"امرأة بمئة رجل".. هل هو مدح لها؟

"امرأة بمئة رجل".. هل هو مدح لها؟


19/07/2022

كثيراً ما نقرأ على المنصات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي قصصاً للنجاح، أما ما يلفت النظر ويعلق في الذهن منها فهو ما يتعلق بإنجاز امرأة أو مجموعة نساءٍ، أما قصة الرجل الناجح أو الشاب فتمر من أمامنا، في الغالب، مرور الكرام بحكم أنّها أمر "متوقع" لدى العقل الجمعي لا يجذب الانتباه "لكثرته"! واللافت للنظر أيضاً أن نقرأ إما تعليقاً أو ضمن المنشور عن قصة نجاح المرأة بأنّها بـ"مئة رجل"؛ فهل الرجل هو المثل الأعلى للنجاح؟

الإنسان لم يولد "رجلاً أو امرأة"؛ إنما يولد "ذكراً أو أنثى"، حسب التعريف الجنسي، أو الطبيعة البيولوجية، وكل منهما يحمل في جيناته الخصائص الطبيعية للآخر؛ أي إنّ الذكر يحمل خصائص أنثوية، والأنثى تحمل خصائص ذكورية، والمجتمع هو من يجعل منهما "رجلاً وامرأة"، من خلال توزيع الأدوار والمهام الاجتماعية، حسب الموروث الاجتماعي التقليدي السائد (المرأة للإنجاب والأعمال المنزلية، والرجل للعمل خارج المنزل) فليست كل أنثى امرأة، لكن كل امرأة هي أنثى، وليس كل ذكر رجلاً، لكن كل رجل هو ذكر.

من الصعب الاطمئنان إلى خطاب مناصرة المرأة والاعتراف بتساويها مع الرجل إلاّ في الحدود الدنيا

إنّ الفروق الاجتماعية التي يفترضها المجتمع بين النساء والرجال، ليست مبنية على الفروق البيولوجية أو الجنسية، هذه الفروق تعزز الثقافة التقليدية الاجتماعية بالفروق المورفولوجية (الفروق في الشكل) بين المرأة والرجل، لتبرير التمييز الجنسي، الذي لا يختلف عن التمييز العرقي أو الإثني أو القومي أو الديني – المذهبي أو الطائفي، من هنا انبثق مفهوم "الجندر" أو النوع الاجتماعي لتخليص المجتمعات من تلك النظرة التقليدية؛ لذلك يندهش المجتمع بنجاحات النساء على أنّها نجاحات غير متوقعة أو طفرة، حسب النظرة العامة والسائدة للمرأة على أنّها الأدنى منزلة من الرجل.

لقد اعتبر ابن رشد (1126 – 1198) وضع المرأة في أي مجتمع معياراً لقوة المجتمع أو ضعفه، وأنّ المرأة والرجل يشتركان في النوع والطبع والكفاءات الذهنية والعملية، وإن اختلفت عنه في بعض الخصائص والوظائف. وعزا حالة التردي التي كانت تعيشها النساء في المجتمعات العربية المسلمة آنذاك إلى "تصورات خاطئة موروثة من ثقافة قبلية أبوية تحرم المرأة من اكتساب الفضائل والمهارات بالتعلم الجاد والعمل الخلَّاق. وخلص إلى أنّ تغيير هذه الوضعية البائسة يقتضي تغيير تلك التصورات الخاطئة والمتحيزة ضد المرأة، والتي لا بد أن تورث المجتمع كله ضعفاً مادياً ومعنوياً، نظراً لكون النساء يشكلن أغلبية المجتمع".
المؤسف أنّ الوضع لم يتغير، منذ أيام ابن رشد، إلا تغيرات طفيفة وفي أوساط اجتماعية وثقافية محدودة. ومن الصعب الاطمئنان إلى خطاب مناصرة المرأة والاعتراف بتساويها مع الرجل، إلاّ في الحدود الدنيا؛ لأنّ الأوساط المتعلمة والمستنيرة عندنا تقدمية بالجملة ومحافظة بالمفرّق أو بالتجزئة.

الدهشة لنجاح المرأة ووصفها بـ"مئة رجل"؛ وقد تزيد النسبة أو تنقص، هو تذكير رمزيّ للمرأة، لا تستطيع أن تكون ناجحة بدون أن تتصف بصفات الرجل أو تُقارن به زيادةً أو نقصاناً، وهي محاكاة لنموذج الرجل واقتصار مفهوم النجاح على نجاحه، وهذا أيضاً ما تظنه النساء، فيجعلن من أنفسهنّ نساءً قابلات للتذكير الرمزي، والتنكّر لأنوثتهنّ؛ أي لمحاكاة نموذج الرجل، والتماهي به، من جراء استبطان السلطة الأبوية في المجتمعات الذكورية، إضافة إلى اختزال حرية المرأة واستقلالها ومساواتها بالرجل في قدرتها على القيام بما يقوم به الرجل من أعمال وبكل ما توكل إليه من مهمات. وهذا معيار دارج لدى بعض الحركات النسائية، تحت شعار: أنا أستطيع ..

وصف المرأة أنّها بمئة رجل تذكير رمزيّ لها أنّها لا تستطيع أن تكون ناجحة بدون أن تتصف بصفاته

وللثقافة التقليدية أثر لا يقل عن أثر السلطة الأبوية في عمليتي المحاكاة والتماهي. وحسب المفكر السوري جاد الكريم الجباعي "إنّ محاكاة نموذج الرجل، على نحو ما ترسمه كل امرأة في ذهنها، يقصر معنى المساواة على المقدرة؛ أي على "التساوي"، بل التكافؤ، في القدرات العضلية والذهنية، ولا يتعداها إلى التساوي في الفرادة الوجودية والكرامة الإنسانية والمكانة الاجتماعية والأهلية القانونية". الأنوثة ليست ميزة للمرأة بعد، مثلما الذكورة ميزة للرجل، ولا تمنحها أي قدر من الذاتية والخصوصية وأي حق في امتلاك ذاتها، وتوجيه حياتها الوجهة التي تريد، لذلك يكون نجاح الرجل أمراً طبيعياً، ونجاح المرأة أمراً مستهجناً.
الهوية الجنسية، التي تحمل سائر العناصر الأخرى للهوية الفردية والجمعية، فتحدد معالم الذات، ليست من منشأ بيولوجي فقط؛ بل تتضافر في تشكيلها عوامل بيولوجية وفسيولوجية فطرية ومكتسبة، وعوامل غريزية لاشعورية وأخرى معرفية واجتماعية وأخلاقية.
ويمكن أن يعزى جانب من الحياة النوعية للأفراد أو مستوى من مستوياتها إلى المستوى اللاشعوري ومحتوياته الطبيعية أو الغريزية، التي تؤثر في العوامل المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، وتتأثر بها، ولكنها تعزز طابعها النوعي، في جميع الأحوال. ومن ثم فإنّ ما هو نوعي في الحياة الإنسانية مؤسس في المستوى الطبيعي أو الغريزي؛ فنماذج الإدراك البدئية والأنساق الطبيعية، التي تجاوزتها البشرية المتمدنة، تظل راسبة في اللاشعور أو اللاوعي، ويمكن أن تتسرب إلى الوعي في ظروف معينة، كالتي تحيط بنا اليوم؛ إذ يشعر الأفراد أنّ حياتهم مهددة بالخطر في كل لحظة.

للثقافة التقليدية أثر لا يقل عن أثر السلطة الأبوية في عمليتي المحاكاة والتماهي

فإذا نظرنا إلى التطور التاريخي للمرأة، نراه يمر بكثير من مراحل التمييز والاستغلال، التي كرّست خضوعها وتبعيّتها للرجل، وإن كانت قد قامت حركات تحررية تطالب بتحرر المرأة من جميع أشكال التمييز والاستغلال والعنف، ونيل حقوقها أسوة بالرجل، إلاّ أنّ المرأة لا تزال تعاني مرارة النظرة الدونية إليها، في كثير من المجتمعات، المتقدمة منها والنامية؛ فالمجتمع العربي يمنُّ على المرأة بمقولات ذكورية محضة (المرأة نصف المجتمع.. المرأة زوجة وأم وأخت...الخ) تزيد من إخضاعها وولائها وتبعيّتها وامتنانها للمجتمع الذكر، والزوج الذكر والأب والأخ الذكر، وتدفعها إلى الانضواء تحت عباءة الذكورة والاحتماء بها.
وقد أخذت المرأة نفسها تتصالح مع هذا الولاء فتمارسه على نظيراتها من النساء، أو في تربيتها لأبنائها، وبناتها خاصة، فتمنح الصبي ذكورة مبكرة، وتعلم الفتاة ولاءً أعمى للذكر الصغير، وقد تطرق إلى هذا الموضوع الكاتب الأفغاني، خالد الحسيني، في روايته "ألف شمس مشرقة"، وبين كيف تنتقم الأم من زوجها غير الشرعي عن طريق التنكيل بابنتها، وتعنيفها جسدياً ولفظياً.
المرأة البصيرة لا ترضى بالموازنة القائلة: "المرأة الناجحة بمئة رجل" فهو تمييز ظالم للنساء والرجال، ظالم للمرأة بإسقاط صفة الذكورة على أنوثتها، وظالم للرجل بتخفيض إنسانيته إلى 1% من امرأة ناجحة. الإنسانية صفة لا تقبل التفاوت، فلا تفاوت في الإنسانية، المرأة الناجحة هي التي تختار عملها اختياراً حراً، وتؤديه بإتقان، بحسب استطاعتها، والرجل الناجح كذلك.

مواضيع ذات صلة:

"النسوية".. المرأة الغربية ماتزال تعاني التمييز

ماذا تعرف عن يوم المرأة الإماراتية؟

السعودية تنتصر للمرأة: لا قيود على السفر

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية