برنامج إيران النووي بمساعدة أمريكية

برنامج إيران النووي بمساعدة أمريكية


19/12/2021

ترجمة: علي نوار

يُعدّ البرنامج النووي الإيراني أحد أكثر الملفّات التي بُذل فيها قدر ضخم من الجهود الدبلوماسية منذ اكتشاف الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2003 لأمر تطوير طهران وعلى مدار 18 عاماً برنامجاً سرياً يشمل مفاعلات نووية كبيرة ومتطوّرة.

ونتج عن هذا الكشف، الذي خرقت بموجبه إيران التزاماتها كإحدى الدول الموقّعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، فوراً جهوداً دبلوماسية عالمية حثيثة لم تتأخّر في إصدار الإدانات وفرض العقوبات وإجراءات أخرى كوسيلة ضغط لم تقتصر فقط على القوى الغربية بل امتدّت لتشمل روسيا والصين، الحليفين التقليديين لطهران.

ورُغم تأكيدات حكومة الرئيس السابق وقتها محمد خاتمي أنّ الأنشطة النووية هي للأهداف السلمية فحسب، ترجمت الولايات المتحدة هذه المعلومات في صورة تأكيد على مخاوفها من سعي طهران وراء سلاح نووي.

وكان البرنامج النووي أحد الملفّات الأساسية خلال حقب الرؤساء السابقين للولايات المتحدة جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب، والذين حاولوا بأكثر من طريقة وقف هذا البرنامج خشية تطوير إيران لأسلحة نووية، وهو الاحتمال الذي من شأنه زعزعة توازن القوى في الشرق الأوسط، ويرى الكثير من الخُبراء أنّه قد يؤدّي إلى سباق تسلّح نووي في المنطقة.

الولايات المتحدة لم تكن تبيع بل تؤجّر اليورانيوم الذي كانت تسلّمه للدول الأخرى كوقود للمفاعلات. وبهذا ساعدت واشنطن نحو 30 دولة على بدء الأبحاث في مجال الطاقة النووية

واستأنف ممثلون عن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، الدول الخمس التي تمتلك حق الرفض في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ألمانيا، يوم 29 تشرين ثان (نوفمبر) الماضي في العاصمة النمساوية فيينا الحوار مع إيران بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي المُبرم عام 2015.

لكن الوفد الأمريكي لم يجلس إلى مائدة المفاوضات وجهاً لوجه مع نظيره الإيراني وظلّ داخل أحد الفنادق القريبة من المكان الذي تُجرى به المحادثات مع إبلاغه بمستجدّات المُباحثات أولاً بأول.

وكان هذا الاتفاق، الذي تمكّنت إدارة أوباما من التوصّل له مع طهران بعد 20 شهراً من المفاوضات، قد انهار حين قرّرت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الخروج منه وبشكل منفرد عام 2018.

اقرأ أيضاً: "واشنطن بوست": الكشف عن مواقع نووية سرية في إيران

وتشترط إيران قبل الموافقة على الجلوس إلى مائدة تفاوض واحدة مع الولايات المتحدة أن ترفع الأخيرة العقوبات المفروضة عليها.

مفارقة

لكن المفارقة تقود إلى اكتشاف أكثر إثارة للدهشة ألا وهو أنّ واشنطن نفسها تقف وراء البرنامج النووي الإيراني وكانت الولايات المتحدة هي صاحبة المبادرة لقيامه في حقبة الخمسينات من القرن الماضي.

والحقيقة أنّ كل شيء بدأ بخطاب للرئيس الأمريكي السابق دوايت أيزنهاور.

تحدّث أيزنهاور في الثامن من كانون أول (ديسمبر) 1953 أمام الجمعية العامة لمنظّمة الأمم المتحدة حول التهديد الذي تمثّله التقية النووية الموجّهة للأهداف الحربية، والتي لم تعد مقصورة قبلها بأعوام عدّة على الولايات المتحدة، ومخاطر انتشار هذه التقنيات وحصول الدول على معلومات حول كيفية صناعة القنابل الذرّية.

وأكّد رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت أنّه ينبغي بذل مزيد من الجهود للحدّ من هذا الخطر، واقترح فكرة الاستفادة من هذه التقنية لخدمة البشرية.

اقرأ أيضاً: أمريكا تجدد التزامها بدعم السعودية والخليج وردع إيران... ما علاقة الاتفاق النووي؟

وأضاف "نزع هذه التقنية من أيدي الجنود لا يكفي. ينبغي وضعها بين يدي هؤلاء الذين يعرفون كيفية تجريدها من أغراضها العسكرية وتكييفها بحيث تتناسب مع فنون السلام".

وواصل أيزنهاور حديثه باقتراح إنشاء وكالة للطاقة الذرّية تحت مظلّة الأمم المتحدة تتكفّل بابتكار سُبل جعل الطاقة النووية "تخدم الأغراض السلمية للإنسانية" والإشراف على تطبيق هذه الطاقة بما يضمن تلبية الاحتياجات في مجالات مثل الطب والزراعة.

وأضاف "أحد أهم الأغراض هو توفير الطاقة الكهربائية في مناطق تعاني نقصاً حاداً في الطاقة على مستوى العالم".

وكانت الفكرة تتمحور حول عرض الدول الكُبرى القادرة على إنتاج المواد النووية خدماتها على الوكالة الأممية التي تختصّ بدورها بالحفاظ على هذه المواد وإتاحتها للباحثين الذين يكرّسون جهودهم لاستكشاف الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

وزرع خطاب أيزنهاور ذلك، النواة الأولى للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومهّد الطريق أيضاً لمبادرة ستُعرف لاحقاً باسم "الذرّة من أجل السلام" والتي عرضت بموجبها الولايات المتحدة التأهيل والتقنيات على الدول النامية لمساعدتها في الاستفادة من الاستخدامات السلمية للطاقة الذرّية.

المتخصّصان في تاريخ التقنيات ستيوارت ليزلي وروبرت كارجون: لم يتخيّل أحد في معهد ماساشوستس أبداً أنّ البرامج التي كانت مخصّصة للشاه ستسقط لاحقاً في أيدي الثوار الإسلامويين

وبعد عام واحد فحسب من خطاب أيزنهاور أمام الأمم المتحدة، أدخلت الولايات المتحدة تعديلاً على قانون الطاقة الذرّية للسماح بتصدير التقنيات والمعدّات النووية إلى دول أخرى شريطة تقديم تعّهدات بعدم استخدامها لتطوير أسلحة.

وفي آذار (مارس) 1955، اتّخذت إدارة أيزنهاور خطوة إضافية وسمحت للجنة الأمريكية للطاقة الذرّية بتزويد دول "العالم الحُر" بكمّيات محدودة من المواد القابلة للانشطار وكذلك المساعدة الكافية لبناء مُفاعلات نووية.

سهولة الحصول على اليورانيوم والثوريوم

وكتب بيتر لافوي رئيس قسم سياسات منع الانتشار النووي السابق في وزارة الدفاع الأمريكية "بنتاجون" مقالاً نشرته مطبوعة "آرمز كونترول أسوشيشن" كشف فيه أنّ "هذه الصادرات كان هدفها الرئيس الحفاظ على الريادة العالمية للولايات المتحدة، وتقليص النفوذ السوفييتي، وضمان سهولة الحصول على اليورانيوم والثوريوم".

وكانت الهند هي الدولة الأولى التي تتلقّى مساعدات نووية من واشنطن، وجاءت بعدها دول مثل جنوب أفريقيا وإسرائيل وتركيا وباكستان والبرتغال واليونان وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل وإيران.

وفي الخامس من آذار(مارس) 1957، وقّعت الولايات المتحدة وإيران التي كانت وقتها تحت حُكم الشاه محمد رضا بهلوي، اتفاقاً للتعاون في الاستخدام السلمي للطاقة الذرّية ضمن مبادرة "الذرّة من أجل السلام" ووضع حجر الأساس لبدء البرنامج النووي الإيراني.

وبالنسبة للولايات المتحدة، كانت لإيران نقطة جذب إضافية في أجواء الحرب الباردة وقتها مع الاتحاد السوفييتي البائد.

اقرأ أيضاً: مسؤول أمريكي يهدد إيران: سنرد على أي تصعيد نووي... هل فشلت المفاوضات؟

"وفقاً للوثائق المحفوظة التي تعود لتلك الحقبة، فإنّ إيران غير المنتمية لأي كُتلة كانت ذات أهمّية بالغة في إستراتيجية الردع الموجّهة ضد الاتحاد السوفييتي، وكانت مبادرة الذرّة من أجل السلام أداة فعّالة لتعزيز ولاء إيران للمُعسكر الغربي"، حسبما أوضح جونا جليك أونترمان في تحليل نشره عام 2018 "مركز ويلسون" وهو مركز أبحاث مقرّه واشنطن.

وفي عام 1967، منحت الولايات المتحدة إيران مُفاعلاً نووياً للأبحاث بقُدرة خمسة ميجاواط، وأيضاً كمّية كافية من اليورانيوم المُخصّب لتشغيله.

ثمّ انضمّت طهران بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى مُعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وقطعت على نفسها وعوداً بعدم السعي وراء تطوير أسلحة نووية، لكن هذا الهدف لم يستبعده الشاه تماماً في واقع الأمر.

وكان أكبر اعتماد الذي يُنظر له بوصفه أبو البرنامج النووي الإيراني قد كشف خلال مقابلة معه أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عام 2013 أنّ "الشاه كان يرى أنّه إذا كانت إيران قويّة بما يكفي واستطاع هو حماية مصالحها في المنطقة فلا حاجة للأسلحة الذرّية. لكنّه قال لي إنّه حال تغيّر ذلك فينبغي اللجوء إلى الأسلحة النووية. كان هذا ما يجول بعقله".

وتولّى اعتماد رئاسة الهيئة الإيرانية للطاقة الذرّية التي تأسّست عام 1974، وأشرف على بدايات تطوير البرنامج النووي الإيراني.

وفي ذلك العام، أعلن رضا بهلوي عن خُططه لبناء 23 محطّة للطاقة الذرّية في العقدين التاليين بقُدرة 23.000 ميجاواط. كما كشف عن نيّته تطوير منظومة لإنتاج الوقود النووي.

إلّا أنّ إيران واجهت عقبة كبيرة تتمثّل في عدم وجود الخُبراء المؤهّلين الذين كانت تحتاجهم لبدء تلك الطريق.

هكذا ساعدت واشنطن إيران

وطبقاً لمقال للباحثة آريانا روبيري نشره مركز "بروكينجز إنستيتيوشن" للدراسات في واشنطن، فإنّه "نظراً لافتقار إيران لعدد هائل من الأفراد المُدرّبين في مجال الهندسة النووية والفيزياء، ظلّ المُفاعل الإيراني خارج الخدمة طيلة عقد كامل بسبب عدم توافر الأيدي العاملة التي تستطيع تشغيله".

بيد أنّ المساعدة الأمريكية لعبت دوراً حاسماً كي تتجاوز إيران هذه العقبة أيضاً.

اقرأ أيضاً: هل تغير أمريكا وأوروبا موقفها من الاتفاق النووي الإيراني؟

وفي تموز(يوليو) 1974، اقترحت السلطات الإيرانية على معهد ماساشوستس للتقنيات الشهير في الولايات المتحدة بدء برنامج للدراسات العليا من أجل الطلبة الذين ستختارهم الهيئة الإيرانية للطاقة الذرّية وهو ما أسهم في تأهيل الجيل الأول من المهندسين النوويين الإيرانيين.

وكان ذلك البرنامج التعليمي، الذي دفعت إيران مقابله 1.3 مليون دولار أمريكي أو ما يعادل 7.3 مليون دولار بأسعار الوقت الحالي، سبباً في خروج احتجاجات من قبل الأساتذة والطلبة في معهد ماساشوستس والذين اتّهموا الشاه بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وتخوّفوا من أن يؤدّي البرنامج إلى انتشار الأسلحة النووية.

وعلى أي حال، فقد انتهى الاتفاق التعليمي والتعاون النووي بين واشنطن وطهران في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979. لكن النتائج ستلقي بظلالها لوقت طويل.

ويشير المتخصّصان في تاريخ التقنيات ستيوارت ليزلي وروبرت كارجون في مقال لهما "لم يتخيّل أحد في معهد ماساشوستس أبداً أنّ البرامج التي كانت مخصّصة للشاه ستسقط لاحقاً في أيدي الثوار الإسلامويين. لم يخطر ببال أحد عدد الطلّاب والأساتذة الذين يتلقّون التدريب ويؤيّدون الثورة".

كما انتهى الحال بجامعة آريا مهر التي تغيّر اسمها إلى جامعة شريف التكنولوجية وكانت محاكاة لمعهد ماسوشتس، مركزاً لنشاط الطلّاب الثوريين.

في البداية رفض النظام الجديد بقيادة الخميني مشروع الشاه النووي، وبالفعل هرب عدد كبير من الأساتذة المؤهّلين في هذا التخصّص إلى خارج البلاد.

اقرأ أيضاً: تراشق الاتهامات بين إيران والغرب حول إفشال الاتفاق النووي... ما الجديد؟

ويوضّح محمد هماينوفاش أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فلوريدا الدولية بالولايات المتحدة لـ"بي بي سي" كيف أنّ الإيرانيين وفي أعقاب ثورة 1979 كان لديهم موقف مناهض كُلّية للطاقة النووية. وأكّد هماينوفاش "كانوا يظنّون أن هذا المشروع باهظ التكلفة وصعب المنال بدأه الشاه لحسابه الخاص. لذا تخلّوا عن البرنامج النووي وتخلّصوا منه بالكامل تقريباً".

واستطرد الخبير "كانت هناك فجوة ما بين خمسة إلى ستة أعوام قلّل خلالها الإيرانيون بصورة كبيرة من شأن الطاقة النووية. كانوا يعتقدون أنّها هدر لمواردهم لا سيما وأنّ الاستخدام وقتها كان يقتصر على توليد الكهرباء، في الوقت الذي كانت تملك فيه إيران موارداً نفطية ضخمة".

لكن الثورة الإيرانية ستدرك فيما بعد أهمّية التقنيات النووية ولن تبدأ فقط في إعادة الخبراء العديدين الذين رحلوا عنها فقط، بل ستشرع لاحقاً في بناء برنامج ذرّي سرّي.

نتائج غير متوقّعة

لكن إلى أي مدى أسهمت "الذرّة من أجل السلام" حقيقة في حصول دول أخرى على أسلحة نووية وبرنامج إيران النووي الحالي؟

يرى هماينوفاش أنّ قلق أيزنهاور من استخدام التقنيات النووية في المجال العسكري كان هو المحرّك للمبادرة، مردفاً: "لذا ومن أجل تلافي لجوء مزيد من الدول إلى هذا المسار، فكّر وقتها في أنّه إذا تم توفير قدر معّين من التقنيات النووية للأغراض السلمية، فإنّ هذا قد يسهم في إبقائها تحت السيطرة بدرجة ما".

ويستشهد الخبير على صحّة كلامه بتذكيره بحقيقة أنّ الولايات المتحدة لم تكن تبيع بل تؤجّر اليورانيوم الذي كانت تسلّمه للدول الأخرى كوقود للمفاعلات في ظلّ حرص على أن تكون الكمّيات كافية فقط للدراسات المعملية. وبهذا الشكل ساعدت واشنطن ما يقرب من 30 دولة حول العالم على بدء الأبحاث والدراسات في مجال الطاقة النووية.

اقرأ أيضاً: كيف تنظر الإمارات إلى المحادثات النووية الإيرانية في فيينا؟

بيد أنّه لا يوجد إجماع بين الخبراء بشأن إلى أي مدى ساعدت هذه المبادرة في انتشار الأسلحة النووية، لكنّ هماينوفاش يميل إلى فرضية أنّ "الذرّة من أجل السلام" أدّت إلى خلق أجواء مواتية لنقل التقنيات النووية ذات الأغراض السلمية، ثم ومع معرفة البلدان بكيفية استعمال هذه التقنية، تمكّنت من تطويرها واستغلالها في دروب أخرى.

في المقابل، يعتبر خبراء آخرون أنّ مبادرة أيزنهاور تسبّبت في سباق تسلّح نووي، ويقول جون كريج الأستاذ في معهد جورجيا للتقنية "هناك الكثير من السرديات الجديدة التي تبرز إلى أي حدّ كانت هذه المبادرة خطيرة وقد تسبّبت وسهّلت بالطبع تطوير برامج أسلحة نووية".

ويستطرد كريج "التفكير فقط في أنّه كان من الممكن وضع خطّ فاصل بين الاستخدامات السلمية والأخرى العسكرية للطاقة النووية، لهو من ضروب السذاجة والخطأ من المنظور التاريخي. تبادل التقنيات النووية السلمية ينطوي على اعتبارات مهمّة في مجال الأسلحة النووية. ليس ثمة شكّ في ذلك".

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://www.bbc.com/mundo/noticias-internacional-59353563




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية