بين القَضْم والاسترضاء... هذه استراتيجية هيئة تحرير الشام التوسعية خارج إدلب

بين القَضْم والاسترضاء... هذه استراتيجية هيئة تحرير الشام التوسعية خارج إدلب

بين القَضْم والاسترضاء... هذه استراتيجية هيئة تحرير الشام التوسعية خارج إدلب


13/11/2023

الاشتباكات بين فصائل المعارضة السورية التابعة للجيش الوطني السوري والفصائل التابعة لـ (هيئة تحرير الشام) شمال مدينة حلب، التي شهدها شهر أيلول (سبتمبر) 2023، أدت إلى تدخل عسكري مباشر من جانب الهيئة. 

وتُعَدُّ هذه المحاولة الرابعة في غضون (16) شهراً من جانب المجموعة للتوسع عسكرياً في شمال حلب (عفرين ومناطق درع الفرات)؛ وهي منطقة خاضعة لسيطرة القوات التركية ووكلائها المحليين وحكومة المعارضة السورية المؤقتة المدعومة من أنقرة.

وتشير التدخلات المتكررة من جانب (هيئة تحرير الشام) إلى أنّ هذه المحاولة لن تكون الأخيرة على الأرجح، الأمر الذي يُثير تساؤلات حول الأهداف بعيدة الأمد للمجموعة في هذه المنطقة، وموقف تركيا بخصوص جهود (هيئة تحرير الشام) للتوسع.

محاولات (هيئة تحرير الشام) الأخيرة والسابقة للتوسع في شمال حلب، والأنماط السائدة، المرتبطة بهذه المحاولات والمساعي، التي تُسلِّط الضوء على أهداف الهيئة على الأمد المتوسط في المنطقة، تناولتها ورقة بحثية لوحدة دراسات المشرق العربي (بمركز الإمارات للسياسات)، تحت عنوان القَضْم والاسترضاء: استراتيجية (هيئة تحرير الشام) التوسُّعية خارج إدلب.

وتُحلل الورقة إجراءات تركيا مع الأخذ بعين الاعتبار أهداف أنقرة والقيود الدولية. وتستشرف الورقة مسار التطور المحتمل لدور (هيئة تحرير الشام) في شمال حلب.

(هيئة تحرير الشام) خارج إدلب: أنماط التوسُّع

تمثلت الشرارة التي دعت (هيئة تحرير الشام) إلى التدخل نهاية أيلول (سبتمبر) 2023 في خلاف حول معبر الحمران الحدودي الاستراتيجي، والذي يُشَكِّل بوابة اقتصادية حيوية تقع بين درع الفرات والمناطق الخاضعة لـ (قوات سورية الديمقراطية) "قسد". 

تُعَدُّ هذه المحاولة الرابعة في غضون (16) شهراً

وقد بدأ الصراع الأخير نتيجة الانقسام داخل فصيل (أحرار عولان)، حيث أعلن بعض قادة ومقاتلي الفصيل انتماءهم إلى "الفيلق الثاني" التابع لـ (الجيش الوطني السوري)، في حين ظل آخرون ضمن الهيكل الأصلي التابع لـ (هيئة تحرير الشام). 

ويتألف الفيلق الذي تقوده (فرقة سلطان مراد) من مقاتلين تركمان من ريف شمال حلب. ويُعتقد أنّ العلاقات الوثيقة بين (أحرار عولان) و(هيئة تحرير الشام) تُعَدُّ السبب الرئيس لهذا الانشقاق، خاصة على ضوء تاريخ الصراع بين (أحرار الشام) و(هيئة تحرير الشام) في إدلب.

وتقاتلت المجموعة المنشقة على المعبر، حيث وفر (تجمع الشهباء) دعماً كاملاً لـ (أحرار عولان) الذي تحالف مع (هيئة تحرير الشام)، وعبَّرت عن معارضتها للسياسات الاستفزازية في الجيش الوطني السوري ووزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة.

اعتمدت هيئة تحرير الشام خطاباً ومساعي لاسترضاء السكان المحليين واستغلال الانقسامات والتأكيد على الاستقرار في إدلب

ورحب الجيش الوطني السوري بدوره بالمنشقين للانضمام إلى صفوفه، حيث شارك العديد من الفصائل التابعة للجيش الوطني السوري في المواجهات ضد (أحرار عولان). 

وأغلقت تركيا المعابر الرئيسة الـ (3) مع سوريا خلال الصراع، وبعثت مسؤولين لتسهيل المفاوضات بين الجانبين دون أيّ نجاح. في غضون ذلك وصل الدعم الذي وفرته (هيئة تحرير الشام) إلى (أحرار عولان) إلى حدّ إرسال تعزيزات من معقلها في إدلب، غير أنّ القوات التركية انتشرت في عزاز لمنع تقدم هذه التعزيزات.

وتُعَدُّ هذه رابع محاولة من جانب (هيئة تحرير الشام) للتغلغل في شمال حلب عسكرياً، وثاني محاولة مباشرة تتعلق بمعبر الحمران الحدودي.

جاءت محاولة التوسع الأولى في حزيران (يونيو) 2022 بعد انشقاق (أحرار عولان) عن "الجبهة الشامية"، ممّا أدى إلى صدامات بين الطرفين. وفور اندلاع هذه الصدامات أرسلت (هيئة تحرير الشام) تعزيزات ضخمة إلى عفرين لدعم (أحرار عولان). 

وجرت المحاولة الثانية في أعقاب صراع داخلي واسع النطاق بين عدة فصائل تابعة للجيش الوطني السوري في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. 

وانطلقت شرارة الصراع بعد اغتيال الناشط الإعلامي البارز محمد أبو غنوم في مدينة الباب، ممّا أدى إلى خروج احتجاجات واسعة تطالب بالعدالة والمحاسبة. وشهدت الأيام التالية تداول مقطع مصور على وسائل التواصل الاجتماعي يتضمن جزءاً من التحقيق مع المتهمين باغتيال أبو غنوم، حيث اعترف هؤلاء المتهمون بتلقي أوامر من قيادة (فرقة حمزة) التابعة للجيش الوطني السوري لتنفيذ الاغتيال. 

وأدت هذه الأنباء إلى قيام (الجيش الوطني السوري) بشن حملة واسعة النطاق في عفرين بقيادة (الجبهة الشامية) ضد (فرقة حمزة) التي تلقت دعماً من فصائل حليفة، خاصة من سيّئ السمعة أبو عمشة قائد (فرقة سليمان شاه). وسيطرت (الجبهة الشامية) على العديد من المواقع التابعة لـ (فرقة حمزة) في ريف عزاز والباب، واعتقلت العديد من أعضاء الفرقة.

تُعَدُّ هذه رابع محاولة من جانب (هيئة تحرير الشام) للتغلغل في شمال حلب عسكرياً

واغتنمت (هيئة تحرير الشام) الفرصة، وتدخلت باستخدام قوة مسلحة ضخمة لدعم (فرقة حمزة)، ممّا أدى إلى تغيير موازين القوة، وتمكنت (هيئة تحرير الشام) بسرعة من السيطرة على مدينة عفرين بعد هذا التدخل. 

وزعمت (هيئة تحرير الشام) بادئ الأمر أنّ هدفها يَتَمَثَّل في وقف الاقتتال الداخلي بين الفصائل، لكنْ بعد إحراز تقدم جوهري في غضون أيام في مواجهة مقاومة ضعيفة على ما يبدو من الخصوم، بدأت بشن هجوم على مدينة عزاز مقر الحكومة السورية المؤقتة والقيادة السياسية والعسكرية، خاصة (الجبهة الشامية). 

لكنّ القوات التركية تدخلت عند ذلك الحد، وفرضت اتفاقاً ينص على انسحاب (هيئة تحرير الشام) الفوري والكامل من كل المناطق في ريف حلب الشمالي.

وعلى الرغم من انسحاب (هيئة تحرير الشام)، لم تُسلَّم مناطق محددة مثل معبر الحمران الحدودي إلى وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة حسب الاتفاق، لذلك طالبت (فرقة سلطان مراد) في كانون الثاني (يناير) 2023 (لواء أحرار عولان) بتسليم معبر الحمران الحدودي إلى الحكومة السورية المؤقتة.

أساليب هيئة تحرير الشام للتوسع على غرار اغتنام أيّ فرصة للتدخل في شمال حلب وبناء تحالفات محلية والدفاع عنها إلى جانب المكاسب الاقتصادية

وأدى رفض (أحرار عولان) إلى اندلاع مواجهات بين الطرفين، ممّا دفع قوات (هيئة تحرير الشام) للتدخل للمرة الثالثة. 

وتمكنت قوات (هيئة تحرير الشام) من السيطرة على العديد من المواقع التابعة لـ (فرقة سلطان مراد) في عفرين، ممّا دفع تركيا مرة أخرى للتدخل لوقف الاشتباكات، وإرغام (هيئة تحرير الشام) على ترك المنطقة، في الوقت الذي ظل المعبر الحدودي تحت سيطرة (أحرار عولان).

وبرز العديد من الأنماط من هذه الأحداث التي تسلط بعض الضوء على أساليب (هيئة تحرير الشام) للتوسع، على غرار اغتنام أيّ فرصة للتدخل في شمال حلب، وبناء تحالفات محلية والدفاع عنها، إلى جانب المكاسب الاقتصادية.

ويُعتقد، بحسب الورقة البحثية، أنّ (هيئة تحرير الشام) واجهت القليل من المقاومة من المجموعات المنافسة، بعد أن أصبحت أكثر قوة وانضباطاً، وقد اعتمدت خطاباً ومحاولات للاسترضاء، تضمنت مساعي لاسترضاء السكان المحليين، واستغلال الانقسامات، والتأكيد على الاستقرار في إدلب مقارنة مع الفوضى والفساد في شمال حلب. 

وتُشير هذه الأنماط مُجتمعةً إلى أنّ الهيئة تستخدم استراتيجية مُتعدّدة الأوجه؛ تجمع بين الانتهازية والتحالفات المحليّة والحوافز الاقتصادية والتكتيكات الخطابية لتعزيز أهدافها التوسّعية في شمال حلب، بحسب ما أورده (مركز الإمارات للسياسات).

ردّ فعل تركيا

بعد اتفاق وقف إطلاق النار الروسي-التركي لعام 2020، طرأ تحسُّن ملحوظ على الأمن والإدارة والظروف المعيشية في إدلب، في حين عمّت الفوضى وانعدام الأمن في شمال حلب. وروّج البعض لفكرة أنّ تركيا مُستعدّة لتوسيع تجربة الهيئة وتوظيف قدراتها في شمال حلب.  

تمكنت قوات (هيئة تحرير الشام) من السيطرة على العديد من المواقع التابعة لـ (فرقة سلطان مراد) في عفرين

ويبدو أنّ بعض المؤشّرات قد دعمت هذه الفكرة؛ وعلى سبيل المثال يعتقد أحد قادة الجيش الوطني السوري، في حديث مع مُعِدّ الورقة، أنّ تركيا في عام 2022 كانت مشغولة للغاية بإدارة شمال سورية، الأمر الذي جعله يخشى من أن تكون الهيئة هي الفاعل المحلّي القادر على تولّي مسؤولية الأمن والحكم، خاصة في عفرين، من دون أن تواجه مُعارضة تركية. 

ومن الأفكار الشائعة الأخرى أنّه بالنسبة إلى تركيا، كان التعامل مع كيان سوري واحد يُسيطر على كامل المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة أسهل وأكثر كفاءة من التعامل مع فصائل مُتعدّدة أصغر حجماً ومُنخرطة في مُنافسة دائمة. وقد اكتسبت هذه الفكرة مزيداً من الزخم بعد جهود الهيئة لإعادة تقديم وتسويق نفسها.

وعلى الرغم من أنّ أنقرة صنّفت (جبهة النصرة) مُنظّمة إرهابية، إلا أنّها لا تتّخذ موقفاً مُناهضاً للهيئة. 

التمييز الرئيس لتركيا في الشمال الغربي هو بين مُقاتلي المُعارضة الأجانب والمحلييّن، وليس بين المُتطرّفين والمعتدلين

وبحسب أحد المسؤولين الذين تحدّثوا إلى كاتب الورقة في عام 2018، فإنّ التمييز الرئيس لتركيا في الشمال الغربي هو بين مُقاتلي المُعارضة الأجانب والمحلييّن، وليس بين المُتطرّفين والمعتدلين. ومع ذلك، فإنّ التدخّلات التركية المُتكررة لوقف محاولات التوسّع العسكري للهيئة تُعدّ مؤشّراً واضحاً على أنّ تركيا تُعارض التنظيم. 

ولم يكتفِ حلفاء تركيا بتطهير أولئك الذين يشتبه في أنّ لهم صلات بالهيئة، بل يُعارضون أيضاً إدراج (تجمّع الشهباء) الذي يضم فصائل مُتحالفة مع الهيئة تحت مظلة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وبالتالي حرمانها من الدعم المالي والدعم السياسي من أنقرة. 

ومن الناحية السياسية، تبدو تركيا مُتحمّسة قليلاً للتنازل عن السيطرة للهيئة، التي ما تزال مُصنفة مُنظّمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وروسيا وغيرها من الدول، مع أنّ السماح للهيئة بالدخول إلى تلك المناطق قد يؤدّي إلى ردّ فعل روسي وأمريكي.

ويعتقد مُعدّ الورقة أنّ أنقرة تحاول الإمساك بالعصا من المُنتصف؛ ففي حين تُظهر الإجراءات التركية بوضوح أنّ أنقرة تُعارض التوسّع التام للهيئة، إلا أنّها لم تُغلق المجال بشكل تام أمام التنظيم.

المسار المُستقبلي لتوسُّع الهيئة خارج إدلب

وما تزال إدلب تُمثّل المعقل الرئيس للهيئة وعلى رأس أولوياتها؛ فعلى مدى الأعوام الـ (6) الماضية، أنشأت الهيئة هيئات حكومية وإدارية جديدة لتنظيم الأمن والخدمات المحليّة وإدارة شؤون المنطقة بطريقة مركزية. 

وما يزال هذا العمل يشهد تطوّراً مستمراً، ويرى الكثيرون بالفعل أنّ نموذج الهيئة بهذا الخصوص ناجحٌ، خاصة عند مقارنته بشمال حلب، حيث على الرغم من الدعم التركي الكبير (في مجال الطاقة والمياه والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر)، فإنّ انعدام الأمن، وتعدّد الفاعلين، والموارد المحدودة، والمنافسة بين الفصائل والاقتتال الداخلي، كلها عوامل تُقوّض فُرص الاستقرار هناك، وفقاً لما جاء في الورقة البحثية.

ما تزال إدلب تُمثّل المعقل الرئيس للهيئة وعلى رأس أولوياتها

مُعدّ الورقة رجح ألّا تتوقّف الهيئة عن توسيع نفوذها في عفرين ومنطقة درع الفرات ضمن معايير المساحة المسموح لها بذلك. واستناداً إلى أعوام طويلة من عدم الاستقرار والاقتتال الداخلي والقتال على الموارد في شمال حلب، ستجد الهيئة المسوغات للتدخّل هناك.

كما أشار إلى وجود الكثير من الإغراءات الاقتصادية التي من شأنها أن تُعزّز تدخّلات الهيئة؛ ففي خضّم الانحسار العام للموارد في سورية، وانخفاض المُساعدات، وتنامي العلاقات الاقتصادية والتجارة بين شمال غرب سورية وشمال شرقها، من المُرجّح أن تؤمّن الهيئة المزيد من الموارد من خلال تلك التدخّلات. 

واعتبرت الورقة أنّ السيطرة على معبر بين قوات سورية الديمقراطية ودرع الفرات لا تؤمّن حصّة من الأنشطة التجارية بين الجانبين فحسب، بل تُساعد أيضاً في تأمين خطوط الإمداد التي تمتد من المناطق التي تُسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية وصولاً إلى إدلب؛ فتعزيز وجود التنظيم في عفرين هو الذي يضمن تحقيق مثل هذه التطلّعات.

مواضيع ذات صلة:

أبو محمد الجولاني وأمريكا... خارطة جديدة للتحالفات

"دويلة" الجولاني ومسار التقارب بين دمشق وأنقرة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية