اتفق لي، بالصدفة، متابعة برنامج "جدل" على قناة "التلفزيون العربي"؛ التي تبثّ برامجها من لندن؛ حيث ناقش البرنامج القانون الجديد الذي أقرّته تونس في تجريم العنصرية ضدّ السود هناك، ومدى احتمالات فاعلية ذلك القانون، وقدرته على الحدّ من الممارسات العنصرية ضدّ السود في تونس.
اقرأ أيضاً: "المسيح الأسمر" في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض
ما لفت نظري في ذلك البرنامج؛ أنه لم يكن بين الضيوف المدعوّين لمناقشة القانون في الحلقة التلفزيونية مواطن تونسيّ أسود، وهو أمر بدا لي كما لو أنّه استخفاف، أو استسهال، في الجدية حيال مناقشة الموضوع.
اختبار سوية إنسانية راسخة لحيثية السود في القوانين في المنطقة العربية، أمر ما يزال بعيد المنال
يمكن القول، بغضّ النظر عمّا تضمنته تلك الحلقة التلفزيونية: إنّ هذه الخطوة من تونس، السبّاقة دائماً، تعدّ استكمالاً كان ضرورياً للدخول في الحداثة السياسية، والاكتراث الحقيقي لجوهرية حقوق الإنسان، ولمعنى أن يكون الإنسان فرداً حديثاً، يؤمن بالمساواة الحقيقية بين البشر، ولا تحكمه غرائز عمومية منتشرة، في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً، إلى درجة العادية في النظرة إلى السود، كما لو أنّهم ليسوا جزءاً كيانياً من الدول التي يعيشون فيها.
لكن، مع ذلك، يمكن القول أيضاً: إنّ اختبار سوية إنسانية راسخة لحيثية السود في القوانين (ناهيك عن المشاعر) في المنطقة العربية، أمر ما يزال بعيد المنال، وإن كان الاعتراف بتجريمه في هكذا قانون أمراً جيداً.
اقرأ أيضاً: الحب ينتصر على لون البشرة في "حارة السمران" بغزة
لقد استغرقت تسوية الفرق بين سنّ القوانين المُجَّرِمة للعنصرية في الغرب، واعتبار العنصرية في مشاعر الناس تفاهة حقيقية لا يُتَصوَّر أن تكون معيقة لسوية العلاقات البشرية بين السود والبيض، من الصداقة، إلى الزواج، إلى الزمالة، إلى الجيرة؛ زمناً طويلاً تطلّب خياراً معرفياً خلّاقاً، وتعميماً لقناعات تربوية وتعليمية اتخذتها مجتمعات الغرب الحديث حدّاً فاصلاً وواضحاً لسوية علاقاتها الإنسانية، العابرة للألوان في صلاتها البينية، إلى أن أصبح، كما هو حاله اليوم، من سوية النظرة الإنسانية الواحدة لهوية الأعراق والألوان.
اقرأ أيضاً: علاقات الرقّ في المجتمع السوداني.. كتاب يكشف المسكوت عنه
وبلغت تلك الحالة ذروتها في الولايات المتحدة، مع وصول أول شخص أسود للبيت الأبيض، في ظاهرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وإلى جواره أول سيدة أولى سوداء، ميشيل أوباما، للشعب الأمريكي.
قيم الحداثة لا تتجزأ وما يراه البعض في هذا الجزء من العالم، المسمَّى عربياً حداثة لا يعني جوهرها بالضرورة
هذا يعني أنّ قيم الحداثة لا تتجزأ، وأنّ ما يراه البعض في هذا الجزء من العالم، المسمَّى عربياً، "حداثة"، حين يردون مظاهرها إلى ترسيمات وصور تقليدية للغرب، لا يعني بالضرورة تمثُّلاً يؤدي إلى استحقاق الانتظام الجوهري في الحداثة، بمعزل عن قيمة المساواة الإنسانية بين ألوان البشر وأعراقهم.
إنّ قوة ووطأة هوية الاختلاف تتجذر في التمايزات الحدِّية التي يضعها البشر حيال بعضهم البعض، خاصّة في مسألة اللون، كلّما كانوا أكثر تخلفاً؛ أي أقرب إلى الغريزة وأبعد عن الحرية.
ولتبيان الفرق؛ يمكننا المقارنة بين سبب طرد المذيعة الأمريكية ومقدمة البرامج في قناة "إن بي سي"، ميجان كيلي، الذي تمّ تفسيره بأنّه تعبير ينطوي على إيحاء عنصري، حين قالت: "لا أرى مانعاً من أن يتنكر أشخاص من البيض في هيئة أشخاص سود خلال عيد الهالويين"، فكان ذلك التعبير، بما ينطوي عليه من إيحاء عنصري، سبباً لأن تدفع القناة للمذيعة 69 مليون دولار، مقابل إغلاق ملفها وإنهاء برنامجها في القناة، في سياق أخلاقي من طرف القناة، يكترث إنسانياً لدلالات التعبير العنصري، وإيحاءاته التي تخدش الحياء العام، وبين مذيعة قناة "التلفزيون العربي"، في البرنامج الذي ناقش قانون تجريم العنصرية في تونس (المذكور في بداية المقال)، ريما شلون؛ حين تحدثت عن حقّها في اختيار شكل الشخص وبيئة الشخص ومجتمع الشخص الذي تريد أن تصادقه أو تتزوجه، في سياق أوحى كما لو أنّها تريد أن تقول إنّ من حقها، كذلك، أن لا تختار صديقاً أسود!
اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب تنتشر ظاهرة تبييض البشرة بين السودانيات
بطبيعة الحال، من حقّ المذيعة أن تختار بحرّيتها، في الصداقة والزواج، شكل الشخص الذي تختاره، لكن كيف يمكننا تفسير كلمتَي "مجتمع" و"بيئة"؛ اللتين وردتا في عبارات المذيعة، إن لم تقصد في لا وعيها "بيئة" أو "مجتمعاً" يقتصر أفرادهما على شكل أو لون معيّن؟ في تقديرنا: إنّ التعبير بتلك التساؤلات من خلال برنامج يناقش تجريم العنصرية يعني، وفق دلالة السياق، إيحاءً عنصرياً لا لبس فيه.
اقرأ أيضاً: اللغة العربية "السوداء"!
لقد كلّف انتصار رصيد الأخلاق (انتصار الضمير على العنصرية) المجتمعات الغربية مراحل طويلة لإحداث قطيعة مع الفوقية المغلفة باحترام القانون في الذاكرة البيضاء، والمتصلة بميثولوجيا الأعراق في تلك الذاكرة؛ وهو انتصار يرسل باستمرار إلى مجتمعاتنا العربية المتخلفة؛ إشارات إنسانية عميقة لمعنى أن يكون الفرد حرّاً، وألا يكون المجتمع رهيناً بالنموذج الذي تفرضه الذاكرة.
إنه ضرب من اعتراف كامل ومتأخر لإحساس تاريخي بفداحة أن يؤسس المجتمع ذاته المتوهمة، لقرون طويلة، عبر استضعافه لذات أخرى لا يريد أن يشعر بها كجزء منه، فقط لمجرد اختلاف اللّون؟!
رابط البرنامج على اليوتيوب: