لا يزال المنسف يشكّل السيد المهيمن على قائمة الطعام الشعبي الأردني سواء في المناسبات الاجتماعية أو في المطاعم العامة أو في المنازل، وقد اهتمت به كبرى المطاعم في الأردن فهو يرفض التنازل عن عرش أفضل الوجبات رغم انتشار الأكلات السريعة.
يعتبر المنسف أشهر وجبات بادية الشام الواقعة بين سوريا والعراق والأردن وفلسطين، ويعتبر الأردنيون، وخاصة في محافظة الكرك، الأشهر بإعداده، فهو عنوان لتعميق الروابط الأسرية والاجتماعية وإكرام الضيف.
وعلى الرغم من تسارع الحياة وانتشار الوجبات السريعة في الشوارع الأردنية وانشغال المرأة الأردنية بالعمل خارج البيت، إلا أن عشاق المنسف لا يتوقعون أن ينزل من عرش المائدة وخاصة يوم الجمعة وفي المناسبات.
ولإعداد المنسف طقوس خاصة بتجهيزه وتقديمه تختلف من منطقة إلى أخرى ومن مستوى اجتماعي إلى آخر، فهناك من يقدمه بلحم الضأن وآخرون يقدمونه بلحم الدجاج والأرز أو جريش القمح.
واختار أحد المواقع العربية المختصة بالطبخ المنسف الأردني في المرتبة الخامسة بين أفضل الوجبات التقليدية العربية التي يجب على العرب تجربتها، فجاء بعد المندي الأكلة الشعبية التي اشتهرت بها مدينة حضرموت في المرتبة الأولى، ثم الكبة الشامية والكشري المصري والكبسة الخليجية.
وتهتم بالمنسف كبرى المطاعم في الأردن مثل مطعم جبري الذي تفنن بطهيه للمناسبات الكبيرة على المستويات الرسمية والخاصة كدليل على أن المنسف سيظل الوجبة المطلوبة في الأردن.
ويقول الباحث في التراث نايف النوايسه إن للمنسف في الأردن مُعطى ثقافيا فضلا عن أنه الطعام الشعبي الأكثر شيوعا والأقدر على تمثيل الخصوصية الأردنية. ويحقق المنسف غايته “الشعبية والوطنية” حين يجتمع حوله أكبر عدد من الضيوف أو المدعوين أو أهل الدار، فهو تعبير عن الكرم العربي في الأردن وأسلوب حميم لجمع الناس وإحداث الألفة بينهم، وطريقة كريمة لإشباع الجياع من أبناء الحي أو البلد، بمعنى أنه جسر اجتماعي يتحقق منه التواصل وإزالة الضغائن والأحقاد، وتعليم الكثير من السلوكيات الحميدة كالنظافة وتوقير الكبار وتكريم الضيف وإصلاح ذات البين وإطعام الجائع والفقير.
ويضيف النوايسه أن المنسف طعام أردني معروف اكتسب شعبية واسعة بانتشاره في كل أنحاء الأردن، كما عُرف في الخارج وخاصة في دول الخليج مما أعطاه صبغة وطنية فغدا الطعام الوطني في الأردن، تماما كالأطعمة المعروفة في العالم مثل الهمبورغر والسباغيتي والكبسة والطاجين والتشريب والشاكرية والمسخن ونحو ذلك.
وبقي المنسف الأردني بحسب النوايسه أكبر في حقيقته من طعام يؤكل أو مناسبة اجتماعية عادية لا تلبث أن تنتهي، فهو مظهر اجتماعي حضاري يدخل في خصوصية الهوية الوطنية الأردنية لأنه يشكل سفارة ثقافية اجتماعية للأردن ويعبّر عن قيمه وسلوكاته الحضارية تعبيرا وافيا.
وحول مكوناته وطبخه تقول الحاجة أم محمد “كنا نحرص في مناسباتنا أن نعمل المنسف من اللحم البلدي وجريش القمح المعروف بـ’العيش’ وخبز شراك القمح البلدى والجميد إكراما للضيوف والأسرة، حيث يتجمع جميع أفراد العائلة لتناوله لأنه يوضع بسدر كبير يتسع لأكثر من ثمانية أشخاص يتوسطه رأس الذبيحة للدلالة على الكرم.
وتجهز الأسر الميسورة المنسف لإطعام أكبر عدد من أهل الحي وخاصة المرضى وكبار السن والنساء الحوامل لإدخال الفرحة عليهم في المناسبات تأكيدا للتآخي والتواصل والترابط الاجتماعي.
ويقول العارفون بسر طبق المنسف إن من أهم أسباب نكهته الجميد وهو العنصر الأساسي الذي يعطيه الطعم الذي لا يقاوم ، كما أنهم يؤكدون أن المنسف يجب أن يطبخ مع عشبة الحندقوق لأنها تعطيه السر الذي تحتويه أكلات أخرى.
والحندقوق بهار سحري ويطلق عليه حوايج السمن أيضا، وهو أحد النباتات العشبية، التي تتبع الفصيلة البقولية، ويتميز بأزهار عنقودية تميل إلى اللون الأصفر، وأوراقه مسننة تتفرق إلى ثلاث أو أربع أوراق، وسيقانه جوفاء فارغة، طوله يصل إلى نحو المتر، تتم زراعته في الأراضي الرملية، الطينية، المالحة، حيث تلقى بذوره في الخريف، لينمو في الشتاء و يثمر مع بداية الصيف.
أما الجميد فهو من منتجات الألبان المجففة التي تصنع من فصل الزبدة عن اللبن، أي تحول اللبن إلى ما يسمى “الشنينة” ليغلى بعدها على النار الهادئة قليلا لفصل الماء عن اللبن ثم يوضع في كيس من القماش الأبيض النظيف ويكبس بين حجرين حتى ترشح المياه من اللبن.
ويضاف إليه بعد ذلك الملح ثم يوضع في وعاء كبير ويعجن ويشكل على هيئة كرات، ثم ينشر فوق سطح المنزل تحت أشعة الشمس.
تقول أم ابتسام، ربة بيت، “إن الجميد مادة أساسية في طبق المنسف، فرغم صعوبة تحضير الجميد ورغم توافره لدى مصانع الألبان، إلا أن بعض النساء مازلن يقمن بتحضيره في بيوتهن محافظات بذلك على تراث الأجداد”.
ويضع الأردنيون شروطا يجدها البعض صعبة أثناء تناول المنسف، فمن العادات المعروفة عدم أكل المنسف بكلتا اليدين، واستخدام يد واحدة، هي اليمنى، مع وضع اليد اليسرى خلف الظهر، واقتصار اليد على ثلاثة أصابع وليس جميعها. ومن العادات التي تتعلق بالمنسف لدى بعض المناطق الأردنية، أن المضيّف لا يأكل مع ضيوفه، بل يظل واقفا يقوم على خدمة معازيمه وحثهم على الاستمرار في الأكل.
وعندما يكون رأس الخروف موضوعا على قمة سدر المنسف، فإنه لا يجوز أن يمد الضيف يده ليأكل قبل أن يأكل اللحم، فالأصل أن يأكل اللحم حتى يصل إلى الرأس.
ولأن طبق المنسف من الأطباق الدسمة إلا أنّ الجميد المصنوع من اللبن يجعله سريع الهضم، وكذلك شرب القهوة السادة تساعد على الهضم وعلى تقليل الدهون في المعدة.
ويشير التطور في مكوناته إلى مرونة محمودة ليتناسب مع كافة فئات المجتمع، فمن لحم الضأن إلى لحم الدجاج ومن الجميد إلى لبن الشنينة الذي أصبح يُصنّع حديثا ويباع في الأسواق بيسر، ومن خبز الشراك البلدي إلى جريش القمح إلى الأرز، ما يعني أن هذه الأكلة ستظل سيدة المطبخ الأردني.
يوضح أبوأحمد صاحب مطعم شعبي بالكرك أنّ طبق المنسف يبقى حاضراً على الدوام وعليه إقبال كبير من مختلف شرائح المجتمع الذين يفضلونه على العديد من الأطباق.
عن"العرب" اللندنية