بعد أردوغان.. تركيا بين الاسلامية المتشددة والعلمانية الحازمة

بعد أردوغان.. تركيا بين الاسلامية المتشددة والعلمانية الحازمة


18/12/2021

قامَ البروفيسور أحمد ت. كورو أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية سان دييغو بإثبات نفسه منذ فترة طويلة كواحد من الأكاديميين البارزين والمشتغلين بملفات العلمانية والإسلام. وهو ما يؤكدهُ إثارةُ كتابه المهم الصادر عام 2009 " العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا " لجدلٍ واسعِ النطاقِ بفعلِ أطروحتهِ الرامية إلى ضرورة استبدال الدولة التركية "علمنتها الحازمة" على غرار النموذج الفرنسي بأخرى "سلبية" قريبة للنهج الأمريكي.

بعد مرورِ أكثر من عقد من الزمن، عادت إشكالية العلمانية تتربعُ على رأس قضايا النقاش في تركيا خاصة وسط تزايد وتيرة تسييس مديرية الشؤون الدينية (ديانت)، وكذا تراجع شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان. وتبعاً لذلك؛ هذه الترجمة العربية للمقابلة التي اجراها البروفيسور أحمد ت. كورو مع موقع (أحوال تركية) والتي أعربَ عبرها كورو عن تصورهِ للإسلام وعلاقته بالعلمانية في ظلِ المستجدات الأخيرة التي تشهدها تركيا وكذا استشرافه لعلاقة الدين بالعلمانية في حقبة ما بعد أردوغان.

لماذا هناك جدل مستمر حول العلمانية في تركيا؟

كورو: أحد الأسباب الجوهرية يتمثلُ بوجود وجهتي نظرٍ متناقضتين؛ إحداهما يتقاسمها كلٌ من الإسلاميين والمحافظين أيضًا، تتمثلُ في نظرتهم لدور الإسلام الذي يجب أن يكون في قلب سياسة أسئلة الهوية والحياة العامة في تركيا. ورغم وجودِ بعضِ الاختلافات، إلا أن جميع الأحزاب اليمينية أيدت هذا الرأي. والموقف الثاني يتمثلُ بنظرتهِ للإسلام باعتبارهِ يمثلُ خطراً لو تُرِكَ بمعزلٍ عن سيطرة الدولة عليه، وهو الموقفُ الذي أيدهُ التيار العلماني الكمالي بشكل عام.

فمن ناحية، فإن هذين التصورين متناقضين، ومن ناحية أخرى، فإنهما يتوافقان حول تمحورِ وجهتا نظرهما حول الدولة؛ لأسباب مختلفة، يرفض كلا المعسكرين فكرة الفصل بين الإسلام والدولة. وبشكل أكثر تحديدًا، يدافعُ كلا المعسكرين عن وجود مديرية الشؤون الدينية بصفتها وكالة حكومية تسيطر على 80 ألف مسجد في تركيا.

لم تعد هناك سيطرة لتيار الكمالي في تركيا. بدلاً من ذلك، يشعر الكثير من الناس بالقلق من توغلِ السلطوية الإسلامية. هل يمكنك توضيحُ رأيك بخصوص هذا الأمر؟

كورو: يمكنُ اعتبار النظام التركي الحالي قائمٌ على الشعبوية الإسلامية وقد قام بتقليلِ الفصل الضعيف بالفعل بين الإسلام والدولة. حينما يغيبُ هذا الفصل يتحول الإسلام إلى أداة تَخدِمُ القمع والدُغْمائِيَة السياسية؛ يتلاعب السياسيون اليمينيون عبر توظيفِ الإسلام بالحشودِ المسلمة من خلال استغلال مشاعرهم الدينية في تركيا. علاوة على ذلك، تم استخدام الإسلام كوسيلة لتقييد الحريات في مختلف البلدان نظرًا لأن الشريعة الإسلامية تتضمن العديد من التشريعات المتجذرة تاريخيًا والتي تَحُدُ من حرية التعبير وكذا من حقوق المرأة.

وبناءً على ما سبق فإن العلمانية، باعتبارها فصلاً بين السلطة الدينية والسياسية، تُعَدُ ضرورية لإقامة نظام ديمقراطي متينٍ في تركيا. لكن هذا كذلك يقودُنا لطرحِ سؤالٍ مهمٍ يحتاجُ لإجابة ملحة مفادهُ: أي علمانية تحتاجها تركيا؟

حسب أطروحتك قمتَ بتحديد أنواع مختلفة للعلمانية، ما هي هذه الأنواع المختلفة للعلمانية؟

كورو: الخصائص المشتركة للدول العلمانية متمحورة حولَ شقين؛ الدول العلمانية ليس لديها دين رسمي ولا يشيرون إلى وجودِ الدين في مسار التشريع. إلى جانب هذه القواسم المشتركة، فإن الدول العلمانية لديها أيضًا اختلافات. يقومُ كتابي بتعريفِ نوعين رئيسيين من العلمانية؛ النموذج الأول من العلمانية يأتي تحت مُسَمى "العلمانية السلبية" وهي الأيديولوجية السائدة في الولايات المتحدة منذ التعديل الدستوري في عام 1791. وفقًا لهذه الأيديولوجية، يجب أن تكون الدولة سلبية ومحايدة تجاه الرموز الدينية والعلمانية في المجال العام. من ناحية أخرى، كانت "العلمانية الحازمة" هي الأيدولوجية المهيمنة في فرنسا منذ عام 1905. وهي تطالبُ الدولة بلعبِ دورٍ حاسمٍ في ابعادِ الدين من المجال العام وفرض العلمانية كعقيدة شمولية على حساب الدين. لهذا السبب انتهجت الحكومات العلمانية الحازمة في كل من فرنسا والمكسيك وتركيا سياسات إقصائية تجاه الكاثوليكية والإسلام.

هل اتخذ مؤسسو تركيا "العلمانية الفرنسية" نموذجًا لهم؟

كورو: على غرارِ الجمهورية الفرنسية، تأسست الجمهورية التركية كرد فعل للتحالف بين رجال الدين/الأكليروس والنظام الملكي. وبسبب هذه الجذور التاريخية، ظهرت العلمانية في صيغتها الحازمة في كلا البلدين. في المقابل، تأسست الجمهورية في الولايات المتحدة كرد فعل على الاحتلال البريطاني وفي نفس الوقت لم يهيمن الدين داخل النموذج الأمريكي. وهو ما مهدَ ظهورَ العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة ودية وسلبية اتجاه الدين.

كما أن هناك اختلافات بين العلمانية الفرنسية والتركية أيضاً؛ سعى العلمانيون في تركيا إلى إبقاء الإسلام تحت السيطرة من خلال مديرية الشؤون الدينية (ديانت)، بينما في فرنسا لم يسع العلمانيون إلى مثل هذه السيطرة المباشرة على الكاثوليكية. فيما يتجسدُ الفرق الآخر في كونِ أن العلمانية في فرنسا تعايشت مع الديمقراطية، في حين أن العلمانية في تركيا كانت مرتبطة بالوصاية التي فرضها النظام العسكرية على السياسيين. وبالتالي؛ شهدَ النموذج التركي وجودَ سياسات أكثر إقصائية تجاه الدين؛ بين عامي 1933 و1949، تم حظر التعليم الديني بشكل شبه كامل. وهو ما استمر إلى حدود 1950 حينما بدأ التحول الديمقراطي، بدأت عملية تخفيف القيود، لكن بعض السياسات التقييدية، مثل حظر الحجاب، استمرت إلى حدود العقد الماضي.

كيف تفسر تحول العلمانية في تركيا في العقد الماضي؟

كورو: توقع العديد من المراقبين الغربيين أن تصبح تركيا نموذجًا يحتذى به للدول التي تشهدُ وجود أغلبية مسلمة في إظهار التوافق بين الإسلام والديمقراطية وكذا الدولة في صيغتها العلمانية. في هذا الصدد وصل حزب العدالة والتنمية التركي إلى زمام السلطة في عام 2002 من خلال تقديم وعود لتحقيق هذا التوافق بين الإسلام والدولة العلمانية. لسوء الحظ، عزز أردوغان بدلاً من ذلك بعد عام 2012، نظاماً أوتوقراطياً (حكم الرجل الواحد) وأسس نظامًا إسلاميًا شعبويًا.

لازالت تشهدُ تركيا اليوم وجودَ دستورٍ وقوانين علمانية لكن الحياة العامة تعيشُ تحت تأثير كبير للخطابات الإسلامية؛ يمثل تعميق الدور السياسي لمديرية الشؤون الدينية (ديانت) إضعافاً للعلمانية وتعزيزاً لهذه الخطابات الإسلامية.

هل هذه نتيجة حتمية لتناقض متأصل بين الإسلام والعلمانية؟

كورو: الواقعُ يؤكدُ وجودَ توترِ بين الفهم السائد للشريعة الإسلامية والعلمانية في تركيا؛ وفقًا لهذا الفهم فإن الشريعة الإسلامية لديها أحكامٌ مرتبطة بكل شيء "من آداب قضاء الحاجة إلى السياسة الشرعية المرتبطة بالحكم"؛ هذا الفهم يتعارض مع كلِ أنواع العلمانية.

ومع ذلك، فإن وجودَ تفسيرٍ مختلفٍ للإسلام يمكن أن يكون متوافقًا مع العلمانية  في صيغتها السلبية؛  كتابي الجديد والمعنونِ بـ «الإسلام والسلطوية والتأخُر: مقارنة عالمية وتاريخية»، يدرسُ كيفية وجود درجة معينة من الفصل بين السلطات الدينية ونظيرتها السياسية في العالم الإسلامي بين القرنين الثامن والحادي عشر ميلادي. في هذه الحقبة، كانت هناك أشكال متعددة للفهم للشريعة الإسلامية؛ هذه التجربة التاريخية تجعلني متفائلاً بظهور تفسيرات جديدة للإسلام تتوافق مع العلمانية والديمقراطية في المستقبل.

أعلن كمال قلجدار أوغلي، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، مؤخرًا أنه سيسعى إلى "التقارب" مع المواطنين المحافظين. هل هذا يعني أن حزب الشعب الجمهوري سوف يغير موقفه "العلماني الحازم" على المدى الطويل؟

كورو: كان إعلان كمال قلجدار أوغلي مؤثرًا كما شهدَ ردود فعلٍ إيجابية للغاية؛ من خلال جعل الخطاب العلماني لحزب الشعب الجمهوري أكثر اعتدالًا، فإنه بذلك يضعف استراتيجية أردوغان التي تصبُ في مسار الاستقطاب السياسي. تحت قيادة كمال قلجدار أوغلي، فإن حزب الشعب الجمهوري على سبيل المثال لم يعد يدافع عن سياسته القديمة في حظر الحجاب؛ وهو ما يمثلُ تحولاً واعداً.

ما هي توقعاتك حول العلمانية في تركيا في المستقبل القريب؟ تُظهِرُ الاستطلاعات الأخيرة أن شعبية أردوغان آخذة في الانخفاض، فماذا يمكن أن يحدث للعلمانية في تركيا ما بعد أردوغان؟

كورو: بعد انقضاء نظام أردوغان، ستتقوى العلمانية من جديد. أرجو ألا يعني هذا انخراط تركيا مجدداً في سياسات "العلمانية الحازمة" التي عرفتها في التسعينيات. كحالة من "الانتقام العلماني" قد يتجسدُ في التحولُ من السلطوية الإسلامية إلى السلطوية العلمانية.

لتحقيق التحول الديمقراطي، فإن المسارُ الاصلاحي في تركيا يحتاجُ إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الفصل الحقيقي بين الإسلام والدولة؛ وهذا من شأنه أن يرفض السياسات العلمانية الحازمة المتمثلة في أمورٍ مثل حظر الحجاب. كما أنه يلغي الوضع الحالي الذي باتت تلعبهُ مديرية الشؤون الدينية (ديانت)، التي تدعمُ تمويل الدولة للإسلام، وتجسدُ تحالفًا بين علماء الدين والدولة.

يجبُ ألا يتهيبَ المحافظون المسلمون من مثل هذا الإصلاح؛ إن تقوية العلمانية في مسألة الفصل بين الدين والدولة لن يضعف الحرية الدينية للمسلمين وغير المسلمين. بدلا من ذلك، فإن هذ الفصل سيعزز الحرية الدينية. آمل أن تتمكن تركيا، بعد تجربة تطرف العلمانية الحازمة وتطرف الاسلاميين، من إيجاد حلول معقولة للمشاكل المتعلقة بالعلاقة المركبة بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية.

عن "أحوال" تركية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية