تدخل إيران في البوسنة: كيف يؤشر على استراتيجية الملالي؟

تدخل إيران في البوسنة: كيف يؤشر على استراتيجية الملالي؟


30/08/2020

تحوّلت الحرب الأهلية في البلقان، التي اندلعت العام 1992، إلى فصل دموي من فصول التطهير العرقي، والقتل على الهوية الدينية. والمدقق في الأمر يستطيع إدراك التحوّل الخطير الذي صاحب تدفق المقاتلين الأجانب نحو البوسنة والهرسك، مع إعلان الجهاد الإسلامي، وتديين الصراع، وتورّط أطراف عديدة في عملية نقل مقاتلي القاعدة والتنظيمات الجهادية إلى ميادين القتال.

هل كانت حرباً دينية؟

كانت انتخابات العام 1990، إيذاناً بتفكك الاتحاد اليوغسلافي، في ظل رياح التغيير التي اجتاحت شرق أوروبا آنذاك، وامتد تأثيرها إلى منطقة البلقان، أعقب ذلك انسلاخ كرواتيا وسلوفينيا عن الاتحاد، مع محاولات صربيا الحفاظ على ما تبقى ضمن حدود يوغسلافيا القديمة، وكانت التركيبة العرقية في جمهورية البوسنة حائلاً دون تحقيق توافق سياسي يؤدي إلى موقف جمعي واحد، حيث كان المسلمون البوشناق يمثلون أغلبية، مع وجود أقلية صربية وأخرى كرواتية، سعت كل منها إلى تكوين كيان مستقل، وانتهى استفتاء العام 1992، بإعلان الاستقلال.

 

المدقق في سير معارك البوسنة يدرك أنّها لم تكن حرباً صليبية بالمعنى المطلق ضد المسلمين وحدهم

عقب ذلك حاول الرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، بناء دولة متعددة الأعراق، وهو ما ظهر بوضوح في تركيبة جيش الدفاع البوسني الإقليمي، والذي تكون من: 70٪ من المسلمين و18٪ من الكروات و12٪ من الصرب، وتأكيداً لذلك عيّن رئيس الأركان، سيفير خليلوفيتش، الجنرال الصربي، يوفانديفياتش، نائباً أول لقائد مقرّ قيادة الجيش البوسني، والجنرال الكرواتي، ستيبان سيبر، نائباً ثانياً للقائد.

رفضت صربيا الاعتراف باستقلال البوسنة، رغم الاعتراف الدولي، وأوعزت إلى الأقلية الصربية بإثارة الاضطرابات، وسرعان ما ظهر ما يُعرف بجيش جمهورية صرب البوسنة، والذي مارس أعمالاً وحشية بحق المسلمين والكروات، نتج عنها تهجير ما يقارب 2.2 مليون بوسني عن أراضيهم، كما تشكّل مجلس الدفاع الكرواتي في البوسنة، لتندلع حرب أهلية مدمرة بين الأعراق المكوّنة للجمهورية سيئة الحظ.

اقرأ أيضاً: محللون: قمة عمّان محور سياسي اقتصادي لمواجهة الأطماع التركية والإيرانية

والمدقق في سير المعارك على محاور القتال، يدرك أنّها لم تكن حرباً صليبية بالمعنى المطلق ضد المسلمين وحدهم، ففي كثير من الأوقات جرى تنسيق عسكري على نطاق واسع بين المسلمين والكروات، الذين تعرّضوا أيضاً لحرب إبادة شاملة من قبل الصرب، فالحرب كانت في مواجهة النظام الصربي الساعي إلى بسط نفوذه بأيّ وسيلة على المسلمين والكروات، ومن ثمّ السيطرة على البوسنة، وقد تمكّن الصرب من السيطرة بالفعل على نحو 70% من الأراضي.

حرب البوسنة وتبريد أبخرة الحرب الباردة

كان للفظائع التي ارتكبها جيش صرب البوسنة بحق المسلمين، صدى هائل في العالم الإسلامي، ما ساعد على الحشد والتجييش وجمع الأموال وشحن المقاتلين، ويمكن هنا أن نرصد دوراً أمريكياً مشابهاً لما جرى في حرب أفغانستان، مطلع الثمانينيات، ففي تلك الآونة تلقت صربيا دعماً روسياً، لاعتبارات سياسية جاءت في أعقاب السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي، وارتبطت بتداعياته، وفي الوقت ذاته كانت الولايات المتحدة بحاجة ماسّة للإجهاز على ما تبقى من مقدرات روسيا العسكرية، والحدّ من قدرتها على التدخل في مشكلات العالم، من أجل تكريس مفهوم القطب الأوحد، وبناء النظام العالمي الجديد، حيث جاءت حرب البوسنة بعد إعلان انتهاء الحرب الباردة، وفي سياق مساعي تفكيك المعسكر الشيوعي بشكل نهائي.

 

كان للفظائع التي ارتكبها جيش صرب البوسنة بحق المسلمين صدى هائل في العالم الإسلامي

كان حظر السلاح الذي فرضته دول أوروبا على القوى المتصارعة يصبّ في غير صالح الجيش البوسني، ويرفع من أسهم القوات الصربية، فلجأت واشنطن إلى خطتها القديمة، بالتماهي مع النفير الإسلامي، واستدعاء تنظيم القاعدة، بمساعدة باكستان ودول أخرى، وسرعان ما نشط المجاهدون على خطوط القتال، في ظل حالة الغضب التي اجتاحت العالم الإسلامي، في ضوء ما ورد من أخبار تتعلق بالمذابح المرتكبة بحق المسلمين، وتحركت الاستراتيجية الأمريكية على محورين؛ الأوّل: تمرير شحنات الأسلحة والجهاديين إلى البوسنة، والثاني: الضغط على روسيا، عبر إشعال الجبهة الشيشانية، حيث طوّر الإسلاميون هناك عملياتهم العسكرية، بقيادة، شامل باساييف، وأتباعه، قبل أن يأتي التدخل النهائي بتوجيه الناتو ضربات جوية نوعية مباشرة للقوات الصربية عقب مجزرة سربرنيتشا، صاحبها هجوم بري شامل، شنته القوات المتحالفة من المسلمين والكروات على معاقل الصرب في غرب البوسنة.

حزب الله يمهّد للاختراق الإيراني

يؤدي فشل الدولة الناتج عن الاحتراب الأهلي إلى خلق بيئة مثالية لجذب القوى الرامية إلى مدّ نفوذها، وعليه يمكن قراءة وفهم الأهداف الإيرانية من وراء التدخل المباشر لدعم المسلمين في البوسنة والهرسك، حيث قررت طهران مدّ قدم نحو منطقة البلقان، باعتبارها أرضاً خصبة لنشر المذهب الشيعي، في ظل طبيعة الإسلام هناك، وقد خرج مسلمو يوغسلافيا من تحت عباءة حكم طويل نجح في تحييد المجال الديني، وقلّم أظافره، بالإضافة إلى رغبة طهران في الخروج من دائرة الحصار، والانطلاق نحو القيام بدور الوكيل الحصري للمسلمين، عقب الدعاية الكبرى التي حققتها فتوى الخميني على صعيد الإسلام الشعبوي، بإهدار دم سلمان رشدي، وبعد سنوات قلائل من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وانهيار نظام البعث المعادي في بغداد، عقب فشل المغامرة الكويتية، كان الخروج إلى البلقان نافذة جديدة على المتوسط، بعد أن ضمن اتفاق الطائف العام 1989، تأكيد وجود حزب الله اللبناني الموالي لطهران، ضمن المكوّن السياسي اللبناني.

 

بداية اعتمدت إيران استراتيجية الانخراط العسكري غير المباشر في هذا الصراع من خلال حزب الله اللبناني

في البداية، اعتمدت إيران استراتيجية الانخراط العسكري غير المباشر، من خلال حزب الله اللبناني، الذي أرسل وفق أوامر إيرانية نحو 50 عسكرياً من عناصره إلى البوسنة في العام 1992، لإعداد وتدريب مجموعة من المتطوعين الشيعة، صاحب ذلك إرسال شحنات من الأسلحة الإيرانية، ولفتت تقارير دولية إلى وجود تنسيق بين الاستخبارات الإيرانية والمافيا الإيطالية؛ لتسهيل عمليات تهريب السلاح، وساعد التغير الاستراتيجي الذي انتهجته إدارة الرئيس الأمريكي، بل كلنتون، على تمريرها، وتحت أعين السفارة الأمريكية في كرواتيا، جرى إدخال نحو 4000 عنصر من قوات حزب الله وفيلق القدس الإيراني، إلى الأراضي البوسنية، ووفقاً لتصريحات القائد الميداني للقوات الإيرانية في البوسنة، العميد سعيد قاسمي، جرت هذه التحركات تحت غطاء الهلال الأحمر الإيراني.

وفي سياق موازٍ كان الشغل الشاغل للميليشيات الإيرانية هو نشر المذهب الشيعي في البوسنة، مع الترويج لأسطورة المقاتل الحسيني الباحث عن الشهادة بين كربلائيات سراييفو، على الرغم من عدم انخراط حزب الله في معارك حقيقية على محاور القتال، كما عملت إيران على استغلال الأوضاع الإنسانية هناك، لمدّ نفوذها بين النازحين من جبهات القتال.

استراتيجية التربص والصيد

تهدف الاستراتيجية الإيرانية إلى الانخراط في مناطق الصراع بشكل فاعل، لوضع قدم تستطيع من خلالها كسب ولاء أكبر عدد ممكن من ضحايا بيئة الصراع، عبر نشر التشيع، وتكريس إيديولوجيا الولي الفقيه، حتى إذا ما جاءت لحظة التسوية، يأتي موعد الصيد، بالمشاركة في اقتسام الغنائم، مثلما حدث في لبنان، ويحدث الآن في سوريا واليمن ومناطق أخرى.

 

نجح المشروع الإيراني في كسب عدد من الساسة البوسنيين الذين أصبح ولاؤهم الرئيسي لطهران

عقب توقيع اتفاقية دايتون للسلام، العام 1995، افتتحت طهران سفارتها في سراييفو، والتي نشطت بين صفوف البوشناق، بتقديم خدمات إنسانية متعددة، وركزت نشاطها بشكل خاص بين أتباع الفرق الصوفية، وبخاصة الطريقة البكتاشية، نظراً لتشابه تعاليمها مع المذهب الشيعي الاثني عشري، ما عزز النفوذ الإيراني على الأرض، بالإضافة إلى اتباع استراتيجة تقليدية ذات أوجه متعددة للتمدّد الاجتماعي، كان أبرزها الزواج من البوسنيات، تحت شعار "ستر المغتصبات" من ضحايا الحرب، وتأسيس عدة صحف ومدارس ومراكز ثقافية وفرق غنائية دينية شيعية، مع تقديم عدد كبير من المنح العلمية للدراسة في إيران، وإنشاء قناة تلفزيونية موجهة هي"البلقان الجديدة"، كما ساعدت إيران على تكوين مؤسسات دينية شيعية، والسماح بنشاط الحسينيات، ما أدى إلى انتشار التشيع بشكل كبير، حتى بلغ عدد الشيعة في البوسنة نحو 7% من جملة السكان.  

 

القراءة التحليلية للدور الإيراني في حرب البوسنة تعطي مؤشراً على معطيات الاستراتيجية الإيرانية

كما نجح المشروع الإيراني في كسب عدد من الساسة البوسنيين الذين أصبح ولاؤهم الرئيسي لطهران، ففي العام 2002، اتُّهم رئيس المخابرات البوسنية السابق، بكر علي سباهيتش، مع اثنين من كبار معاونيه، بتوقيع اتفاقات سرّية مع المخابرات الإيرانية، لتدريب وتجنيد أفراد على القيام بعمليات إرهابية واسعة النطاق.

ويمكن القول إنّ القراءة التحليلية للدور الإيراني في حرب البوسنة، تعطي مؤشراً على معطيات الاستراتيجية الإيرانية، ومآلات التدخل المباشر بحمولته الإيديولوجية/ الثقافية ذات البُعد الديني، بحيث نلاحظ أنّ الدور الإيراني، رغم اتباعه أدوات تقليدية، ينجح في نهاية الأمر، من خلال وكلائه المحليين، في تحقيق جملة من الأهداف المرسومة بعناية، وأنّ حزب الله اللبناني يلعب دوراً وظيفياً رُسم بعناية، كرأس حربة للتمهيد واختبار الأرض قبل الانخراط الإيراني المباشر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية