ماجدة ملاوي، موفق محمد
الثامنة صباحاً في مأرب، وقف محمد، الذي لا يتجاوز عمره التاسعة، في طابور مع زملائه لتسلُّم الكتب الدراسية في معهد أنشئ لإعادة تأهيل الأطفال ضحايا الحرب الذين أُجبروا على القتال في صفوف الحوثي، تلاحظ في خطواتهم المنتظمة ونظراتهم التائهة شيئاً ما، فهم يشبهون الجنود في تناسق حركاتهم، حركات لا إرادية اعتادوا عليها عندما اقتيدوا قبل زمن ليس ببعيد، مجندين في حرب لا يعلمون عنها شيئاً، ولا يفقهون ماهيتها، ولماذا أُدخلوا متاهاتها؟
قبل أشهر مضت، انتزع الحوثي محمد وغيره من الأطفال من أحضان أمهاتهم ليلقي بهم في جبهات الموت، كانت أحلامهم بسيطة، طائرة ورقية أو كرة يتراشقونها في أزقة الحي، لا تغريهم أصوات القذائف وصوت الرصاص، ومع دخول الحوثي مناطقهم، تحوّلت الطائرة الورقية في أناملهم الصغيرة إلى مدفع والكرة إلى قنبلة، لا يدركون من تصيب، فربما تلقيها رياح شؤم نحو بيت كانوا يقطنون فيه فتمزق أجساد أحبائهم.
هذا المشهد الدامي تحوّل إلى ظاهرة، إذ تؤكد تقارير أممية ومنظمات حقوق الإنسان أن إيران تتصدر قائمة الدول التي تستغل الأطفال في حروبها باليمن والعراق وسوريا ولبنان للزج بهم في حروبها الطائفية، ليعود ما بين عشرين ومئة طفل شهرياً من الجبهات جثثاً هامدة.
آلاف الأطفال في اليمن وسوريا والعراق تم اختطافهم من ذويهم في الدول التي دأبت إيران على التدخل في شؤونها الداخلية السياسية والأمنية والعسكرية، بعضهم تم إغواؤه وأهله بالمال، ولا نقصد هنا بالمال حفنات من الدولارات، وإنما قد يكون توفير وجبة يسدّون بها جوعهم في ظل الفقر المدقع والأمية والجهل التي خلّفتها الحرب، وآخرون تم الزج بهم مجندين قسرياً تحت التهديد والترهيب أو التأثير النفسي وغسل الأدمغة، في عشرات المعسكرات الإيرانية المنتشرة في العراق وسوريا واليمن.
جنود أطفال
أينما ولّيت وجهك تجد وسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ بصور الجنود الأطفال الذين جُنّدوا لجماعة الحوثي في اليمن أو لحزب الله في سوريا أو «الحشد الشعبي» في العراق، يرفعون شعارات طائفية، كما تنتشر آلاف من الصور للأطفال المجنّدين الذين يحملون السلاح والفيديوهات التي تصورهم وهم في الجبهات ومعسكرات التدريب ونقاط التفتيش، وكذلك وهم يشاركون في الدوريات الأمنية.
«البيان» تفتح هذا الملف كقضية تعتبرها المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن، جريمة حرب تمارسها إيران في عدد من الدول العربية، مستغلّة أوضاعها الداخلية لممارسة انتهاكاتها بحق الأطفال، وتسجّل الأرقام ارتفاع ضحايا إيران من الأطفال العرب يوماً بعد يوم، من خلال زرع الفكر الطائفي في عقول الصغار الذين انتهكت كرامتهم أمام مرأى العالم، فأصبحوا أكثر المتأثرين بهذه الحروب التي قتلت وأصابت الآلاف منهم، وشرّدت الملايين وحرمتهم من التعليم، لكن الجريمة التي تُعدّ انتهاكاً صارخاً لا يمكن السكوت عنها تتمثل في غسل أدمغة الأطفال بعد خطفهم أو التغرير بهم، لإجبارهم على أن يتحولوا إلى جنود يحملون السلاح، ويديرون جزءاً من مشاهد الحرب لمصلحة النظام الإيراني.
سيطرة على العقل
أجمع حقوقيون ومختصون على أن الهدف الظاهر للكثيرين أن تجنيد الأطفال من قِبل إيران وبعض الجهات الإرهابية هدفه توفير الجنود للمساندة في أعمال القتال، ولكنّ السبب الأقوى هو أن هؤلاء الصبية هم الأقل كلفة والأكثر طاعة لتحقيق أجندة مستقبلية تسيطر بها إيران على المستقبل العربي ممثّلاً بالشباب، كما يؤكدون أن إيران والميليشيات الموالية لها تعتمد استراتيجية أبعد بكثير، تسعى من خلالها إلى السيطرة على العقول قبل الأبدان والولاء الفكري والعقائدي الأعمى والمطلق لجيل لا يستهان به قد يشكّل نصف المجتمع في مناطق مختلفة من العالم العربي، لإدراكها أن هؤلاء الفتية هم مستقبل تلك الدول، وبالتالي تحقق سيطرتها الطائفية ومطامعها التوسعية، مرتكزةً في ذلك على فتيان هم أدواتها الفاعلة في اختراقها تلك الدول والأساس الذي تنطلق منه.
الدروس العقائدية والتحريضية والتدريبات العسكرية تمثل أبرز ما يتلقاه الأطفال ضمن خطة ممنهجة هدفها غسل أدمغتهم، ويؤكد الناشط الحقوقي اليمني نبيل الأسيدي أن المعطيات على الأرض تجعل جماعة الحوثي تتربع في صدارة قائمة الجهات التي جنّدت أطفالاً في اليمن، وساعدهم على ذلك تدني مستوى الوعي الاجتماعي لدى العديد من الأهالي في المناطق التي سيطروا عليها، وانتشار الفقر، وعدم وجود قاعدة بيانات حقيقية للشريحة العمرية في سن الطفولة، بحيث يسهل تزوير الوثائق الثبوتية، إلى جانب شدة الاستقطاب، عبر النفوذ والإغراء والتهديد.
وعلى الرغم من تأكيد الأسيدي أن ظاهرة حمل السلاح في اليمن قديمة، فإنه يقول إنها شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال العقد الأخير، خاصة مع خوض الحروب الست بين الجيش الوطني وجماعة الحوثيين (2004-2010)، وخوض حروب متفرقة مع تنظيم القاعدة، إذ برعت الجماعات المسلّحة المنطلقة من خلفيات دينية ومذهبية في استقطاب الصغار إلى صفوفها، من المساجد بدرجة أساسية، ومن المجتمعات المحلية الخاضعة لسيطرتها، فهم في جميع الأحوال أكثر طاعة وأقل كلفة.
نسبة مرتفعة
ويقول الأسيدي: «قبل أشهر عدة، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لموظفي وزارة الصحة الذين يحصنون الأطفال تحت سن 15 عاماً في اليمن، لكن الطفل موضوع الصورة كان يحمل على كتفه بندقية آلية (كلاشينكوف) وعليها ملصق بعناية يحمل شعار الصرخة الذي ترفعه جماعة أنصار الله (الحوثيون)، لم يضع الفتى بندقيته حتى وهو يتلقى جرعة اللقاح، بينما كان يؤدي دوره بتفتيش العربات المارة في نقطة تفتيش بالعاصمة صنعاء».
ويؤكد أنه على الرغم من انتشار ظاهرة تجنيد الأطفال بصورة غير مسبوقة في اليمن، خلال العامين الأخيرين، فإنه يتعذر الحصول على إحصائية حقيقية بأعداد الأطفال الذين تم الزج بهم في خطوط الموت.
وبحسب «اليونيسيف»، يشكّل الأطفال في صفوف الحوثيين وجماعات مسلّحة أخرى ما يصل إلى ثلث جميع المقاتلين في اليمن، وقد جنّدت الجماعات المسلّحة ما لا يقل عن 140 طفلاً في الفترة من 26 مارس إلى 24 أبريل 2015 وحدها، وهذا الرقم خلال شهر واحد يعطي مؤشراً خطراً إلى مدى تسارع انتشار الظاهرة. وقياساً عليه، فإن أعداد هؤلاء الأطفال يقع في خانات الآلاف، خاصة مع اشتداد عملية التجريف للمجتمعات المحلية لكل من يستطيع حمل السلاح، وهي مهارات اعتيادية في اليمن، نتيجة انتشار ظاهرة حمل السلاح حتى في الأوقات العادية.
ويضيف: «في بدايات الصراع (2013)، تحققت الأمم المتحدة من تجنيد 106 أطفال، جميعهم صبية تتراوح أعمارهم بين ست سنوات و17 سنة. ولهذا الغرض، تم حشد 57 منهم من المساجد وأماكن التسوق، وتلقوا، في بعض الحالات، التدريب العسكري، للقتال في حرب دماج».
أدوات ووقود
ويكشف الأسيدي أنه، بحسب منظمة «هيومن رايتس ووتش»، فإن جماعة الحوثيين في اليمن كثفت عملّيات تجنيد الأطفال وتدريبهم ونشرهم في انتهاك للقانون الدولي، وأنه منذ سبتمبر 2014، عند استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء، تزايد استخدامهم الأطفال كشافةً وحراساً وسعاة ومقاتلين، مع تعريض بعض الأطفال للإصابة والقتل. وأكد المستشار الخاص في «هيومن رايتس ووتش» فريد آبراهامز، أنه «مع اشتداد القتال في اليمن، صعّد الحوثيون من عمليات تجنيد الأطفال».
ويوضح أنه، وفقاً لبيان المنظمة، فإن الحوثيين يبدؤون منح الأطفال تدريباً مذهبياً لما لا يقل عن شهر، ثم يعقبه تدريب عسكري في واحدة من قواعدهم في البلاد. وقال أطفال إنهم لم يتلقوا أجراً، لكنهم كانوا يحصلون على الطعام و(القات) نبته خضراء يمضغها اليمنيين وصنفت في عديد من الدول من المخدرات. ولدى الحوثيين سجل طويل فيما يتعلق باستخدام الجنود الأطفال، يمتد إلى ما قبل 2009. وفي نوفمبر 2012، تعهد زعيمهم عبد الملك بدر الدين الحوثي، حسب المنظمة الحقوقية، بالعمل على وقف استخدام الجماعة للأطفال، لكن معطيات الواقع تؤكد تصعيد التجنيد وليس وقفه.
وينقل حقوقي يمني معطيات للأمم المتحدة تفيد بتجنيد ما يبلغ مجموعه 156 صبياً في 2014، تتراوح أعمارهم بين 9 و17 عاماً، واستغلالهم في النزاع المسلّح، وقد جنّد الحوثيون 140 منهم ليعملوا في نقاط تفتيش، وفي حراسة المباني. وبسبب صعوبة التحقق، لم تتمكن الأمم المتحدة من التأكد إلا من قسم يسير من الحالات الفعلية.
ويوضّح أنه نتيجة ضغوط أممية مسنودة بضغوط منظمات دولية، وقّعت الحكومة اليمنية في مايو 2014 على خطة عمل مع الأمم المتحدة لإنهاء تجنيد الأطفال من جانب القوات الحكومية، بهدف تحقيق سحب جميع الأطفال من قوات الحكومة الأمنية وإعادة دمجهم في المجتمعات المحلية، وإنهاء أي تجنيد مستقبلي، كما دعت الخطة إلى توفيق القانون اليمني مع المعايير الدولية التي تحظر تجنيد الأطفال في الصراعات.
ويشير إلى أنه في يوليو 2015، مع دحر ميليشيات الحوثيين من المحافظات الجنوبية، نشر صحافيون من محافظة عدن صوراً لأعداد كبيرة من الأطفال وقعوا في أسر المقاومة الشعبية والقوات الموالية للحكومية الشرعية التي يرأسها عبد ربه منصور هادي، كانوا يقاتلون في صفوف الحوثيين، ومنتصف العام الجاري نشرت وسائل الإعلام السعودية صوراً أخرى لعدد من الأطفال حررتهم قوات التحالف العربي التي تقودها المملكة العربية السعودية في جبهات القتال مع الحوثيين، كما أن الصور التي ينشرها الحوثيون لقتلاهم كتخليد لهم باعتبارهم «شهداء» توضح بشكل قطعي أن هؤلاء أطفال لم تتجاوز أعمار بعضهم الـ13 عاماً.
التشريعات اليمنية
وعن التشريعات اليمنية المتعلقة بحقوق الأطفال، أوضح الناشط الحقوقي اليمني نبيل الأسيدي أنه في عام 2002 صدر قانون حقوق الطفل رقم (45)، ونصّت المادة (3) منه على «توفير الحماية القانونية اللازمة التي تضمن عدم المس بحقوق الطفل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين النافذة»، بينما نصت المادة (4) على «حماية الأطفال من جميع أنواع الاستغلال واعتبارها أفعالاً يجرمها القانون وبيان العقوبات الخاصة بمرتكبيها».
ونص القانون في المادة (149) على أن تعمل الدولة على احترام قواعد القانون الدولي المنطبق عليها في المنازعات المسلحة ذات الصلة بالطفل وحمايته، من خلال حظر حمل السلاح على الأطفال، وحماية الأطفال من أثار النزاع المسلح، وعدم إشراك الأطفال إشراكاً مباشراً في الحرب، والأهم من ذلك عدم تجنيد أي شخص لم يتجاوز سنه الثامنة عشرة.
ويشير وزير حقوق الإنسان اليمني محمد أبو عسكر إلى أن الميليشيا الحوثية الانقلابية جنّدت أكثر من 15 ألف طفل منذ انقلابها على الشرعية في عام 2014، واستخدمتهم وقوداً لحربها العبثية، وارتكبت في حق أطفال اليمن انتهاكات جسيمة أخرى كالتشويه والعنف الجنسي والحرمان من المساعدات، مشيراً إلى أن الميليشيا قتلت أكثر من 1372 طفلاً وإصابة 3882 آخرين.
ويؤكد أنه بموجب القانون اليمني، فإن الحد الأدنى لسن الخدمة العسكرية هو 18 سنة، وأنه في 2014، وقّع اليمن خطة عمل للأمم المتحدة لإنهاء تجنيد الأطفال، ولكن بسبب النزاع ومن دون وجود حكومة فعّالة، لم يتم تنفيذ خطة العمل.
ويتابع الوزير: «حرمت ميليشيا الحوثي الموالية لإيران أكثر من 4.5 ملايين طفل من التعليم، منهم مليون و600 ألف طفل، حرموا من الالتحاق بالمدارس خلال العامين الماضيين»، كما اتهمت هذه الميليشيا بقصف وتدمير ألفين و372 مدرسة جزئياً وكلياً، واستخدام أكثر من 1500 مدرسة أخرى كسجون وثكنات عسكرية.
عن "البيان" الإماراتية