تعد تجربة الإخوان المسلمين والإسلاميين في السودان واحدة من أكثر التجارب تأثيرًا في العالم العربي. بدأت هذه التجربة في عام 1989 عندما تولى *عمر البشير* السلطة عبر انقلاب عسكري بدعم من *حسن الترابي* وجماعة الإخوان المسلمين. استمرت هذه الحقبة حتى سقوط نظام البشير في عام 2019 بعد احتجاجات شعبية واسعة. تميزت هذه الفترة بتزاوج الدين بالسلطة، حيث استُخدمت الشريعة الإسلامية كأداة للحكم والسيطرة، لكن خلف هذه الواجهة الدينية كانت هناك أزمات سياسية واقتصادية وقمع للحريات.
بدأت علاقة البشير بالترابي كتحالف قوي يهدف إلى إقامة دولة إسلامية في السودان. كان الترابي يُعتبر العقل المدبر للانقلاب الذي أوصل البشير إلى السلطة، واستطاع أن يعزز من نفوذ الإخوان المسلمين في الدولة السودانية. هذا التحالف كان يقوم على تقسيم السلطة بين الطرفين، حيث يمسك البشير بالجيش والقوة العسكرية، بينما يسيطر الترابي والإخوان على مؤسسات الدولة الأخرى، بما في ذلك الإعلام والقضاء.
لكن هذه العلاقة لم تدم طويلًا، حيث شهدت نهاية التسعينيات تصاعدًا في التوتر بين البشير والترابي. في عام 1999، وبعد أن شعر البشير بأن الترابي يسعى لتقليص نفوذه، قام بإبعاده من السلطة فيما عُرف بـ"المفاصلة". هذا الانقسام بين الحليفين الرئيسيين أدى إلى شقاق داخل الحركة الإسلامية نفسها، حيث انقسمت بين جناح يدين بالولاء للبشير وآخر يتبع الترابي.
بعد الانقلاب، بدأت عملية واسعة للسيطرة على مؤسسات الدولة تحت مسمى "التمكين". كان هدف هذه العملية هو تطهير الجهاز الإداري والمؤسسات الحكومية من أي شخصيات أو تيارات غير موالية للحركة الإسلامية، واستبدالهم بعناصر موالية للإخوان المسلمين. هذا التمكين شمل الجيش، حيث تم تعيين ضباط موالين للحركة، وكذلك القضاء والإعلام والاقتصاد.
كانت هذه السيطرة تُبرر بأنها جزء من "الأسلمة"، لكن في الواقع كانت تهدف إلى إحكام قبضة النظام على كل مفاصل الدولة لضمان بقائه في السلطة. تم استخدام الدين كأداة لتبرير هذه السياسة، حيث كان يتم تصوير الإخوان على أنهم حماة الإسلام في مواجهة "الفساد" و"العلمانية".
على الرغم من هذا التمكين، فشل النظام في تحقيق أي إنجازات ملموسة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. منذ بداية حكم البشير، كان السودان يعاني من أزمات اقتصادية خانقة. الفساد الحكومي، وتضخم الجهاز الإداري، وسوء إدارة الموارد كانت عوامل رئيسية في تدهور الأوضاع الاقتصادية.
بدلاً من معالجة هذه الأزمات، لجأ النظام إلى استخدام الدين كغطاء لتبرير الفشل. تم تصوير الأزمات الاقتصادية على أنها نتيجة "مؤامرات خارجية" تهدف إلى ضرب المشروع الإسلامي في السودان. هذا الخطاب الديني كان وسيلة للهروب من المسؤولية والتهرب من الاعتراف بالفساد وسوء الإدارة.
منذ البداية، كان للجيش دور مركزي في دعم وحماية النظام. حرص الإخوان على التسلل إلى المؤسسة العسكرية عبر تعيين ضباط موالين لهم، وضمان ولاء الجيش للنظام من خلال دمج العقيدة الإسلامية في التدريبات والهيكل العسكري. كما تم تأسيس قوات شبه عسكرية مثل *قوات الدفاع الشعبي*، التي كانت تعمل كذراع أمني موازٍ للجيش، تهدف إلى قمع أي تمرد أو معارضة داخلية.
هذا الهيكل الأمني كان يهدف إلى تعزيز بقاء النظام، وضمان عدم قيام أي محاولات انقلابية ضده. كانت السيطرة على الجيش شرطًا أساسيًا لضمان استمرار المشروع الإسلامي، وهو ما نجح فيه النظام لسنوات طويلة.
في ظل سيطرة الإخوان على الدولة، شهد السودان تراجعًا كبيرًا في مستوى الحريات العامة. استخدم النظام الشريعة الإسلامية كوسيلة لتبرير القيود على حرية التعبير وحرية التجمع. تم فرض قوانين النظام العام التي حدّت من الحريات الشخصية، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة وحرية اللباس والتنقل.
تم قمع الصحافة بشدة، حيث تم إغلاق العديد من الصحف المستقلة، وتم تكميم أفواه المعارضين السياسيين. الصحفيون والنشطاء الذين حاولوا كشف الفساد أو انتقاد النظام تعرضوا للاعتقال والتعذيب. كان النظام يعتمد على استخدام الدين كأداة لتبرير قمعه، حيث كان يصور المعارضة على أنها تهديد للإسلام.
تزاوج الدين بالسلطة في السودان تحت حكم البشير والإخوان أدى إلى فشل البلاد على كل الأصعدة. من الناحية السياسية، تحولت البلاد إلى دولة معزولة دوليًا، حيث فُرضت عليها عقوبات اقتصادية ودبلوماسية بسبب سياسات النظام ودعمه للجماعات المتطرفة. أما من الناحية الاقتصادية، فكان الفساد وسوء الإدارة هما العنوان الرئيسي. تم إهدار الموارد الوطنية على مشاريع فاشلة وعمليات فساد ممنهجة، بينما استمر تدهور مستوى المعيشة للمواطن السوداني العادي.
الأخطر من ذلك كان استغلال الدين لتبرير الفشل. حيث تم تصوير كل الأزمات على أنها مؤامرات ضد الإسلام، وتم استخدام هذا الخطاب لتخدير الجماهير وإبعادهم عن المطالبة بالإصلاح أو المحاسبة. في النهاية، كان سقوط النظام في عام 2019 نتيجة مباشرة لهذا الفشل الشامل، حيث لم يعد الشعب قادرًا على تحمل سياسات النظام القمعية والفاسدة.
تجربة حكم الإخوان المسلمين والإسلاميين في السودان بين عامي 1989 و2019 تعد واحدة من أكثر التجارب التي تكشف عن مخاطر تزاوج الدين بالسياسة. ورغم استخدام النظام للخطاب الديني كأداة لتبرير سياساته القمعية، إلا أن هذا الخطاب لم يستطع إخفاء الفشل السياسي والاقتصادي الذي عاشه السودان خلال تلك الفترة.
تزاوج الدين والسلطة لم يقد السودان إلى الاستقرار أو التقدم، بل أدى إلى تراجع الحريات، انتشار الفساد، وعزلة البلاد عن المجتمع الدولي. تجربة السودان تحت حكم الإخوان المسلمين تظل درسًا مهمًا حول خطورة استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية ضيقة على حساب مصالح الشعب والدولة.