تبادل المخاطر: تأثير الصراع في ليبيا على البيئة الأمنية في الساحل الأفريقي

تبادل المخاطر: تأثير الصراع في ليبيا على البيئة الأمنية في الساحل الأفريقي


03/01/2022

زينب رويحة

شكّل الصراع في ليبيا متغيرًا مركزيّا في تحديد ملامح الطبيعة الأمنية الحالية لمنطقة الساحل الأفريقي؛ يرجع هذا إلى الترابط التاريخي الطويل بين ليبيا ودول الساحل والذي يعود إلى تشابك المكونات الديمغرافية والطبيعة القبائلية والظروف الجيوسياسية والتعقيدات الأمنية. قبل انهيار الدولة في ليبيا منذ 2011، حاولت طرابلس في عهد القذافي  طويلاً لعب دور رئيس في الساحل؛ وذلك من خلال “تجمع الساحل والصحراء،” بهدف تحقيق التكامل المؤسسي والترابط الاقتصادي، فضلاً عن التدخل السياسي أحيانًا والعسكري في أحيان أخرى، كما حدث في حرب تشاد وليبيا عام 1987.

لقد أوضح الصراع في ليبيا الذي انفجر مع انهيار نظام القذافي في مدى مركزية ليبيا لأمن المناطق الشاسعة بين شمال أفريقيا والساحل الأفريقي، بل وجنوب أوروبا عبر المتوسط. إلا أن معظم التركيز قد انصب على تأثير الصراع في ليبيا على ملف اللاجئين باعتباره الأكثر أهمية بالنسبة لأوروبا. إلا أن المشهد جنوبًا على امتداد الساحل الأفريقي يعتبر أكثر تركيبًا؛ حيث تتشابك معضلات أمنية خلقها تنامي نشاط الحركات الإرهابية، وتهديد الأنظمة السياسية، وانتشار الأسلحة في أيدي الفاعلين غير النظاميين، وتدخل العديد من القوى الأجنبية، وزعزعة صورة الدولة الديمقراطية، وتهميش دور النخب المدنية. وهذه الأزمات إن كانت عميقة الجذور، فإن الصراع في ليبيا بتشعباته قد زاد من حدتها. كما أن اضطراب المنطقة بدوره ألقى بظلاله على فرص إنهاء النزاع في ليبيا.

تقويض فرص الحل الديمقراطي

في ظل بيئة هشة سياسيًّا وأمنيًّا، أعطى الصراع في ليبيا دفعة قوية لنشر العنف وعدم الاستقرار على طول الساحل، مما أدى إلى تقويض مكاسب التحول الديمقراطي الذي أخذ في التحقق منذ تسعينيات القرن الماضي، كما حدث في كلا من مالي وتشاد. 

مالي

جاء نشوب الصراع في ليبيا في توقيت مثالي أمام عرقية الطوارق في إقليم “أزواد” لتحقيق مطالبهم الانفصالية. مثلت العديد من عناصر الطوارق ذراعًا بشرية لنظام القذافي في تداخلاته العسكرية في تشاد والسودان وأنجولا، وغيرها. على مرّ العقود، تحولوا من متمردين إلى ميليشيات متمرسة مزودة بالأسلحة والمعدات، ومع سقوط القذافي، عاد الكثير من هؤلاء إلى مالي، وانتظموا داخل الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، ونجحوا في استقطاب الجنود المتمردين وتشكيل خلايا مقاتلة، ومن ثم قادوا تمردًا واسع النطاق في يناير 2012، واستطاعوا السيطرة على تمبكتو  وغاو وكيدال.

وفي خضم تمرد الطوارق، تعرض الجيش المالي لهزائم متتالية في ظل تعنت الحكومة تجاه مطالب القوات المسلحة مما دفع الجيش إلى شن انقلاب عسكري في 21 مارس 2012، انتهى بالإطاحة بالرئيس الأسبق “أمادو توماني توري.” ودخلت البلاد في حالة فوضى أمنية وفراغ سياسي، استغله الطوارق في مواصلة الزحف صوب الجنوب وشغل المواقع التي جلت عنها القوات الحكومية لأجل إعلان استقلال ولاية أزواد، وهو ما أسفر عن أزمة إنسانية عميقة مع نزوح أكثر من 250 ألف مواطن قسريًّا. ومنذ ذلك الحين، غاب الاستقرار السياسي عن البلاد، حيث تعرضت لانقلابين: أحدهما في 2020، وآخر في 2021.

تشاد

بحكم الحدود الجنوبية الممتدة مع ليبيا، لم تكن تشاد بمعزل عن تردي الأوضاع الأمنية في جارتها الشمالية. وقد مثلت ليبيا المنفلتة أمنيًّا فرصة ثمينة لتوطين العناصر المتمردة سياسيًّا وأمنيًّا وقانونيًّا، بل شاركت هذه العناصر في المواجهات الدائرة داخل ليبيا. واستطاعت مجموعة من الضباط المنشقين تكوين جماعة جبهة التغيير والوفاق FACT التي أعلنت عن نفسها في عام 2016، بقيادة مهدي علي محمد، وبقوة 1500 مقاتل. وتمكن هؤلاء من تشكيل قاعدة في جبال “تيبستي” قادوا منها عدة مواجهات عسكرية ضد الحكومة والجيش التشاديين، وعقب عدة محاولات، أسفر هجوم ناجح عن مقتل الرئيس التشادي “إدريس ديبي” في 21 أبريل من العام الحالي بعد مرور يوم من إعلان فوزه بالولاية السادسة لحكم البلاد، ونجم عنه دخول تشاد في حالة من التيه السياسي والمواجهات المسلحة.

تغذية التنظيمات المتطرفة

ساهم فراغ السلطة في ليبيا بعد سقوط القذافي وسيولة انتقال الأسلحة في تحول ليبيا إلى مركز رئيسي ونقطة اتصال لمختلف الجماعات الإرهابية، لاسيما في الزنتان وسرت والجفرة والجنوب الليبي، حيث ظهر فرع لتنظيم الدولة “داعش” ليبيا منذ عام 2014، ونمت طموحاته إلى إعداد سرت لتصبح عاصمة التنظيم الرئيسية، ثم امتد نحو الساحل بتأسيس داعش الساحل والصحراء بقيادة “عدنان أبو الوليد الصحراوي”، كما بايعت “بوكو حرام” التنظيم، ونشطت عملياتها حول حوض بحيرة تشاد في نيجيريا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو

على مدار تطور الصراع في ليبيا، زاد التنافس بين تنظيمي القاعدة وداعش، حيث نقل تنظيم القاعدة مركز ثقله من أفغانستان إلى الساحل من خلال نشر فروعه مثل جماعة “أنصار الدين” التي يتزعمها “إبراهيم إياد غالي،” وتعاونت مع الطوارق للسيطرة على شمال مالي، وجماعة “المرابطون” بقيادة مختار بلمختار بشمال مالي وجنوب ليبيا. وفي مطلع مارس2017، تحت لواء القاعدة، تشكلت “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” وتضم أنصار الدين، والمرابطون، وإمارة منطقة الصحراء، وكتائب ماسينا.

مع زيادة عدد الهجمات الإرهابية، ارتفعت موجات النزوح على امتداد منطقة الساحل. وطبقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تضاعف عدد النازحين أربع مرات في العامين الماضيين؛ حيث بلغ عددهم في 2021 مليوني شخص، مع نزوح مليوني شخص داخليًّا. كما يقدر عدد القتلى بفعل الإرهاب في نهاية 2020 بحوالي 350 ألف حالة وفاة. 

تمدد شبكات التهريب والجريمة المنظمة

مع غياب السلطة المركزية، تنامت أهمية ليبيا والساحل كنقطة التقاء لشبكات المهربين وجماعات الجريمة المنظمة؛ حيث توطدت العلاقة بين المهربين والإرهابيين في سبيل تأمين الطريق مقابل الحصول على الإتاوات، وساهم التراجع الأمني في فتح المجال أمام لاعبين جدد، وأسواق جديدة، وتطوير آليات التهريب. واستطاع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تأسيس إمبراطورية تهريب متعددة الأنشطة، من بينها:

الاختطاف الجماعي والإتجار بالبشر: بلغت عوائدها السنوية ما يزيد عن مليار دولار، وتكثفت موجات الخطف في نيجيريا مستهدفة لطلاب المدارس بإجمالي 5 حوادث في الأشهر الأولى من 2021. ويقدر عدد الأشخاص الذين تم اختطافهم العام الماضي بنحو 1100، وخلال الفترة بين عامي 2011 حتى 2020، تم دفع أكثر من 18 مليون دولار كفدية للمختطفين وفقًا لبرنامج الأمن النيجيري.

تهريب المخدرات: تدر تجارة المواد المخدرة متوسط أرباح سنويية تقدر بحوالي مليار و328 مليون دولار أميركي، يذهب منها 14% إلى تنظيم القاعدة كإتاوة. ووفقًا لتقرير المخدرات العالمي، في 2 مارس 2021، صادرت شرطة النيجر 17 طنًا من القنب، وزادت مضبوطات الأفيون في مالي خمسة أضعاف بين عامي 2014 و 2018، كما ضبط 789 كيلوجرام من الكوكايين في مارس 2019 نظرا لموقع مالي المركزي في طرق عبور القنب والكوكايين.

سرقة الماشية: أصبحت سرقة الماشية نشاط رئيس عبر حوض بحيرة تشاد، وفي يناير 2016 ، قدر أعداد الماشية المسروقة من ولاية بورنو بنيجيريا بعدد 200 ألف رأس، وطبقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، مثلت “غاو” في مالي المنطقة الأكثر تضررًا؛ إذ تعرضت 87 ألف رأس من الماشية للسرقة في نوفمبر 2019.

توسع انتشار القوات الأجنبية

ساهمت الحرب الليبية في تحويل المنطقة إلى ساحة تمكنت فيها الدول الأجنبية من تعزيز حضورها العسكري، ومن ثم تحولت إلى ميدان للتنافس ومجال لإبراز النفوذ. فمنذ  بداية الحرب، أصدر مجلس الأمن قرار رقم 1973 والذي شرع التدخل العسكري للقوات الدولية في ليبيا، إلا أنه لم يتمكن من إرساء حالة الاستقرار بعد سقوط نظام القذافي. كما أن القوى الدولية والإقليمية وجدت فيه ذريعة للتدخل العسكري في ليبيا وعلى إثر ذلك، تدخلت القوات الروسية والفرنسية والقوات الإيطالية والتركية على مدار فترة الصراع. ولاحقًا اتسع نطاق هذا التدخل ليشمل دول الساحل. ومن أهم القوات الأجنبية التي أصبحت موجودة في المنطقة:

القوات الأمريكية: زاد عدد الجنود الأمريكيين في أفريقيا إلى حوالي 7 آلاف جندي مع بداية التوترات في الساحل، كما شاركت إلى جوار مجموعة دول الساحل الخمس، وأنشأت قاعدة عسكرية في النيجر مع انتشار حوالي 800 جندي أمريكي في النيجر.

القوات الفرنسية: قادت فرنسا 5 تدخلات عسكرية في أفريقيا خلال الفترة بين عامي 2011 حتى 2020، اهمها عملية “سرفال” في مالي في يناير 2013، وكذلك عملية “براخان” منذ 2014، ومثل الدور الفرنسي أبرز الأدوار العسكرية في الساحل، حيث يبلغ قوام القوات الفرنسية بالمنطقة نحو 5200، كما أطلقت فرنسا مهمة “تاكوبا”، بمشاركة قوات أوروبية من فرنسا والدنمارك والبرتغال وبلجيكا واستونيا وهولندا، والسويد وألمانيا وبريطانيا والنرويج والتشيك.

القوات الإيطالية: ويعود التدخل العسكري الإيطالي في الساحل الأفريقي إلى عام 2013، بمزاعم الحد من موجات الهجرة، وشاركت إيطاليا في بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي “مينوسما”، كما شاركت في قوة “تاكوبا” بحوالي200 جندي.

فضلاً عن هذا، من الملاحظ زيادة حجم قوات حفظ السلام الأممية؛ حيث قامت  الأمم المتحدة بنشر 5 آلاف جندي في مواجهة الأزمة في منطقة الساحل، وفي مالي، نشرت بعثة “مينوسما” في يوليو 2013 قوات وصل عددها ما يزيد عن 16 ألف عسكري، وفي 2021، أشار الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، إلى احتمالية تدخل قوات الناتو لمكافحة الإرهاب في دول الساحل.

كشف القصور المؤسسي

تسبب الصراع في ليبيا في كشف هشاشة المؤسسات الإقليمية والدولية على رأسها الأمم المتحدة والإيكواس والاتحاد الأفريقي و(G5) في إرساء التزام جماعي يتعلق بالقضاء على الإرهابيين. كذلك لم تستطع علاج نقاط الضعف في الجيوش الأفريقية، وجلى ذلك واضحًا في تداعيات مقتل الرئيس ديبي؛ حيث مثل ضربة قوية للجهود الدولية المكافحة ضد الإرهاب؛ نظرًا لأن تشاد كانت ركيزة أساسية لمواجهة التشدد في غرب أفريقيا، كما تواجه دول الساحل خطرًا وشيكًا مع اقتراب موعد انسحاب القوات الفرنسية.

كذلك، ألقى الصراع في ليبيا الضوء على عواقب تدخل الناتو في ليبيا دون القدرة على السيطرة على تهريب الأسلحة من ليبيا إلى الساحل. ورصدت الإحصائيات وقوع خسائر في صفوف المدنيين بحوالي أكثر من 600 عملية قتل غير مشروع منذ 2019 ارتكبتها قوات الأمن في مالي والنيجر وبوركينا فاسو خلال عمليات مكافحة الإرهاب وفقا لهيومان رايتس ووتش.  

تأثير الساحل على ليبيا

لا يعني العرض السابق أن علاقة التأثير بين ليبيا والساحل الأفريقي كانت في اتجاه واحد، بل حدث أن أصبح الساحل الأفريقي مصدرًا للاضطرابات ومهددًا لحالة الاستقرار النسبي الذي أصبح عليه الصراع في ليبيا. فمنذ الإطاحة بنظام القذافي في عام 2011، ظلت البلاد في صراع بين الفصائل السياسية المختلفة، ومن هنا، استغلت القوى الأجنبية الفرصة لتعظيم نصيبها من المصالح الجيوسياسية خاصة في ظل اكتشافات الطاقة على الساحل، حتى انعقد مؤتمري برلين 1 و2، وتمخضا عن وقف إطلاق النار، والتأكيد على إخراج العناصر المرتزقة تمهيدا لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الذي كان مقررًا في 24 ديسمبر من العام الحالي، ولكن حالت التوترات والانقسام السياسي أمام عقدها.

ويمكن إرجاع بعض ملامح المشهد الليبي الحالي إلى الأوضاع الراهنة في الساحل من خلال التأثيرات المباشرة وغير المباشرة، وأهمها تغذية التجارة غير المشروعة، التي أصبحت مصدر دخل ونفوذ للمليشيات خاصة في غرب ليبيا. وعلى الرغم من الجهود الدولية لمحاصرة تهريب البشر، فما زالت التجارة قائمة؛ حيث ضبط  خفر السواحل الليبي نحو 7500 مهاجر في البحر في 2021.. كما أصبحت ليبيا موطئ قدم للعناصر المتمردة والمعارضة وأعضاء الجماعات الإرهابية، وبالتالي تمثل نقطة انطلاق لشن هجمات إرهابية ضد دول الجوار، فضلاً عن شعور هذه العناصر بمخاطر فرض الاستقرار على وجودها.

ختامًا: تكشف علاقات التأثير الأمني بين الصراع في ليبيا والصراعات الدائرة في الساحل عن حقيقة تداخل بنية الأمن بين مناطق مختلفة؛ فقد مثلت فترة الصراع الليبي فرصة مواتية لإعادة الاضطراب وعدم الاستقرار في الساحل، كما ساعدت على توغل الفاعلين من غير الدول من حيث التنظيمات الإرهابية وشبكات التهريب وميليشيات المرتزقة، ولم تفلح الجهود الدولية على مدار هذه الفترة في اجتثاث الإرهاب من جذوره، بل ارتبط وجودها بتنامي النشاط الإرهابي. ومن ثم، يتضح صعوبة التفكير في فرض استقرار في منطقة دون أخرى، وهو ما يكشف أن تحقيق الاستقرار في منقطقة يستدعي تكاتف مختلف الفاعلين المعنين.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية