هشام اليتيم
ليس من الصعب اتهام "النباتية" بكثير من التهم، أولها أنها حركة غير شعبوية على رغم قدمها، فجذورها تعود إلى القرن الخامس الميلادي في أقل تقدير، ومع ذلك لا تتجاوز نسبة النباتيين في العالم 2.5 في المئة، والأهم من ذلك أن فكرتها الأساسية نبعت من تقاليد وتعاليم شخصية ومغايرة للحداثة فكرياً، لذلك تعاملت معها الحضارة الجديدة بعد القرن التاسع عشر من منظور طبي محض، بمعنى أنها قيّمتها من خلال منظور مختلف عن المنظور التاريخي الذي قامت عليه، لذلك توصف بأن بناءها وتشكيلها تاريخياً يشبهان إلى حد بعيد بناء حركات دينية انعزالية فصلت ذاتها عن المجتمع، واستغرقت في فكرة واحدة لها ملابسات كثيرة، مما جعل فهمها للأشياء والكائنات سطحياً وساذجاً لا يتأمل جيداً في علاقة الإنسان مع محيطه.
فعلاقتها الغريبة مع الغذاء من حيث تحريم أكل لحوم الحيوانات وكل منتجاتها دون بقية الكائنات الحية يعد من وجهة نظر أخرى تعصباً جندرياً خالصاً، أنجز بناء على مشاهدات بصرية رصدت التشابه مع أجناس معينة بيولوجياً والاختلاف جندرياً مع أجناس أخرى لم تؤخذ قيمتها الحقيقية وفق المنظور ذاته، مما جعل كثيرين يقولون إن هذا المنظور الانتقائي في اختيار الطعام لا يبرره حقيقة سوى حال من الترف الكامل، الذي جاء نتيجة إفراط هذه الطبقة الثرية من الناس بالرفاهية، في مقابل وجود شريحة واسعة جداً من الناس في أنحاء من العالم لا يشاهدون اللحوم على مائدة الطعام إلا في الأعياد والمناسبات السعيدة، نظراً إلى ارتفاع أسعارها.
فالنباتية هنا تضع التشابه مع المخلوقات، وعلى رأسها التشابه الظاهري الكبير جسدياً بين الإنسان والحيوان، ذريعة لتبرير سلوك شخصي من دون التعمق في دلالات وأبعاد هذا السلوك الذي يدين ضمنياً آخرين، لكن الاتهام الذي قد يختصر كل شيء، والذي يوجه دائماً للنباتيين هو وصفهم بالنخبوية المفرطة، من حيث كونهم يطبقون نظاماً مشوهاً فكرياً، لكنه مع ذلك يتعالى على من حوله، ومن ثم يدعي التحضر والتمدن أكثر من الآخرين، وليس ذلك إلا لسبب وحيد وهو طبيعة ما يتناولونه من طعام.
النباتية في الحداثة
أكدت الحداثة للإنسان كونه ذاتاً عاقلة مبدعة، بالتالي لعب التحضر والتمدن دوراً جوهرياً في تحديد علاقتنا بالذوات الأخرى من حولنا، شجراً أو حجراً أو ماء أو سماء، فيما تربع الحيوان على رأس تلك الذوات (حتى انطلاق زمن الحداثة) بوصفه الأقرب لنا شكلاً وجوهراً، أو امتدادنا الطبيعي في الوجود.
هذه النظرة سهلت علينا فهم كثير من الروابط مع الأشياء، خصوصاً حين يتعلق الأمر بعاداتنا وقيمنا الغذائية، فإنسان الحداثة ينظر إلى نفسه على أنه أرفع بكثير من كونه وجبة لأحد، وفي المقابل أسهم تطوره هذا في رفضه اعتبار أية ذات مشابهة له وجبة للآخرين.
لكن هناك من يقول إن هذه النظرة تستبطن معنى غير دقيق، مفاده أن الإنسان يحتقر ما يؤكل عموماً وما يتغذى هو عليه خصوصاً، أو أن كل كائن أو ذات حوله تتحول إلى وجبة تكون بالضرورة نكرة لا قيمة لها، خصوصاً إذا مرت بلحظة القتل ولم تكن جثة هامدة قبل ذلك.
في تراثنا العربي هناك حوادث رسخت بشكل غير مباشر هذه الفكرة الخاطئة، ولعل أشهرها الحادثة الأسطورية المعروفة لآكلة الأكباد هند بنت عتبة، التي تروي بعض القصص أنها قضمت جزءاً من كبد حمزة بن عبد المطلب بعد قتله في إحدى المعارك كدليل على التحقير والازدراء، أي إنها جعلته في مقام البهيمة.
لكن ما هو غير دقيق هنا هو كون الإنسان البدائي مر فعلياً بمرحلة التغذي على الجثث البشرية لدوافع غير انتقامية، بل إنه مارس هذا الفعل من منظور معاكس تماماً، عاداً ذلك تكريماً لهم وتخليداً لذكراهم.
معنى ذلك أن "النباتية" التي تستبعد الحيوان فقط بكل منتجاته ومشتقاته (أحياناً) من قائمتها الغذائية المقتصرة على النباتات، لا ترمي بفعلتها تلك إلى رفع ذات الحيوان على ذات النبات أو تكريمه، بقدر ما تعبر باطنياً عن مكنون عاطفي وفكري ينحاز لجنس على حساب آخر، لأنه يختلف عنه شكلاً.
ومنذ "طرزان" البشري الذي أرضعته الذئبة وترعرع في كنف المفترسات وحتى يومنا هذا، توثقت علاقتنا بتلك الذات الناطقة أكثر من غيرها، حتى إن الإنسان يوصف بالحيوان الناطق، وقد أجاز لنفسه أن يعبر عن ذلك من خلال نسب أفضل صفاته لتلك الكائنات خصوصاً الرجولية منها، فقرن الشجاعة بالأسد، والوفاء بالكلب، والدهاء بالثعلب، والحرية بالطائر، وهذه الصفات بمجملها مرتبطة بالذكورة، بينما ذهبت صفات النباتات للأنثى، فهي لذيذة كحبة فراولة، وخدودها مثل التفاح، وثمارها عالية كعنقود عنب على دالية، وطويلة مثل نخلة، وغيرها من الصفات التي شملت كل أجزاء جسدها من منظور جندري سطحي لا عمق فيه.
من هذا نفهم أن التعامل مع النباتات تحديداً، ومع بقية الذوات الحية غير الذات الحيوانية عموماً، حدث بشكل سطحي لا أكثر، وأنه في مكنونه العميق يرفع فعلاً من قيمة كائن حي ويحط في الوقت ذاته من قيمة كائنات أخرى أكثر أهمية، ولكنها لا تشبهه شكلاً، وأخطر من ذلك أن هذا المفهوم ذاته ظهر عند قبائل آكلة للحوم البشر، ويقال إنها موجودة حتى يومنا هذا في الهند، وهي قبائل (الآغوري) التي تحرم على أتباعها أكل أبناء جلدتهم دون بقية الأجناس.
النباتيون الأوائل
خرج الإنسان في هذه المرحلة من نطاق الغابة الضيق، ومن كونه "وجبة" تلاحق غيرها من الوجبات، لكنه مع ذلك لم يحقق مفهوم الحداثة كلها، فحتى القرن الرابع الميلادي ظلت الحال على ما هي عليه، إلى أن خرجت مجموعات دينية تقطن الهند بمفهوم جديد حرم تناول لحوم الحيوانات، وأطلق على هؤلاء لقب النباتيين الأوائل، في حين تبلور هذا المفهوم في القرن التاسع عشر في بريطانيا بعد هجرة جماعات منهم إليها، وأصبحت "النباتية" على درجات ومذاهب، فمنهم "البيضيون" الذين يتناولون البيض فقط من مصدر حيواني، و"السمكيون" الذين يتناولون السمك فقط، ومنهم من خلط الأمرين، ومن تطرف أكثر وصولاً إلى اقتصار الغذاء كله على النباتات تحديداً.
لكن الحداثة لم تقر أياً من هذه الجماعات أو المذاهب فكرياً، وذهبت إلى اعتبار "النباتية" كلها مفهوماً علمياً بحتاً لا علاقة له إلا بصحة الإنسان، فرسمت بذلك التعريف أول خط تقسيم معرفي رئيس معتبر قطع بين زمنيين حاسمين هما زمن العلم وزمن الخرافة، لأن فكرة الربط بين الروحانيات والطعام بشكل مباشر فج أضرت هذه الفكرة أكثر مما نفعتها بكثير، خصوصاً عندما دخلت الأديان (كلها تقريباً) لتنظم هذه العلاقة المعقدة فمنحت بعض جزيئاتها البشرية الصرفة طابع التقديس، وتجلى ذلك من خلال مظاهر وسلوكيات عدة أهمها إقرار مبدأ الأكل الحلال والأكل الحرام الذي ورد في الإسلام والمسيحية واليهودية على حد سواء، ولكن ضمن تدرجات ومراحل تاريخية محددة.
النباتية والتدين
من المعروف أن هناك جماعات من الناس عبدت الحيوان قديماً وحديثاً، مثل عبادة البقرة والفأر والطاغوت وغيرها، وهؤلاء في الغالب نواة هذه الحركة النباتية ذات الجذور الدينية، فيما ربطت الأديان السماوية، مع أنها حرمت عبادة شيء غير الله، بشكل مباشر أيضاً بين العبادة والغذاء في مواضع معينة، مثل حرمة تناول لحم الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع، والنهي عن شرب الخمور لأنها تذهب العقل، إضافة إلى اعتبار الصوم عبادة رئيسة، والنهي عن الصيد في الأشهر الحرم، وغيرها من العادات التي أصبحت عبادات في الإسلام، وعلى شاكلة ذلك ربطت كل من المسيحية واليهودية الصوم بالامتناع عن كل أو جزء من الطعام لمدة من الزمن، ولأسباب ومسوغات علمية ونفسية وثقافية.
فالمسيحية ربطت طقس التناول كله بمفهوم الغفران، ورمزت له بتناول لقمة من جسد المخلص، كما قرنت بين شرب أنواع من النبيذ والعبادة ذاتها، لكن اليهودية ذهبت أبعد من ذلك من خلال مبدأ "الكوشر/ كشروت" إلى جانب مبادئ "بارف"، وهذان نظامان يقومان على عدم خلط أغذية بأخرى، وبشكل رئيس الحليب واللحم، ويصل هذا النظام في حياده أحياناً، وتشدده أحياناً أخرى، إلى درجة التدخل في تناول الأدوية والفيتامينات والمكملات الغذائية، حتى إن النباتيين يجب عليهم وفق "بارف" أن يمتنعوا عن أكل الخبز المعد على غير الطريقة اليهودية تلك.
هكذا أسهم التدين تاريخياً في نحت وصياغة مفاهيم من هذا النوع لتصبح نمط حياة يدعي التقدم، لكن بعض الناس يرون أنه تعامل مع المحيط والأشياء حوله بسطحية لا أكثر، فالغذاء في مفهومه البدائي الذي قام على الافتراس، والذي يوصف بالبهائمية، المتمثل بجعل علاقة الكائنات كلها قائمة على القتل من أجل الغذاء، قد يكون في جوهره أبسط من مفاهيم التطور عند الإنسان تحديداً، فهو يضع الحياة ضمن نطاق غير معقد لا يحتاج فيه المخلوق إلى البناء، كما أن مفهوم الافتراس على بشاعته يحصر تطور الكائنات في نطاق أضيق، وهو نطاق التطور ذاتياً بدلاً من تطوير الأشياء من أجل الاحتماء، وهكذا راكم الناس خبرات وتجارب طورتهم بشكل مباشر، خصوصاً في ما يتعلق بصقل غرائزهم وتقوية حواسهم بصرياً وعقلياً وجسمانياً.
مع ذلك لا تعد "النباتية" فكرة تقتصر على الإنسان وحده، فالحيوانات مارست هذه الفكرة منذ زمن بعيد، وليس هناك دليل قاطع على ارتباط القوة ومرتبة ذكاء الحيوان بطبيعة ما يؤكل نباتاً كان أم لحوماً، مع ذلك تمثل المفترسات أغلبية عظمى في عالم الحيوان، بل إن قوانين الطبيعة ذاتها تؤكد أن هناك كائنات نباتية تتحول بدورها إلى لاحمة، مما شكل تناقضاً مباشراً مع هذا الفكر، كما أن العالم الإنجليزي داروين، وهو أول من تحدث عن هذه النباتات التي تحولت من مزهرة إلى آكلة لحوم، أكد أن تطورها هذا حدث على مراحل عدة حتى وصلت إلى 12 جنساً، ووصل عددها إلى ما يقرب من ألف نوع.
عن "اندبندنت عربية"