنبياً، رداًّ على سجن بعض قادتها، بينهم الغنوشي.
وهو ما يعني أنّ الحركة كانت مستعدة لاتباع المنهج الانقلابي، واستعمال وسائل القوة الصلبة لإحداث التغيير في النظام السياسي، والاستيلاء على الحكم.