باحث مغربي يكشف لـ "حفريات" الأسباب الحقيقية لهزيمة الإخوان

باحث مغربي يكشف لـ "حفريات" الأسباب الحقيقية لهزيمة الإخوان


12/09/2021

أجرى الحوار: حامد فتحي

رغم أنّ هزيمة حزب العدالة والتنمية (البيجيدي)، الذراع السياسية للإخوان المسلمين في المغرب، كانت متوقعة، إلا أنّ أحداً لم يكن يتوقع أن يخسر الحزب 112 من أصل 125 مقعداً في مجلس النواب المغربي، ويحافظ على 13 مقعداً فقط، وبخسارة أمينه العام، سعد الدين العثماني، في الدائرة الانتخابية التي ترشح فيها، وبحسب الباحثين المغاربة؛ فإنّ ما حدث كان تصويتاً عقابياً من الناخبين للحزب الذي قاد الحكومة منذ عام 2011.

اقرأ أيضاً: المغرب يطوي صفحة العدالة والتنمية.. كيف تبدو ملامح المستقبل؟

ولم تأتِ رغبة العقاب بناء على الأيديولوجيا بل لإخفاق الحزب في إدارة الشأن العام من ناحية، وبيان زيف خطاباته التي يوظف الدين فيها من ناحية أخرى، ولمزيد من الفهم حول مجريات الحياة السياسية في المغرب، حاورت "حفريات" الباحث الأكاديمي والصحفي المغربي، نور الدين اليزيد، صاحب عدّة أوراق بحثية حول تجربة الإسلام السياسي في المغرب.

هنا نصّ الحوار:

كنتَ توقعت، قبل الانتخابات، الهزيمة الثقيلة لحزب العدالة والتنمية، الذراع السياسية للإخوان المسلمين في المغرب؛ فعلامَ بنيت هذا التوقع؟

لا نزعم أننا منجمون أو نقرأ الطالع لمستقبل الناس؛ إنما هي معطيات ومؤشرات كانت متوافرة على أرض الواقع، وفي المشهد السياسي المغربي؛ حيث إنّ حزب العدالة والتنمية، ذا التوجه الإسلامي، وطيلة عقد من الزمان، من إدارته للشأن العام بالمغرب، على المستوى الوطني (البرلماني)، وفيما يتعلق بالمجالس المحلية، بما في ذلك مجالس أكبر المدن بالمملكة، لم يظهر، في كثير من الأحيان، وفي الغالب، حتى نكون منصفين، إلا ما لا يخدم مصالح المواطنين.

اقرأ أيضاً: موت الأيديولوجيا: نهاية تجربة العدالة والتنمية المغربي

وكان واضحاً جداً أنّ البرنامج الانتخابي، والعرض السياسي الذي قدمه قادة هذا الحزب للمواطنين المغاربة، منذ زحف ما سمي بـ "الربيع العربي" على المنطقة، كان عبارة عن أمانٍ وآمال، هي صلب ما تتطلبه الحياة الكريمة للأشخاص، لكن، وبعد مرور الوقت، وسنة بعد سنة، كان المواطنون يكتشفون أنّ كلّ ما وعدهم به هذا الحزب من وعود لا يرون لها أثراً على أرض الواقع.

وفي المقابل، كانوا يلمسون بوضوح مدى ازدواجية خطاب قادة الحزب الإسلامي هذا؛ إذ كان جلياً أنّ ما يزعمون أنّها مرجعية دينية، هي مجرد شعار لدغدغة عواطف الناس ومشاعرهم، بالنظر لِما تحمله رمزية الدين لدى غالبية أفراد المجتمع من قيمة جليلة في معتقدهم وثقافتهم.

 وإذا كان الحزب قد استمر في تزعمه المشهد السياسي بالمغرب، في الانتخابات السابقة، أي عام 2016، فهذا لأنّ المشاركة السياسية للمغاربة لم تكن على ذلك المستوى، أو في الزخم الذي يستطيعون معه إسقاط الحزب، خاصة في ظلّ إقبال مناضلين ومتعاطفين مع الحزب وأفراد عائلاتهم على إنقاذه من السقوط وقتها بتوجههم المكثف للتصويت. لكن، وباستمرار الحزب في سياساته اللاشعبية، التي لا تخدم المواطنين بقدر ما تثقل كواهلهم، بسنّ سياسات تقشفية، سواء من حيث ارتفاع الضرائب وتوسيع أوعيتها، ورفع الدعم عن عديد من المواد الحيوية، ازداد غضب الناخبين وكبرت لديهم الرغبة في معاقبة هذا الحزب وقادته، فسجلت شريحة مهمة من الشباب، في السنة الأخيرة تحديداً، بحسب معطيات رسمية صادرة عن مندوبية التخطيط والإحصاء، أسماءها على اللوائح الانتخابية، وهو ما رفع حجم الكتلة الناخبة، فتضافرت جهود الغاضبين وزاد وزنهم، وأقبل الجميع على صناديق الاقتراع، بهدف واحد ووحيد، هو التخلص من "الحزب الإسلامي"، ولا شيء غير ذلك، ولا يهمّ من سيكون البديل.

 إنّه غضب الناس، أكبر مؤشر كان بارزاً وظاهراً قبيل الانتخابات، ويستطيع أيّ كان أن يلمسه، إلا الذين يريدون إخفاء الحقائق وطمسها.         

كثيراً ما كتبت عن الاستعلاء من قبل العدالة والتنمية باسم الدين وادعاء الطهرانية على عموم الشعب المغربي، على الرغم من تناقض الممارسة مع الادعاء، ما معنى ذلك على وجه التحديد؟

صحيح، وهذا بالمناسبة هو أخطر عنصر يمكن أن يميز أيّاً من السياسيين، عندما يكون هناك تناقض بين الخطاب والممارسة لديهم؛ وعندما يتعلق الأمر بخطاب يمتح من معين المقدس من الدين، من أجل برامج سياسية، وأحياناً، من أجل مآرب شخصية أو لفائدة جماعة معينة تزعم التفرد على الناس والتميز عنهم، برمزية دينية مثلاً، هذا المعطى هو ما جعلني أعمل جاهداً، سواء في كتاباتي الصحفية، أو من خلال أبحاثي العلمية والأكاديمية، التي بالمناسبة نواصل مشروعنا بصددها، بالبحث عميقاً في الازدواجية بين الخطاب والممارسة عند السياسيين عموماً؛ أعمل من أجل كشف أسبابها ودواعيها؛ وإذا كان السياسي عموماً يستغل في أجنداته الانتخابية مبادئ وأفكاراً واقعية وموضوعية، حتى إن اختلفتَ معها وانتقدتها، للترويج لبرامجه المؤسسة على حاجيات ومطالب الناخبين الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، لكسب التأييد لبرامجه هاته والوصول إلى مراكز تدبير الشأن العام، وأيضاً إلى مناصب صناعة القرار؛ فإنّ الأمر، وكما اتّضح لنا بالملموس كمتتبعين، يكتسي خطورة قصوى، عندما يكون الفاعل السياسي هو هذا "التيار الإسلامي"، الذي باسم الدين، للأسف، استطاع أن يجذب شريحة واسعة من الناس، الراغبين في التغيير وتحسين أحوالهم المعيشية إلى الأفضل قبل كلّ شيء.

أهم أسباب خسارة "الإخوان" رغبة المواطنين في التغيير، ومعاقبة حزب "بيجيدي" على سياساته اللاشعبية التي اكتوت بها جيوب ومعيشة شرائح واسعة من المغاربة

نحن هنا لسنا بصدد رفض الآخر، الذي يحمل توجهاً سياسياً مغايراً، وحتى محافظاً، لكننا -كمراقبين- من جهة، ضدّ الركوب على عنصر الدين، وهو شيء مقدس ومشترك بين غالبية المواطنين، من أجل كسب نقاط في ساحة سياسية، المفروض أن يتحلى فيها السياسيون ومختلف الفرقاء بحدود دنيا من شروط المنافسة العادلة والمساواة، وهو ما لا يتوافر عندما تلتجئ فئة معينة إلى تنصيب نفسها ناطقة باسم الدين بل وحامية له ومدافعة عنه.

ومن جهة أخرى، ومن منطلق البحث الأكاديمي، فإنّ هاجس الباحث وفضوله العلمي يجعلانه لا يتردد، بل مفروض فيه وعليه، أن يسلط الضوء وتحليل هذه الظاهرة السياسية القائمة على الاستغلال الفج لعنصر الدين، والذي يؤدي إلى اختلال في اللعبة السياسية؛ علماً بأننا جمبعاً نعرف أنّ الدول المتقدمة ديمقراطياً قد حسمت منذ القديم هذا الجمع بين عنصرَي الدين والسياسة، والتاريخ يقدم لنا العديد من الشواهد، خاصة في التجربة الغربية، عندما أرغمت مختلف الأنظمة الكنيسة على الابتعاد عن ممارسة السياسة والتفرغ لشؤونها الدينية التعبدية المحضة.

اقرأ أيضاً: المغرب: أخنوش يبدأ بتشكيل حكومته... والإخوان يعقدون دورة استثنائية لتقييم الانتخابات

من هذا المنطلق، أجدني متحمساً، وأنا فخور بذلك، لفضح (كإعلامي)، ولتوثيق (كباحث)، هذه الازدواجية في الخطاب، خاصة عندما ترى بالعين المجردة التناقض الصارخ بين الخطاب والواقع، على الأقل كما وقفتُ، وكثيرون مثلي، على شواهد موضوعية ودلائل قاطعة في التجربة المغربية مع حزب العدالة والتنمية، تبرز إلى أيّ مدى وصل الزعم بطهرانية غير موجودة إلا في الخطاب، والاستعلاء على باقي الناس غير المنتمييم لجماعتهم، دافعه بالأساس هو تحقيق مكاسب سياسية، بل ومغانم ريعية مادية، باستغلال سيئ وذميم لقيمة ورمزية الدين.

وهل كان لهذه الاعتبارات دورٌ في التصويت العقابي الشعبي ضدّ الحزب؟

أكيد، كان لهذا التوجه المتناقض لدى حزب العدالة والتنمية دور مهم، بل وحاسم، في تصويت الناخبين عقابياً ضده؛ فلا يمكن لأحد أن يقنع الناس بأشياء ويقدمها لهم في لبوس ديني، إلا لفترة وجيزة، لأنّ المواطنين، حتى البسيطين منهم، من السهل عليك أن تنال موافقتهم وإقناعهم عندما تستغل ورقة الدين، لكن من الصعب عليك، وربما من المستحيل، أن تسلَم من ردة فعلهم القوية، ومن غضبهم عندما يكتشفون زيف ادعائك؛ هذا ما حصل في التجربة المغربية، وهذا ما بات حديث الناس في الشارع والمجالس الخاصة وبين أفراد الأسر.

أخفق البيجيدي في إدارة مرحلة الترشيحات للانتخابات التشريعية والجماعية والمحلية، وشاعت اتّهامات بين الأعضاء عن الكولسة في اختيار المرشحين؛ فلماذا وقع الحزب في هذه المخالفات الكبيرة التي أغضبت القواعد الشعبية؟

هناك حقيقة لطالما ظلّ قادة الحزب يخفونها عن الرأي العام، هي أنّ التنظيم يعيش غلياناً داخلياً، ويتم تصريف ذلك إعلامياً على أنّه من سمات الديمقراطية الداخلية والاختلاف بين أعضاء الحزب، وما إلى ذلك، لكن بعد الهزة والرجة التي مني بها الحزب في انتخابات 2021، بدأت مثل هذه الصراعات تطفو إلى الواجهة، وإن كان المتابعون للشأن السياسي على علم بمثل هاته الصراعات، العنيفة أحياناً، التي ظلت مؤججة داخل الحزب، على الأقل منذ ما سمي بالاحتباس السياسي الذي أعقب انتخابات 2016، وفشل، أو أفشِل، فيها زعيم الحزب ورئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، في تشكيل حكومته حينئذ، ليُبعد الرجل ويستبدَل بخلفه سعد الدين العثماني بعد نحو ستة أشهر من الجمود.

وقتئذ ظهر جلياً أنّ هناك معسكرين؛ الأول انتصر لبنكيران ودعمه لمواجهة بعض الأحزاب التي فرضت عليه شروطاً معينة للتحالف معه، وربما كان ذلك بإيعاز، أو على الأقل، برضا السلطة، في إطار اللعبة السياسية المتعارف عليها في عديد النظم السياسية.

وهناك معسكر ثانٍ وقف إلى جانب إبعاد بنكيران المثير للجدل، ودعم العثماني، وهو الجناح الذي سمي "جناح الاستوزار".

اقرأ أيضاً: المغرب: هزيمة العدالة والتنمية ووصايا هيلاري كلينتون

هذا الوضع أثر كثيراً في البنية الداخلية للحزب، وفاقم التأزم التنظيمي لديه، حتى إن استطاعت القيادة إخفاءه وتطويقه، وهو ما أثر بشكل واضح في منح التزكيات؛ إذ كان ضرورياً وطبيعياً أن يكون اتجاه ولاء الأعضاء لهذا المعسكر أو ذاك حاسماً في إمكانية منحه التزكية لخوض الانتخابات من عدمها.       

كيف أثرت الكولسة والاستقالات في أداء الحزب في الانتخابات؟

لا أظنّ أنّ ذلك أثّر في أداء الحزب في الانتخابات، وكمتتبع رأيت مختلف الحملات الانتخابية لمختلف الأحزاب، ربما باستثاء حزبين أو ثلاثة؛ فإنّ حزب العدالة والتنمية كان هو رابعهم، أو أحد أحزاب مجموعة من خمسة في الغالب، كلها قادت حملة انتخابية قوية وكان أداؤها معتبراً، رغم ظروف أزمة وباء كورونا.

الذي يستطيع تقييم وتفسير التغير الدراماتيكي من رقم 125 مقعداً برلمانياً عام 2016، إلى رقم 13 مقعداً فقط عام 2021، شيء يسمى الفشل

وهناك أيضا معطى آخر يجب الإقرار به، وهو صرامة التنظيم وانضباط المناضلين في الانخراط في حملات مرشحي الحزب الانتخابية، وهو عنصر حاسم ظل الحزب يراهن عليه في كلّ الاستحقاقات.

 الأمر يتعلق، إذاً، بغضب الناخب، ورغبته في إبعاد هذا الحزب عن التسيير، وليس بمعطى داخلي أو تنظيمي.

كان البيجيدي يخشى القاسم الانتخابي الجديد، لكنّه لم يذكره بأيّ شكل خلال الفترة الماضية، واليوم يتحدث الحزب عن شمّاعة المال الانتخابي؛ ألا يعدّ ذلك وصاية من الحزب على الشعب وخياراته؟

هذا أيضاً جانب من الازدواجية في الخطاب، والتي لا تقل عن ازدواجية الدين والممارسة.

 طيب، الحزب يتحدث عن احتمال أنّ مثل هذه العناصر أثّرت في اتجاه الناخبين، وفي توجيههم للتصويت ضده؛ أليس الحزب هو من يقود الحكومة؟ ألم تمرّ القوانين الانتخابية، التي جاءت بما سمي القاسم الانتخابي الجديد، عبر المجلس الحكومي الذي يترأسه السيد سعد الدين العثماني، قبل أن تعبر عبر البرلمان، الذي من المفترض أنّ حزبه يقود أغلبية بداخله تستطيع إسقاط مثل هاته القوانين؟

صحيح أنّ مكونات من التحالف الحكومي صوتت لفائدة هذه القوانين، لكن أليست الموضوعية والمصداقية كانت تقتضي من الحزب أن يتخذ موقفاً صارماً وحاسماً، من قبيل إعلان الاستقالة من الحكومة مثلاً؟ ! وهو ما كان سيمنح مصداقية لدى المواطنين، كانت ربما ستجنبها السقوط المدوي الذي حدث يوم 8 أيلول (سبتمبر)، وما ينطبق على مسألة القوانين الانتخابية التي تم تمريرها في عهد حكومة العثماني، والتي رغم كلّ الجدال الدستوري الذي رافقها، وكونها ليست دستورية، وحتى إن أجازتها المحكمة الدستورية، فإنّ الأمر هو نفسه بالنسبة لاستعمال المال الانتخابي غير المشروع؛ إذ كان بإمكان الحزب أن يتخذ موقفاً سابقاً من موقعه الحكومي والتشريعي، ويتصدى لذلك لكل ما يخول له الدستور من صلاحيات، لا أن يكون بمثل هذا الموقف الذي يخرج به اليوم، على شكل بكائيات، وكأنّ الحزب لم تكن له سلطة تنفيذية، وكأنّه كان في المعارضة؛ هذه مبررات لا يستثيغها ذو عقل.

اقرأ أيضاً: قراءة في نتائج الانتخابات المغربية.. سقوط آخر معاقل الإخوان

 صحيح أنّ هناك خروقات واستعمالاً للمال بطريقة غير شرعية، هنا وهناك، وهذا ما لا يستطيع أحد نفيه، وصحيح أيضاً أنّ تأثير القاسم الانتخابي كان واضحاً، لكن، على الأقل، فإنّ هذا العنصر الأخير كان سيصب في مصلحة الحزب كذلك، على اعتبار أنه يوزع مقاعد البرلمان على كلّ الأحزاب المتنافسة في الدوائر الانتخابية نفسها، بعد حصولها على قدر معين من الأصوات، وليس على أساس المشاركين في الاقتراع، وعندما نجد أنّ الحزب غاب بشكل رهيب في العديد من هذه الدوائر، من حيث النتائج، فلأنّه لم يحصل إلا على النزر القليل من أصوات المواطنين، وهذا يعني بالأساس أنّ المواطن هو الذي كان حاسماً، وليست عناصر أخرى كما يزعم الحزب، وهذا أيضاً ما بدأت بعض الأصوات من داخل الحزب تقول به، وتقرّ بأنّ التصويت كان عقابياً، رغم كلّ ما قيل عن وجود خروقات، ورغم دور القاسم الانتخابي الجديد.   

كيف تقيّم تجربة الحزب في السلطة خلال الأعوام العشرة الماضية من الناحية الاقتصادية والإدارية؟

الذي يستطيع تقييم وتفسير التغير الدراماتيكي من رقم 125 مقعداً برلمانياً عام 2016، إلى رقم 13 مقعداً فقط عام 2021، يستطيع تقييم تجربة حزب العدالة والتنمية، على كافة الأصعدة، خلال إدارتهم للشأن العام المغربي، وطنياً ومحلياً وجهوياً.

 لا توجد تجربة في نظرية سياسية، أو غير سياسية، تفسر مثل هذا النكوص، بغير مصطلحات الفشل والإخفاق، ومن دون تحفظ.

هل يملك البيجيدي فضيلة النقد الذاتي؟ وهل يستطيع إجراء تقييم ونقد ذاتي لاستخلاص دروس الهزيمة؟

للأسف الشديد وإلى هذه الساعة، ما يزال هناك تحفظ غير مفهوم وغير مبرر، من القيادة، يصب في اتجاه إجراء عملية نقد ذاتي موضوعي لما آلت إليه مكانة الحزب من خدش، وصل حدّ الاستبعاد من الرقعة السياسية الأساسية في المغرب، وحتى البيان الذي صدر الخميس من الأمانة العامة للحزب، وتحدث، في عبارة أقرب إلى "النقد الذاتي"، عن أنّ الحزب "يقدر المرحلة السياسية"، وهي العبارة الغامضة الحمّالة لأوجُه عديدة.

هنا يمكننا التحدث أيضاً عن عنصر الاستعلاء والتكبر والتجبر واللجوء إلى تلك "الأنا" المرضية، التي لطالما ميزت قيادات الحزب، وما تزال للأسف؛ فبالإضافة إلى أنّ الفقرة أو العبارة تريد فقط طمأنة القواعد والحفاظ على لحمة الحزب، والإيحاء بأنّ القيادة تتحمل المسؤولية وبجرأة، وهو ما كرّسته بإعلان كلّ أعضاء الأمانة العامة، بمن فيهم الأمين العام السيد العثماني، تقديم استقالتهم، فإنّ بيان الحزب يشي في كلّ الأحوال بغياب إرادة حقيقية لدى "العدالة والتنمية"، للمراجعة والنقد الذاتي، وكما هو معروف في السلوك السياسي، تحديداً في أدبيات علم الاجتماع وسوسيولوجيا السياسة، فإنّ رصد العلاقة بين أفراد المجتمع والمجال السياسي هو عنصر حاسم في أجندة السياسيين، لكن، للأسف، عندما يكون هدف فئة، أو نخبة، من السياسيين أدلجة المجتمع وأحياناً تدجينه، وفق معتقدات مستمدة مما يربط هذا المجتمع بخالقه وفق عقيدته؛ فإنّ تلك العلاقة تصاب باختلال وفقدان التوازن، لفائدة هذه الفئة على حساب باقي الفئات، ومن ثم لا تريد الفئة الأولى أن تتخلى عن ورقتها هاته ما دامت تحقق لها مكاسب جيدة في سياق التدافع والصراع السياسي.

هناك حقيقة لطالما ظلّ قادة الإخوان يخفونها عن الرأي العام، هي أنّ التنظيم يعيش غلياناً داخلياً، ويتم تصريف ذلك إعلامياً على أنّه ديمقراطية داخلية

هذا هو الهاجس الذي يسيطر على قادة حزب "بيجيدي"، والذي من الصعب التخلي عنه، حتى إن زعم بعض قادته أنّهم بصدد مراجعة ذاتية،د؛ إذ إنّ الأمر سيقتصر على إجراءات شكلية تمتص الغضب الكامن في نفوس الأعضاء، بعد الصدمة الحالية، ثم سرعان ما ستعود الأمور لطبيعتها، وهذا ما سيتضح عاجلاً أم آجلاً، إذ إنّ هاته القيادة، التي أعلنت استقالتها الخميس، ستعود إلى الواجهة عندما يلتئم ما يسمى المجلس الوطني (البرلمان) خلال هذا الشهر، ومن المحتمل جداً أن يعلن "تجديد الثقة" فيها، في انتظار عقد مؤتمر وطني سيأتي في الغالب بالوجوه نفسها، وهذا، برأيي، ليس مراجعة أو نقداً ذاتياً، ما دام لم ينصب على جوهر المشكل الذي جعل الرأي العام يعاقب الحزب في الانتخابات، وجعل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي يشنون هجوماً لاذعاً بأقذع النعوت ويتهمون الحزب بممارسة التضليل والتلبيس على الناس بين السياسة والدين.       

هل كان للسياق الإقليمي دور في هزيمة البيجيدي؟

ربما من المجازفة القول بذلك، وإلا لكان ما جرى في المغرب، في 8 أيلول (سبتمبر)، قد حدث قبل ذلك بكثير، على الأقل بالموازاة مع ما جرى في مصر والسودان وتونس بالخصوص، لكن أظن أنّ للتجربة المغربية لها خصوصيتها واستثناؤها؛ وبغضّ النظر عن الأنظمة القائمة؛ إذ إنّ هناك جمهوريات، والمغرب مملكة، ولو أنّ الملك يتمتع بصفة "أمير المؤمنين"، الذي يخوله الدستور بموجبها أن يكون "حامي حمى الملة والدين"، فإنّ التعددية السياسية بالمغرب، والتي لها جذور تاريخية عريقة، بالرغم من علّاتها، كان لها الدور الجوهري في قلب الموازين في الانتخابات الأخيرة، وبذاك الشكل الدراماتيكي، ولعل مثل هذه الرجة السياسية والعقاب السياسي، قد حدث بالمغرب سابقاً، مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كان في وقت من الأوقات لا يقل شعبية عن حزب العدالة والتنمية الآن، لكن عندما انخرط في تدبير الحُكم منذ سنة 1998، ورأى المواطنون أنه لم يأتِ بكل ما وعدهم به، عاقبوه بشكل كبير في انتخابات 2007، وبعد أن منحوه هو أيضاً ولايتين حكوميتين.

إذاً، المعطى الداخلي بالمغرب يبقى، في رأيي، الفيصل في انقلاب الجماهير ضدّ هذا الحزب.

كيف اختلف أداء الأحزاب الكبرى في هذا الاستحقاق الانتخابي عن الدورات السابقة؟ وهل ساهمت عوامل مرتبطة بهذه الأحزاب في تصدرها الانتخابات؟

هناك أحزاب استفادت من أخطاء مشاركاتها سابقاً في الحكومة، وعلى سبيل المثال "الاتحاد"، كما تحدثتُ لتوي، وبعد أن دفع الثمن غالياً، منذ سنة 2007، ها هو قد بدأ يسترجع عافيته ويحقق نتائج لا بأس بها؛ وكذلك الشأن بالنسبة للحزب الوطني الأعرق بالمغرب، حزب الاستقلال، الذي يبدو أنّ استبعاده من المشاركة في الحكومة عام 2016، كان مفيداً له بشكل كبير؛ إذ كانت له فرصة لتغيير قيادته، وتنظيم صفوفه، فاحتل في انتخابات 8 سبتمبر المرتبة الثالثة، وعاد بقوة للساحة. ولا نستثني حزب "التقدم والاشتراكية" الذي يبدو أنّ خروجه هو الآخر هو من الحكومة، قبل انتهاء ولايتها، قد صبّ في صالحه، حيث مارس المعارضة منذ نحو ثلاث سنوات، حتى وهو داخل الائتلاف الحكومي.

إذاً، على عكس ما يراه البعض من أنّ الممارسة السياسية في صفوف المعارضة قد تؤثر في التنظيمات السياسية وتضعف وهجها، فإنّها قد تكون في صالحها؛ بأن تكون مناسبة لقراءة موضوعية للذات والواقع، والانفتاح على مزيد من الشرائح المجتمعية، وتحشيد أعضاء جديدين؛ لأنّ هذا الوضع يتيح لها أن تكون ذات مصداقية أكثر، حيث يتم التركيز بالأساس على الاستقطاب من أجل العمل السياسي، وتلقين المواطنين أبجديات الفعل السياسي ومزاياه ودوره في الحياة العامة والمجتمع، وهذا ما يخدم بالنتيجة الأحزاب وتوفرها على كتلة ناخبة استقطبتها بالتأطير السياسي، وليس بتقديم الوعود التي تغلب على خطاب الأحزاب المشاركة في الحكومة، على حساب دورها الدستوري التأطيري.

لماذا حصد التجمع الوطني للأحرار صدارة الانتخابات؟ ماذا تغير في الحزب وسياسته ليحقق هذا النجاح؟

أولاً؛ لا يمكننا نفي حقيقة أنّ الحزب، ومنذ أزيد من 20 سنة، ظلّ يحتل المراتب الأولى، وبعدد مقاعد نيابية محترم، وهو ما بوّأه للمشاركة في معظم الحكومات خلال هاته الفترة، ولو أنّه يوصف بأنّه من الأحزاب المقربة من السلطة، ويكفي كمؤشر على ذلك أن يكون رئيسه، السيد عزيز أخنوش، أحد المقربين المعروفين من القصر، لكنّ هناك عنصرَين حاسمَين تدخّلا ليحصل هذا الحزب على المكانة التي حصدها في اقتراع الأربعاء الماضي:

 أول تلك العناصر وأهمها؛ رغبة المواطنين في التغيير، ومعاقبة حزب "بيجيدي" على سياساته اللاشعبية التي اكتوت بها جيوب ومعيشة شرائح واسعة من المغاربة، والبحث عن التغيير يقتضي أن يكون هناك بديل قادر على المقارعة والمنافسة، وهذا يحيلنا إلى العنصر الثاني؛ وهو توجه الرأي العام؛ حيث إنّ الحملة الانتخابية القوية التي قام بها حزب "الأحرار"، مستغلاً بالخصوص فضاءات الإعلام الجديد، ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى فحوى ومضمون برنامجه الانتخابي، الذي صيغ بشكل ذكي، وربما بإيعاز من بعض الأطراف في السلطة؛ إذ جاء متلاقياً ومتقاطعاً بشكل كبير مع بنود النموذج التنموي الجديد، الذي صاغته لجنة ملكية واشتغلت عليه منذ ما يزيد عن السنتين، قبل أن تصدر توصيات أعطيت التعليمات بشأنها من رئيس الدولة مباشرة وسيشرف على تنفيذها الملك شخصياً، وتهتمّ بالأساس بالجانب الاجتماعي والاقتصادي من حياة المواطنين؛ كالتعويضات الشهرية لبعض الفئات المجتمعية، والزيادة في أجور الموظفين، وتقوية المقاولات الصغيرة والمتوسطة، ..إلخ.

اقرأ أيضاً: محطات لافتة رافقت نكسة "الإخوان" في المغرب

قلت، هذه المعطيات جميعها تضافرت من أجل تشكيل قناعة لدى الناخبين، والتصويت على هذا الحزب، حتى إن راودتهم شكوك حول مدى إمكانية تنفيذ كلّ تلك الوعود، المهم بالنسبة إليهم هو أن يساعد صوتهم في فوز هذا الحزب المرجح والقادر على طرد حزب "بيجيدي"، وهذا هو التصويت العقابي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية