مرحلة جديدة من العنف السياسيّ دخلتها تونس، مع بداية شهر كانون الأول (ديسمبر)، يقودها نواب ائتلاف الكرامة، المحكومون بمرجعيات دينية، ونواب الدستوري الحرّ الذي يحرّكه ولاؤه إلى مبادئ النظام السابق.
النائب هشام العجبوني لـ"حفريات": نواب ائتلاف الكرامة هم ميليشيات عنف يقسمون المجتمع ويثيرون الفتنة، وهو ما قد يعيد تونس إلى مربع الاغتيالات
ظاهرةٌ أثارت الكثير من الجدل، بعد أن تحوّل مقرّ البرلمان إلى حلبةٍ اشتبك فيها نواب عن كتلة ائتلاف الكرامة الإسلامية (18 نائباً)، والكتلة الديمقراطية الوسطية (38 نائباً)، كما تحوّل قبلها إلى مسرح للخطاب العنيف خصوصاً بعد تصريحات محمد العفاس، النائب عن كتلة ائتلاف الكرامة، التي أهان فيها المرأة، ونعتها بأوصاف غير لائقة؛ لأنّها تخالف، بحسب تصريحه، ما جاء به القرآن.
مظاهر العنف تتصاعد في البرلمان
وكان العفاس قد هاجم في عدة تصريحات تحت قبة البرلمان التونسي، حقوق المرأة وحريتها التي وصفها بـ "حرية الوصول للمرأة"، ورأى أنّ التحرّر هو "أن يكون المرء عبداً للموضة والشهوات والغرب ولدعوات الانحلال".
كما رأى أنّ "الأمهات العازبات إمّا عاهرات أو مغتصبات، وأنّ الإجهاض هو قتل نفس بغير نفس والحرية الجنسيّة هي عهر"، كما وصف المثليّة الجنسية بالـ "شذوذ والفاحشة وعكس الفطرة".
هذا ووجه العفاس انتقاداً لاذعاً للحداثيين في تونس، حيث قال: "هم يتكلمون عن حرية المرأة، ونحن (الإسلاميين)، نعدّها حرية الوصول إلى المرأة، ما يسمّونه حرية نسميه تحرراً، وهو أن يكون المرء عبداً للموضة والغرب والشهوات ولدعوات الفسق والفجور (…) المرأة عندهم سلعة رخيصة مكشوفة لمن هبّ ودب، وعندنا جوهرة غالية نفيسة محفوظة".
اقرأ أيضاً: تونس على طاولة المحور القطري التركي.. كيف؟
تصريحات فجّرت جدلاً واسعاً في الساحة التونسية، وطغت على اهتمامات الرأي العام، فيما تواصلت داخل البرلمان، حيث تطرّق لها بعض النواب خلال جلسة مخصصة لمناقشة موضوع العاملات الفلاحيات، وتطور النقاش إلى تراشق، ومن ثم صراع بالأيدي، فيما أعلن رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، عن فتح تحقيق بخصوص مشاهد العنف داخل مقرّ السيادة التونسية، معرباً عن إدانته المطلقة للاعتداء.
اقرأ أيضاً: من بينها الخضوع للمرشد: عوائق تصنيف إخوان تونس "جماعة إرهابية"
حادثة الاعتداء بالعنف هذه اعتبرها النائب عن التيار الديمقراطي (وسطي)، هشام العجبوني، عودةً لمربّع العنف الذي استشرى في البلاد، عامَيْ 2012 و2013، ونتج عنه اغتيال المعارضَين؛ شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، واصفاً إياها بالخطيرة، وأنّ الأخطر منها هو تبييضها من طرف رئيس البرلمان راشد الغنوشي، وحلفائه.
وقال العجبوني، في تصريحه لـ "حفريات": "نواب ائتلاف الكرامة هم ميليشيات عنف يقسمون المجتمع ويثيرون الفتنة، خصوصاً أنّ النائب الذي أدلى بالتصريحات المعادية للمرأة التونسية وللمجتمع ككلّ هو، في الأصل، إمام جامع، وكان يفترض أن يتحلّى بالتسامح، لكنّه، على العكس، تمادى في تشويه المرأة.
اقرأ أيضاً: فوضى البرلمان في تونس تعيد التوتر بين الرئيس سعيد وحركة النهضة
ويحذّر متابعون من أن تقود تصريحات ائتلاف الكرامة الحليف، الذي تحركه حركة النهضة، إلى فوضى عارمة قد تجرّ البلاد إلى مربع العنف وتفشل محاولات إنقاذ تونس من انهيار سياسيّ واقتصاديّ وشيك.
إدانات واسعة
واستنكرت وزارة المرأة، واتحاد النساء، وعدد من منظمات الدفاع عن حقوق النساء والمنظمات الحقوقية تصريحات العفاس، وعدّتها مهينة للنساء، وفيها خرق واضح للدستور، ولما جاء فيه من قوانين تخصّ المرأة وحقوقها وحرياتها.
كما دان الاتحاد العام التونسي للشغل "الاعتداء على نواب الكتلة الديمقراطية من الكتلة الإرهابية للكرامة"، وقال إنّهم يتبنون خطاباً مهيناً ضدّ المرأة التونسية في مخالفة للدستور والتشريعات والقيم الأخلاقية.
عدنان منصر: وصول بعض الممثلين غير الديمقراطيين الذين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا بالدستور إلى البرلمان هو ما أوصل تونس إلى هذه المرحلة
وندّد الاتحاد بالتواطؤ المفضوح لرئيس البرلمان، راشد الغنوشي، ودفاعه عن خطاب التكفير والعنف داخل البرلمان، مديناً سلوك كتلة الكرامة المتخفية بالحصانة البرلمانية، محملاً الأطراف الداعمين لكتلة الكرامة ومن بينها حركة النهضة مسؤوليّة التشجيع على العنف.
ودوّنت النائبة ليلى حداد: "خطاب عنيف ومتطرف من النائب محمد العفاس ضدّ المرأة التونسية ووصفها بنعوت، تعدّ انتهاكاً جسيماً وشكلاً من أشكال التمييز ضدّ المرأة، وبصفتي نائباً عن حركة الشعب أندّد بخطابه العنيف والخطير وأطالب برفع الحصانة عنه وتتبعه قضائياً".
اقرأ أيضاً: هل تخلق احتجاجات تونس أزمة ثقة بين الرئيس والشارع؟
وعلّقت النائبة السابقة، فاطمة المسدي، على تصريحات العفاس بقولها: "إن كانت نساؤنا عاهرات فنساؤكم مجاهدات نكاح، وبالوثائق؛ لن نسكت على أفكارك الظلامية بعد الآن".
ورأى رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي، عدنان منصر، أنّ "ما يحدث داخل البرلمان هو جزء من الأزمة التي تعيشها تونس، ليس فقط على مستوى المؤسسات، بل أيضاً أزمة مجتمع، وأزمة تمثيل داخل البرلمان، وهي متعلقة بثقافة سياسةٍ كاملةٍ"، موضحاً أنّ "وصول بعض الممثلين غير الديمقراطيين، الذين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا بالدستور هو ما أوصل تونس إلى هذه المرحلة".
ويرى منصر، في حديثه لـ "حفريات"؛ أنّ ما تعيشه تونس اليوم هو "ارتداد على الديمقراطية، بسبب صناعة القرار بطريقة غير ديمقراطية إلى جانب عدم تناسق المنظومة الحالية، وهو ما جعلها تتراجع خطوة إلى الوراء مقارنة بما جاء في دستور".
دعوات لحلّ البرلمان وإقالة الغنوشي
وللحدّ من مظاهر العنف داخل البرلمان، طالب ممثلو خمس كتل برلمانية رئيس المجلس، راشد الغنوشي، برفع الحصانة البرلمانية عن كتلة ائتلاف الكرامة، وتقديم قضية عدلية ضدّها، وذلك على خلفية حادثة الاعتداء بالعنف على زملائهم، خصوصاً أنّ البرلمان لم يشهد هذا النوع من العنف سابقاً.
وبسبب ما رأوه ضعف الموقف الرسميّ للغنوشيّ؛ طالب عدد من البرلمانيين باستقالته، خصوصاً أنّهم طالبوه سابقاً بإصدار بيان يدين التصريحات التحريضيّة المتطرّفة والمعادية لحرّية المرأة، لنوّاب ائتلاف الكرامة غير أنّه لم يتفاعل مع هذه المطالب، ما عدّه النواب انحيازاً واضحاً لحلفائه.
اقرأ أيضاً: حركة النهضة التونسية والعودة إلى السيناريوهات المكشوفة
من جانبه، شدّد عضو البرلمان، هشام العجبوني، في حديثه لـ "حفريات"، على أنّ الغنّوشي يتستّر على هؤلاء "الميليشيات" (نواب ائتلاف الكرامة) ويحميهم، وهو متواطئ معهم؛ لذلك هم لن يتراجعوا عن دعوتهم لاستقالته"، لافتاً إلى أنّ "البرلمان الذي يرأسه الغنوشي عجز عن إدانتهم، وعوّم المسألة بفتحه تحقيقاً في الحادثة".
في المقابل، رأى الأستاذ في العلوم السياسيّة، صادق مطيمط، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ "العنف اللفظي والمادي والرمزي يعدّ في أعراف السياسة من ضمن شروط الانتقال الديمقراطي، وهو ظاهرة عادية، خصوصاً أنّنا لم نعتد بعد على تقبّل الرأي الآخر، كما أنّ تونس لم تصل بعد إلى مرحلة الفصل بين الشخص والفكرة".
وتداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، صوراً ومقاطع مصورة لحظة حدوث الاعتداء على بعض النواب، لفظياً ومادياً، مطالبين بحلّ البرلمان لوقف حالة الاحتقان النيابي المتصاعدة، وهي ليست الدعوة الأولى إلى حلّ البرلمان؛ إذ سبقتها عدة دعوات، أبرزها في حزيران (يونيو) الماضي، على وقع تصاعد خلافات بين مكوّنات الائتلاف الحاكم في تونس.
الرئيس على الخطّ
أحداث البرلمان أثارت حفيظة رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الذي بدا غاضباً حين استقبل النواب الذين تعرضوا للتعنيف من قبل نواب ائتلاف الكرامة في البرلمان، وشدّد في تصريح شديد اللّهجة على أنّ تونس فوق كلّ الأحزاب والاعتبارات و"لن نتركها لقمة سائغة لمن يريد إسقاطها من الداخل، في إشارة لنواب ائتلاف الكرامة".
وأضاف سعيد: "سنردّ بأكثر مما يتصوّرون، وبأكثر مما يتحمّلون، لإنقاذ الدولة التونسية من كلّ اعتداء على أمنها، ومن يتوهّم أنّه يُمكن أن يستعين ببعض الخونة والمجرمين، فإنّنا نعلم أنّهم يعملون في الخفاء، وسيدفعون الثمن في إطار القانون، وكلّ واحد منا سيتحمّل مسؤوليته كاملة أمام القانون".
اقرأ أيضاً: حركة النهضة التونسية تُصعد من مناوراتها لإرباك العمل الحكومي
كلمة الرئيس، بدورها، تبعتها عدّة تعليقات، خصوصاً أنّه "اعتاد التصعيد اللّفظي منذ توليه الرئاسة، دون تدخّل فعلي، في كلّ المسائل التي تحدّث عنها، إذ عدّها النشطاء مجرّد خطوةٍ هدفها تسجيل نقاط سياسية، ولن تحلّ الأزمة، لأنّها لن تُتبع بأيّ إجراء".
ويلفت في هذا السياق، المحلّل السياسيّ، جمعي القاسمي، إلى أنّ الرئيس يواصل نهجاً سياسياً لا يتماشى مع السياق العام الذي تحتاجه البلاد، معتبراً أنّه لم يلتزم ببقائه على المسافة نفسها من كلّ الأطراف، حين استقبل طرفاً دون آخر للتنديد بالعنف البرلماني، بالرغم من أنّ الحق العام يدعو إلى محاصرة ائتلاف الكرامة، وهو بذلك لعب دور المفرّق عوض أن يكون الجامع لكلّ الأطراف السياسيّة".
ويعتقد القاسمي، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ المكانة الحالية لقيس سعيّد لا تخدمه كرئيس في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ تونس، في ظلّ تصاعد مستوى العنف السياسي، وخطر عودة البلاد إلى مربّع الاغتيالات التي عاشت على وقعها خلال السنوات الأولى من الثورة.