تنامي خطاب ديني يحارب الفن وينذر بفوضى التطرف في الجزائر

تنامي خطاب ديني يحارب الفن وينذر بفوضى التطرف في الجزائر


12/08/2018

صابر بليدي


لا زالت المؤسسات الدينية الرسمية والأحزاب الإسلامية في الجزائر، تلتزم الصمت لحد الآن، بشأن التنامي المثير لموجة رفض التظاهرات الفنية والأنشطة الثقافية المبرمجة لهذا الموسم في مختلف مدن ومحافظات الجمهورية، بدعوى أولوية تسخير الإمكانيات المالية والمادية للمؤسسات الحكومية في دعم التنمية وتحسين الخدمات، على التمتع بالعروض الفنية والموسيقية.

كشفت الدعوات المتفاقمة لمقاطعة التظاهرات الفنية والثقافية في الجزائر، عن احتمائها بالعباءة الدينية، وأظهرت نزوعا نحو التطرف الديني، بعد أن تجاوزت المطالب الاجتماعية والخدماتية التي رفعها محتجون في محافظات جنوبية، أمام صالات كانت مبرمجة لاحتضان حفلات موسيقية لفنانين محليين، إلى إشكالات فقهية تتعلق بالتحريم والتحليل والثوابت الدينية.

ووجه ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، دعوات لمقاطعة وإجهاض حفلات فنية مبرمجة في مدينة جيجل الساحلية، بحجة احترام الطابع المحافظ للمدينة، والمساهمة في نشر موجة المقاطعة المرفوعة من طرف جهات لم تكشف عن هويتها الحقيقية في مختلف مدن ومحافظات الجمهورية.

وجاء انتقال العدوى إلى مدينة جيجل، التي تتحول في فصل الصيف إلى وجهة للسياحة والترفيه، ليضاف إلى قرار مثير اتخذ من طرف المجلس البلدي المسير للمدينة، يقضي بمنع ما أسماه بـ”الملابس غير المحتشمة” وإلزام السياح ومرتادي المدينة بزي معين، بدعوى احترام الطابع الاجتماعي وتقاليد السكان، قبل أن تتدخل سلطات الولاية ( المحافظة ) لإلغاء القرار، الذي حمل تأويلات دينية مثيرة. وتعد المدينة أبرز معاقل التيار الإسلامي خلال حقبة العشرية الحمراء ( 1990-2000 )، وكانت قاعدة خلفية لما كان يعرف بـ”الجيش الإسلامي للإنقاذ” المنحل، وسبق لإحدى بلداتها الساحلية أن احتضنت مخيما لعناصر سابقة في الجيش المذكور وناشطين في التيار السلفي المتطرف، بما أوحى حينها إلى أنّ جيوب جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة تبحث عن عودة انطلاقا من مدينة جيجل الساحلية.

وكانت جمعيات فنية ومنظمو حفلات، قد أعلنوا تباعا عن إلغاء تظاهرات وأنشطة موسيقية فنية، في كل من وهران وسيدي بلعباس ووادي سوف ثم جيجل، خشية انتقال عدوى حادثة مدينة ورقلة إليها، لمّا قام المئات من الشبان بأداء صلاة المغرب والعشاء جماعة أمام صالة الحفل، احتجاجا على ما أسموه بـ”استفزاز السلطات للشارع المحلي ببرمجة حفلات موسيقية على حساب مطالبهم المتعلقة بتحسين الخدمات الاجتماعية”.

واستغرب مراقبون للشأن الجزائري، انتقال العدوى إلى مدينة سيدي بلعباس، التي تعد مسقط رأس موسيقى “الراي”، ومدينة فنية بامتياز ومن أكبر الفضاءات التي تستقطب رواد الفن والفنانين، حيث صرح أحد أعضاء الجمعية المنظمة للمهرجان، بأنه “تقرر إلغاء المهرجان بسبب بروز موجة رفض ومقاطعة حملت بعدا دينيا وأفكارا متطرفة، وأن الجمعية لا تريد أن تكون مصدر صدام أو أي انزلاق اجتماعي نحو الفوضى”.

ورغم حملة التعاطف التي حظي بها موقف المحتجين في مدينة ورقلة من طرف الشارع الجزائري، بسبب الظروف الاجتماعية والخدماتية في قيظ هذا الصيف، إلا أن المخاوف ظهرت للعلن من توسع دائرة الرفض والمقاطعة، وتغذيتها بأفكار دينية متطرفة تدعو لإجهاض وإبطال التظاهرات الفنية والثقافية، وبروز جدل فقهي على شبكات التواصل الاجتماعي، أعاد المشهد الجزائري إلى سنوات التسعينات حول تحريم الموسيقى والفنون.

وكان الشاعر والإعلامي عادل صياد، أول المنددين ببوادر الانزلاق التي تحملها موجة المقاطعة، وحذّر من مغبة تصاعد موجة التطرف الديني في البلاد، وعودة الأصولية بقوة إلى المجتمع، في ظل تنامي خطاب عدم احترام قيم الاختلاف والتسامح والتعدد الفكري والأيديولوجي، وتساءل عن دور المؤسسات الدينية في مثل هذه المواقف، وخلفيات نجاح بؤر الخطاب المتطرف في حشد الأنصار، بينما تفشل المؤسسات الدينية الرسمية في إرساء قواعد الاعتدال والوسطية.

ورغم تمسك الحكومة بما أسمته بـ”حق المواطنين في الفن والموسيقى والثقافة وباستغلال فرص الإجازات السنوية في الترويح والتسلية”، حيث شدّد وزير الثقافة عزالدين ميهوبي، على “حماية الدولة لحقوق المواطنين ومحاربة أشكال التطرف والأحادية الفكرية والأيديولوجية”، إلا أن الموجة مستمرة في التوسع بشكل أفقي لافت، وتسير إلى الإلغاء المتتابع لتظاهرات فنية أخرى.

ووصف رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، حملات المقاطعة بـ”الشغب المبرمج الذي لا تتوانى الحكومة في التعامل معه بحزم وصرامة، حيث أوقفت مصالح الأمن في مدينة وادي سوف نحو 30 شابا حاولوا التشويش على حفل كان مبرمجا في المدينة، إلا أن المنظمين عجزوا عن إقامته خوفا من تمدد الفوضى إلى الشارع المحلي”.

لكن بالمقابل لم يصدر أي موقف أو تعليق من طرف المؤسسات الدينية في البلاد، وعلى رأسها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، التي دأبت على عدم التأخر في الإدلاء بمواقفها في مختلف القضايا، لا سيما تلك المتعلقة بمخاطر انتشار عدوى التطرف الديني والصراعات المذهبية، ولم تكف عن خطاب الاعتدال والوسطية، حيث كانت توعز للأئمة المساجد في كل مرة، بمخاطبة روادها وحضهم على عدم الانجرار وراء بؤر التشدد الديني والفكري.

ومع الإجماع المسجل لدى الطبقة السياسية بمختلف تياراتها حول عدم الانسياق وراء الخطاب الجديد، والتحذير من انحرافاته، واستغلال المقدس في بلوغ أجندات سياسية، لا زالت الأحزاب الإسلامية والإخوانية تحديدا تلتزم الصمت، وتلوح بالانشغال بالقضايا السياسية الأساسية المطروحة. ويشبه متابعون الوضع القائم، بذلك الذي كان سائدا في حقبة التسعينات، لما كان إسلاميو جبهة الإنقاذ المحظورة يحشدون الشارع ضد خيارات وتوجهات الدولة، بينما المساحة تضيق تدريجيا على خطاب الحكومة بسبب الفجوة العميقة بينها وبين الشارع، لذلك كان الأخير يمارس انتقامه من السلطة، بقبول خطاب الإسلاميين حتى ولو كان غير مقتنع به.

ويعتبر دخول شبكات التواصل الاجتماعي على خط الحياة الحديثة، أكبر عائق أمام عملية المراقبة والتحكم في مثل هذه الخطابات، فهيكلة وتنظيم المؤسسات الدينية، يبقيان غير كافيين أمام سرعة التواصل والتأثير على الرأي العام بأفكار معينة، بوسائل متاحة للجميع وبعيدا عن عيون أعوان السلطة.


عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية