تزييف الوعي باسم الدين: الإسلاموية نموذجاً

تزييف الوعي باسم الدين: الإسلاموية نموذجاً

تزييف الوعي باسم الدين: الإسلاموية نموذجاً


19/09/2022

تروم هذه المقالة التوقف عند بعض آثار تزييف الوعي باسم الدين، بعد مرور من تجربة الانتماء إلى تديّن ما، والنموذج هنا التديّن الإخواني باعتباره أحد أنماط التديّن السائدة في المنطقة منذ قرن تقريباً، بصرف النظر عن مآل مشروعه، كما اتضح ذلك مع أحداث "الفوضى الخلاقة" بين كانون الثاني (يناير) 2011 وحزيران (يونيو) 2013؛ أي تكريس التأزم النظري والتنظيمي.

أما الواقعة التي سوف تكون أرضية للاستئناس في سياق تسليط الضوء على آفات تزييف الوعي، فقد جاءت مع الحلقات التي أجرتها مؤخراً فضائية "الجزيرة" مع الباحث الكويتي عبد الله فهد النفيسي، والذي يُقدم للمشاهد على أساس أنّه مفكر إستراتيجي، وسوف نصرف النظر عن تقييم هذه الصفة، بالرغم من أنّ عقد مقارنة بسيطة بين مقتضى الصفة وطبيعة خطابه ومنه نموذجه التفسيري الذي يروّجه، يُفيد أنّه من الصعب الحديث عن تحليل سياسي ينهل من مقام التفكير الإستراتيجي.

بين أيدينا مجموعة تفاعلات صادرة عن باحثين ينتمون إلى مَجَرّة إسلاموية، تحمل اسم جماعة "العدل والإحسان"، وهي جماعة إسلامية مغربية، أسسها الشيخ عبد السلام ياسين، الذي كان مريداً سابقاً في إحدى الطرق الصوفية، قبل انفصاله عنها ليؤسس جماعة إسلامية موازية، كانت تنهل بداية من العمل الصوفي تأثراً بالأعمال التي حرّرها، قبل دخول المرجعية الإخوانية في خطاب وأداء الجماعة، وكذلك بعض الآثار النظرية القادمة من التداول الشيعي، من خلال الحديث عن مفاهيم "المرشد"، "القومة" [أي الثورة] ومفاهيم أخرى.

الواقعة التي سوف تكون أرضية للاستئناس في سياق تسليط الضوء على آفات تزييف الوعي جاءت مع الحلقات التي أجرتها مؤخراً فضائية "الجزيرة" مع الباحث الكويتي عبد الله النفيسي

وبحكم رحيل مؤسس الجماعة في كانون الأول (ديسمبر) 2012 دون أن تحقق الأهداف التي تروج لها، وفي مقدمتها الدعوة إلى "إقامة الخلافة على منهاج النبوة"، سوف نعاين أعواماً قليلة بعد ذلك المنعطف، انفصال العديد من أتباع الجماعة عن المشروع وانخراط جزء منهم في خطاب النقد الذاتي، سواء بقي ذلك النقد في الكواليس أو يصدر في المنصات الرقمية، من قبيل موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أو جاء في صيغة بعض المقالات أو الكتب كما هو الحال مع مجموعة منها، من قبيل رسالة حرّرها محمد العربي أبو حزم، أحد أطر الجماعة بالدار البيضاء، وجاءت تحت عنوان "قبل فوات الأوان"، وكانت موجهة إلى محمد عبادي، الأمين العام للجماعة، أو صدور كتاب "من الإحسان إلى المصلحة" (ط 1، 2021، وجاء في 500 صفحة)، وألفه فوزي كريم، عضو سابق في الجماعة قضى 25 عاماً داخل التنظيم، ذهب بعيداً في النقد إلى درجة الحديث عن "الطاغوت التنظيمي" أو الانتقال من "تحقيق الغايات السامية" إلى "مشاريع سلطوية ومصالح شخصية واستقطابات ذهبية لا علاقة لها بتاتاً بالشعارات المرفوعة أمام الداخل والخارج"، ضمن أعمال أخرى.

لنترك هذا السجال التنظيمي، ونتوقف عند تفاعل بعض الباحثين من الجماعة نفسها مع القراءات النقدية الصادرة عن النفيسي بخصوص أداء ومصير الإسلاموية، وواضح أنّه يخص بالذكر الإسلاموية في أفقها السياسي، المجسدة على الخصوص في المشروع الإخواني، حتى نترك جانباً الإسلاموية الدعوية، من قبيل جماعات "الدعوة والتبليغ" وبعض التيارات السلفية، أو الإسلاموية الجهادية من قبيل تنظيم "داعش" وما تبقى من تنظيم "القاعدة".

يهمنا هنا قراءتين نقديتين بالتحديد: صدرت الأولى عن باحث ما يزال عضواً في الجماعة الإسلامية المعنية، والثانية صادرة عن عضو انفصل عنها، حتى نأخذ فكرة عن تأثير تزييف الوعي الممارسة باسم "المرجعية الإسلامية"، مع الإشارة إلى أنّ الأمر يتعلق بباحثين، وبالتالي من المفترض أن يكون الأفق النقدي مرتفعاً مقارنة مع أعضاء عاديين، لا علاقة لهم بالهم البحثي والهاجس النقدي.

من بعض الأعطاب الذاتية في المشروع الإسلاموي انعدام أو تواضع النقد الذاتي عند الإسلاميين وقلّة الخبراء والمتخصصين

1 ــ في الحالة الأولى، نقرأ للباحث هشام حجاج مقالاً حول الموضوع، بعنوان "عندما تختل الموازين يضيع الحق في الحقيقة: تعليقاً على حلقة موازين مع الدكتور النفيسي"، نقتبس منه مثلاً أنّه "إذا كانت الحركة الاسلامية تفتقر إلى مفكرين كما زعم الدكتور النفيسي فافتقارها إلى من يقرؤها قراءة منصفة وعميقة وموضوعية أشد"، حيث استعرض "آفات" جاءت في الحوار، منها "التعميم (الحركة الاسلامية تفتقد الى رؤية، واعتبارها كياناً واحداً)، الاختزال (اختزال المفكرين الإسلاميين في سيد قطب ومالك بن نبي)، الخلل المنهجي (القفز على تعريف الحركة الإسلامية)، انعدام الدقة (القول بأنّ كل من يشتغل على المفاهيم فهو مفكر)".

هناك إشارتان تهمنا أكثر في مقالة الباحث المعني:

ــ جاء في الأولى أنّ "ما طرحه سيد قطب في كتابه خصائص التصور الاسلامي هو كلام عام لا يدخل في إطار التنظير لمستقبل الدولة ومستقبل الإسلام، لأنّ موضوع الحلقة هو التجربة في الحكم. وقد كُتب في موضوع خصائص التصور الاسلامي العديد من الكتابات منها كتابات الدكتور القرضاوي على سبيل المثال لا الحصر".

ــ وجاء في الثانية تذكير الباحث لعبد الله النفيسي بأدبيات ذات صلة بموضوع الحلقات، معتبراً أنّه لن يذكر "الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله. أحيله على القاضي النبهاني فتنظيراته أكثر تقدماً مما كتبه سيد قطب ــ رحم الله الجميع ــ خصوصاً من الناحية المنهجية ووضوح الرؤية وتصورات الأهداف المرتبطة بالدولة والمجتمع والقانون. بغض النظر عن تقييمنا لما كتبه طبعاً. وغيره كثير بالمقياس الذي ذكره الدكتور النفيسي".

في معرض قراءة الإشارة الأولى، هناك معضلة منهجية ومعرفية في آنٍ نعاينها في تفاعل العديد من أقلام الساحة، بما فيها الأقلام الإسلاموية، مع الانقلابات التي طرأت على المواقف السياسية للعديد من الأقلام الفكرية والدينية في المنطقة العربية بعد أحداث "الفوضى الخلاقة"، من قبيل ما صدر عن أبو يعرب المرزوقي في تونس (بخصوص مواقفه من الجهاديين في سوريا واعتراضه على من ينتقد هؤلاء)، أو ما صدر عن طه عبد الرحمن في المغرب (بخصوص مواقفه من بعض دول المنطقة العربية، وازدواجيته في ممارسة النقد، وتمريره مواقف سياسية لا تختلف عن مواقف الإسلاموية، الإخوانية الجهادية)، ضمن أمثلة أخرى.

ومن هذه الأسماء بالطبع، حالة الداعية يوسف القرضاوي، وخاصة ما صدر عنه في سياق تفاعله مع أحداث ليبيا، والتي بدت كما لو أنّها صادرة عن عضو في تنظيم "داعش" أو تنظيم "القاعدة"، وليس أحد الأسماء التي كانت توصف قبل 2011 بأنها تجسد "الوسطية الإسلامية" في المنطقة؛ أي مواقفه المشيطنة للنظام الليبي، ودعوة الجنود الأمريكيين لإسقاط النظام وما جاور هذا الخطاب.

وواضح أنّ هذه التحولات بكل تبعاتها النظرية والميدانية، غائبة كلياً في مقالة الباحث المعني على هامش تفاعله النقدي مع آراء النفيسي، كأنه يتحدث عن قرضاوي ما قبل 2011 وليس قرضاوي ما بعد 2011؛ لأنه شتان نظرياً وبالتالي شتان عملياً ما بين المقامين، والحال أنّه لم يعد ممكناً الخوض في مواقف تلك الأسماء، ومنها القرضاوي، مع صرف النظر عن تحولاتها في مواقفها السياسية، كأنّ شيئاً لم يصدر عنها.

في معرض قراءة الإشارة الثانية، يتضح أنها تحيل على معضلة مسكوت عنها في الساحة الإسلاموية، عنوانها إضفاء هالة من التبجيل على المشايخ، تكاد تقترب من مقام التقديس، من خلال الحديث عن "الإمام المجدد"، وثمة تقاطع هنا في النموذج المعني، مع الهالة التي يضفيها بعض أتباع الجماعة مع الهالة نفسها التي نجدها عند بعض أتباع التشيع في المنطقة في سياق تعاملهم مع شخصية الخميني؛ أي هالة التعظيم الذي يعمل بقاعدة "قول الإمام يؤخذ منه ولا يُرد"، وبَدَهي أنّ هذا الخطاب لا علاقة له قط بالعمل السياسي؛ لأنه يؤسس تصلباً في الرأي لا يقبل الاعتراض، مما يؤسس بدوره نزعة سلطوية باسم الدين، ولكن هذه تفاصيل لا مفكر فيها أساساً عند أغلب هؤلاء.

2 ــ نأتي للتفاعل الثاني، ويهم رأياً لباحث آخر، ميزته مقارنة مع التفاعل الأول أعلاه أنه انفصل عن الجماعة، وبالتالي يملك هامش حرية نقدية أكبر في سياق قراءة مثل هذه الوقائع، ومنها مضامين الحوار مع عبد الله النفيسي، حيث حرّر رأياً يصب في النقاش حول تقييم وحكم الإسلاميين، بعد التطورات التي مرت منها المنطقة العربية، وجاء مقاله تحت عنوان "لم يحكم الإسلاميون حتى نجلدهم بالنقد"، ومما جاء فيه، المقتطفات التالية:

ــ "لحد الآن، لم تحكم أية حركة إسلامية بلداً من البلاد العربية حتى ننبري في تقييم تجربتها في الحكم، لا أحد منها مطلقاً، لا في مصر (الإخوان المسلمين) ولا في تونس (النهضة) ولا في المغرب (العدالة والتنمية). والحالة الوحيدة، وأقصد بها السودان، كانت في الأصل تفتقر للشرعية؛ لأنها وصلت إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري أطاح بحكومة منتخبة، وتحالفت مع العسكر، الذين من شأنهم دائماً رفض اقتسام السلطة وعائداتها، فسرعان ما طوَوْها تحت جناحهم ثم أقصوها ثم زجّوا بها في السجون".

هناك معضلة منهجية ومعرفية في آنٍ نعاينها في تفاعل العديد من أقلام الساحة، بما فيها الأقلام الإسلاموية، مع الانقلابات التي طرأت على المواقف السياسية للعديد من الأقلام الفكرية والدينية في المنطقة العربية بعد أحداث "الفوضى الخلاقة"

ــ "لم يفشل الإسلاميون لأن النقد الذاتي منعدم في صفوفهم (وهو بالفعل ضعيف بينهم)، ولم يفشلوا لأن صفّهم خِلوٌ من المفكرين ومنتجي الأفكار (وهم بالفعل قلّة)، ولم يفشلوا لقلّة في الخبراء والمتخصصين (وهم كذلك)، ولكن لأنّ هناك من خطّط لإفشالهم، دون الحطّ من قيمة العامل الذاتي الذي أبان بالفعل عن ضعف للإسلاميين في الكثير من تقديراتهم السياسية".

يُحسب لهذا الرأي النقدي أنه يُسلط الضوء على بعض الأعطاب الذاتية في المشروع الإسلاموي، من خلال حديث الباحث عن انعدام أو تواضع النقد الذاتي عند الإسلاميين، قلة الخبراء والمتخصصين، ضمن آفات أخرى، وما كان الباحث ينتبه لهذه التفاصيل النقدية الهامة لو أنه بقي عضواً في الجماعة نفسها؛ لأنه لا يُسمح التعبير عن ذلك، إلا أن يكون النقد في الكواليس، لكنّ صدوره للعلن، أمر غير مسموح به إجمالاً مع هذه الجماعات.

لكنّ المقالة نفسها، لم تسلم من بعض الإشارات التي مردها بقاء بعض آثار تزييف الوعي باسم الدين؛ أي باسم المرجعية الإسلاموية للجماعة نفسها، ودليلنا على ذلك أنّ الخطاب النقدي الموجه ضد صانعي القرار في المنطقة بخصوص فشل الإسلاموية، كما جاء في المقالة، ينهل من العقلية نفسها التي تميز الإسلاموية، والمؤسَّسة بدورها على عدة محددات، ومنها محدد عقلية المؤامرة، وهو المحدد الذي كان حاضراً في مقالة الباحث المعني، والذي بالرغم من تحرره التنظيمي، لكن هذا لا يُفيد أنه تحرّر إيديولوجياً بشكل كلي، وهذه ظاهرة نعاينها مع العديد من أتباع الإسلاموية في المنطقة العربية، وتستحق وقفات بحثية كمية ونوعية.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية