تركيا في مرمى الدراما المصرية

تركيا في مرمى الدراما المصرية


30/04/2022

محمد أبو الفضل

لجأت بعض الأعمال الدرامية المصرية التي عرضت منذ بداية شهر رمضان إلى الإسقاطات السياسية للتعامل مع جهات تورطت في ارتكاب جرائم عنف حدثت داخل الأراضي المصرية، على طريقة “كل لبيب بالإشارة يفهم”، وأخرجت من المعادلة أسماء قوى طالتها اتهامات مباشرة من قبل وسائل إعلام وأجهزة رسمية في القاهرة.

وتعمدت مسلسلات ذات محتوى سياسي عميق تشرف عليها أجهزة أمنية مصرية تجاهل أسماء كل من قطر وتركيا وإيران وحركة حماس وحزب الله اللبناني في مسلسل “الاختيار 3”، وهي قوى كانت على علاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، وجاء ذكر كلّ منها من خلال تلميحات كافية لفهم الجهة المقصودة.

وحظي المسلسل الذي يدور محتواه حول فترة حكم الإخوان لمصر بجرعتين سياسية وأمنية عاليتين، وتجنب صناعه الحديث بصورة مباشرة عن الجهات السابقة لأسباب دبلوماسية حيث لا تريد القاهرة تعكير العلاقات معها أو توحي بأنها حريصة على ما وصلت إليه من تطورات إيجابية مع بعضها.

وخرجت تركيا من هذه الصورة في “الاختيار”، غير أنها كانت حاضرة في مسلسل “العائدون” الذي يدور حول تدوير الجماعات المتطرفة، وكُتبت في بداية كل حلقة عبارة “إن المسلسل قصة مخابراتية وعرض سلسلة من العمليات السرية التي تهدف إلى كشف المؤامرات والمخططات الإرهابية التي تسعى إلى تقسيم المنطقة”.

تعني هذه العبارة أن السرد المعلوماتي الذي يتضمنه مستمد من الواقع وحدث فعلا، ومن هنا يمكن النظر إلى العمل الدرامي على أنه سياسي وأمني بامتياز.

واستخدم القائمون على العمل حيلة تغيير أسماء الأشخاص والأماكن للخروج من مطب الإشارة المحددة لدول تورطت في نشر الإرهاب بمصر ومنطقة الشرق الأوسط.

وللتأكيد أيضا على هذا المعنى وضع العمل لافتة أخرى قبل كل حلقة تقول “قصة هذا المسلسل مستوحاة من واقع نعيشه بأحداث وشخصيات من وحي خيال المؤلف، لذلك فأي تشابه بين الأحداث وشخصيات المسلسل والواقع هو محض صدفة، ولذلك وجب التنويه”.

ولم يكن المضمون الذي تنطوي عليه العبارة الثانية كافيا لإخفاء هوية تركيا ودورها في تجميع وتدريب المتطرفين في سوريا ثم إرسال المرتزقة إلى عدة دول للقتال والانخراط في صراعات ملتهبة، ومن بين هذه الدول ليبيا التي ذكرت بالاسم.

وتكفي مراقبة الأزمة الليبية ليستشف المتابع أن تركيا هي الدولة المقصودة التي قامت بهذه المهمة خلال السنوات الماضية، فالكل يعلم دورها في إرسال المرتزقة إلى الساحة الليبية.

ما حاول صناع المسلسل المصري “العائدون” مداراته فضحته التطورات المعروفة التي تابعها الكثير من المراقبين، وهو ما كشفته بعض الأسماء؛ فاختيار اسم مثل كمال أقطاي، رجل المخابرات الذي أشرف على المتطرفين وفرق المرتزقة، يشير إلى تركيا، لأن اسم أقطاي ذائع فيها، ما يعني أن المدارة لم تكن مطلوبة لتصبح كاملة.

كما أن الحديث عن بعض الدول الملاصقة لسوريا التي تقيم معسكرات لتدريب المتطرفين ارتبط بتركيا التي تملك حدودا ممتدة معها، واشتهرت بتدخلاتها السافرة في سوريا، وثمة معطيات توقف عندها العمل الدرامي كانت على صلة وثيقة بتركيا، فهي الدولة التي يعرف العالم كله أنها قامت بإرسال المرتزقة إلى ليبيا.

وقدم المسلسل سرديتين سياسية وأمنية في ثوب فني كنوع من تثبيت بعض الأحداث في ملف المرتزقة والإرهاب في المنطقة بلا إشارة صريحة إلى تركيا، لكن الأحداث أكدت أنها المستهدفة دون أن تتورط مصر الرسمية في ذلك.

ولا تهم الجوانب الفنية في المسلسل ودرجة الإتقان في الموسيقى والديكور وأداء الممثلين والمخرج، فالمقال هدفه تسليط الضوء على عمل فني رفع الغطاء عن تطورات مثيرة لم يكن هناك مجال لعمل صحافي تناولها من قبل بهذه الدقة.

وأدى الكشف عمّا يسمى بخطة نقل المقاتلين إلى أماكن مختلفة، من بينها ليبيا، إلى تقديم جرعة مكثفة من المعلومات لم يكن الحصول عليها سهلا، وهي التي أسهمت في نقل العمل من الخيال إلى الحقيقة، ومهما قيل حول إخفاء أسماء الأشخاص والأماكن هناك أدلة تؤكد إمكانية الوصول إليها، فلكل دولة أسماء متداولة لمواطنين أكثر من غيرها، بينها أقطاي المرتبط بتركيا.

وجرى استخدام صور وتمت الإشارة إلى أنها لدولة أوروبية بلا إشارة إلى اسمها، وهذه من السّهل التعرف على مكانها على الخارطة عبر محرك البحث غوغل، لكن لا أعتقد أنها تعبر عن الدولة الحقيقية التي كانت تدور فيها الأحداث.

ولجأ المسلسل إلى إظهار الدور المهم الذي لعبته أجهزة الأمن المصرية في مطاردة الإرهابيين وفلول المرتزقة وتتبع خطوط نقلهم من دولة إلى أخرى واستخدم الكثير من المفردات التي تؤكد أن القاهرة كانت واعية بما يدبر لها وللمنطقة، وأجهضت سيناريوهات مدمرة كانت ستحرق المزيد من الدول.

وأجلت الحلقات الأخيرة، التي ركزت على عملية نقل “تركيا” المرتزقة إلى ليبيا، جانبا من الغموض الذي اكتنف هذه العملية منذ حوالي ثلاثة أعوام، حيث أوضح العمل أن الهدف منها سيطرة بعض القوى الإقليمية والدولية على ثروات هذا البلد، وأن الإرهاب من الوسائل التي جرى توظيفها على نطاق واسع لهذا الغرض.

وفسر مسلسل “العائدون” لماذا صبرت مصر أكثر من اللازم على هذه الظاهرة ولم تتورط في مجابهتها مباشرة، على الرغم من أنها هددت أمنها القومي، وبدت وقتها حذرة جدا في التعامل مع المرتزقة، وحرصت على النأي عن مواجهتهم بنفسها، وكان السؤال الذي طرح نفسه وقتها: لماذا لم تبادر مصر بقطع الطريق على هؤلاء وهي تراهم يتدفقون على الأراضي الليبية؟

وأوحت التطورات والمعلومات التي جاءت في سياق العمل الدرامي بأن القضية ضخمة وتندرج في باب المؤامرة على المنطقة، ومن الضروري عدم الوقوع في فخ استدراج مصر إلى الأراضي الليبية لقتال جيوش غير نظامية.

ويصلح ما تناوله “العائدون” ليقيم الحجة على تركيا في ملف المرتزقة، ويؤكد أن مصر امتلكت مفاتيح خارطة قامت أنقرة بهندستها للمنطقة بالتعاون مع آخرين، ما جعل القيادة السياسية والأمنية في القاهرة تتحلى بالصبر إلى أبعد الحدود وتبدو تصوراتها في التعامل مع أنقرة منضبطة نسبيا، وتصرفاتها مع الإجراءات التي اتخذتها في ليبيا أكثر هدوءا مما يجب أن تظهر عليه في حالة تدخلها العسكري وجلب المرتزقة.

وتكفي الإسقاطات التي حملها مسلسل “العائدون” للقول إن النظام المصري لن يتوقف عن استخدام الدراما كأداة لتصفية الحسابات مع تركيا، حيث حشرها في زاوية ضيقة أضحت بمقتضاها غير قادرة على التعامل مع المأزق فإذا ردت أو تجاهلت سوف تثبت التهمة عليها.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية