لم يكن أحد يتوقع، عشية إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على طالبان، في تشرين الأول (أكتوبر) 2001، أن تكون النهاية بانتصار الحركة الأفغانية! فأمريكا، الدولة العظمى القوية، صنفت طالبان كحركة إرهابية ووعد القادة الأمريكيون بسحقها، على لسان رامسفيلد وديك تشيني وجورج بوش وقتها، واليوم؛ بعد سبعة عشر عاماً من الحرب، وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية؛ فإنّ الخسائر، بين كانون الثاني (يناير)، ونيسان (إبريل) 2015؛ مقتل حوالي 2000 جندي أفغاني، وحوالي 3400 جريح، وفاتورة باهظة التكاليف تصل إلى تريليون دولار، تحملتها الخزانة الأمريكية على هذه الحرب، وقرابة 2400 قتلوا قبل العام 2015، عندما سلمت القيادة الأمنية للقوات الأفغانية، التي تتراجع فعاليتها، وفقدت، هي الأخرى، 30 ألفاً في الأعوام الثلاثة الماضية، وأرقام الخسائر مرشحة للارتفاع مع تصاعد هجمات طالبان.
اقرأ أيضاً: من هم أعضاء فريق المفاوضات لحركة طالبان؟
أوفد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مبعوثه زلماي خليل زاد، الأفغاني الأصل، للالتقاء بممثلي حركة "طالبان الإرهابيين" في الدوحة، ليتفاوضوا معهم بمستوى الندّ للندّ! جاء اليوم الذي تسعى الإدارة الأمريكية فيه للسلام مع طالبان، وتخضع لكلّ شروطها، فكيف بدأت طالبان وكيف انهزمت؟ ومتى عادت من جيد؟ وكيف تحولت من فصيل مهزوم إلى فصيل يطلب الجميع مشاركته في مباحثات السلام؟ ولماذا المفاوضات الآن؟ وهل المطلوب السلام في أفغانستان لذاته، أم أنّ الإدارة الأمريكية تحاول توظيف هذه الحركة للقيام بدور ما لصالحها في المنطقة خصوصاً الصين؟
طالبان.. الصعود والهزيمة
كانت بداية ظهور طالبان على الساحة الأفغانية العام 1994، عندما أسّس الملا محمد عمر قوة من 1500 مقاتل من طلاب المعاهد الدينية، استولى بهم على إقليم قندهار، ثم ظهرت كقوة مناهضة لحكومة المجاهدين في كابل، وأعلنت هدفها؛ وهو استعادة الأمن والأمان للبلاد، وتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، واستمرت طالبان بالزحف حتى وصلت إلى كابول منتصرة، في 27 أيلول (سبتمبر) 1996، واقتحم عناصرها مقرّ الأمم المتحدة، وأعدموا نجيب الله، آخر الرؤساء الأفغان الموالين للاتحاد السوفييتي وقتها، بعد تحالفهم مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن الذي بايع الملا عمر.
بدأت طالبان بالنهوض مجدداً بعد استقطابها للآلاف وانتهاء مهمة حلف شمال الأطلسي في أفغانستان العام 2014
عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أعلنت الإدارة الأمريكية الحرب على طالبان، تحت مزاعم تسليم أسامة بن لادن، بصفته المحرض على العملية الإرهابية، وشنّ الجيش الأمريكي هجوماً ساحقاً على طالبان، أدى بعد شهرين إلى سقطوط الحركة، وهرب قادتها الكبار إلى أعالي الجبال وإلى باكستان، ودخلت قوات التحالف الدولي كابول، وأعلنت الإدارة الأمريكية قيام حكومة أفغانية وطنية مؤقتة، بقيادة حامد كرازاي، لكن ما لبثت طالبان أن بدأت بشن عمليات ضدّ القوات الحكومية الأفغانية والقوات الأمريكية المتواجدة في أفغانستان، بحكم سيطرتها على بعض المناطق الوعرة التي لم تتمكن القوات الأمريكية من التوغل فيها، لكن تقلصت أعداد مقاتلي طالبان في الفترة من 2005 إلى 2010، بشكل ملحوظ.
داعش تخلط الأوراق
تجدّد حلم إقامة "الدولة الإسلامية"؛ عندما أعلن تنظيم داعش نفسه كدولة إسلامية في العراق والشام، ثم منح أبو بكر البغدادي نفسه لقب "خليفة" يوم 29 حزيران (يونيو) من العام 2014، وغيّرت جماعته اسمها إلى "الدولة الإسلامية".
قبل هذا الإعلان كان تنظيم داعش يحظى بقبول من القاعدة وطالبان إلى أن حدث الصدام بين زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، وأبو بكر البغدادي، بسبب إصرار الأخير على التدخل في الحرب السورية، وضمّ تنظيم القاعدة هنا "جبهة النصرة"، تحت لوائه، فأصدر الظواهري أمره للبغدادييدعوه للامتثال بحقّ البيعة التي في عنقه للظواهري، فأعلن البغدادي أنّه خليفة المسلمين، وأنّ على الظواهري وقادة المجاهدين مبايعته والخضوع له، وإلا أصبحوا خارجين على الإمام!
اقرأ أيضاً: هل تعود طالبان لحكم أفغانستان من جديد؟
رفض الظواهري تلك الادعاءات متذرّعاً بأنّ كلّ المجاهدين في رقابهم بيعة لأمير أول إمارة إسلامية، وهو الملا محمد عمر، عندها ظهرت الحاجة لعودة طالبان إلى المشهد، لاستيعاب فصائل الحركة الإسلاموية المسلحة، لكنّ نقصاً شديداً في الأفراد كانت تعاني منه طالبان، ما لبث أن تلاشى عندما نفذ الجيش الباكستاني عمليات عسكرية في شمال وزيرستان، في حزيران (يونيو) 2014، دفعت الآلاف من المقاتلين الأزبك والعرب والباكستانيين للتدفق إلى أفغانستان؛ ومن ثم زادت صفوف طالبان.
محاولة استعادة بريق الجهاد العالمي
بدأت حركة طالبان في النهوض مجدداً؛ نظراً إلى عدة عوامل، ليس فقط تدفق الآلاف لصفوفها، إنما أيضاً لانتهاء مهمة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي القتالية وانسحاب معظم القوات الأجنبية من أفغانستان في 2014، مما قلّل المخاطر التي كانت تواجهها الحركة من قصف وغارات، وتحوّل انتباه الرأي العالمي والمتابعة الإخبارية إلى أزمات في أجزاء أخرى من العالم، مثل سوريا والعراق وأوكرانيا، مما شجع قادة طالبان على تنفيذ بعض العمليات ضدّ الحكومة الأفغانية، وساعد على ذلك افتقار قوات الأمن الأفغانية إلى كثير من القدرات والمعدات، خاصة القوة الجوية والاستطلاع، إضافة إلى الضعف الواضح في مؤسسة الحكم، خاصة بعد تولي الرئيس أشرف غني مقاليد الحكم، في 29 أيلول (سبتمبر) 2014، ومغادرة حامد كرزاي، الذي كان معارضاً شرسا،ً طالبان ويرفض السلام معها.
طالبان تريد من كلّ مباحثات السلام سواء مع أمريكا أو الصين أو روسيا أو إيران إعادتها للحكم
وبدأت الحرب الأفغانية السادسة، في كانون الثاني (يناير) من العام 2015، بهجوم انتحاري بسيارة ملغومة على مقرّ لبعثة الشرطة الأوروبية في العاصمة كابول، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة العديدين، وأعلنت حركة طالبان مسؤوليتها، عندها استشعر تنظيم داعش الخطر من عودة الحياة لطالبان؛ لهذا أنشأ فرعاً له في أفغانستان، في منتصف كانون الثاني (يناير) العام 2015، سُمي بولاية خراسان، وأعلن حافظ سعيد خان أميراً على ولاية خرسان، وحافظ هو أحد مؤسسي جماعة طالبان باكستان، والتي تختلف عن طالبان أفغانستان، وإثر الانشقاقات التي حدثت بين قادة طالبان باكستان، فضل الانضمام إلى داعش، وإعلان بيعته لأبي بكر البغدادي، وبدأت المناوشات بين طالبان وبين إمارة خراسان، وبدأت بتجنيد مقاتلين والاشتباك مع طالبان في أكثر من معركة مسلحة.
قُتل حافظ سعيد خان، في 18 آذار (مارس) العام 2015، وتولى قيادة داعش في أفغانستان، الملا منصور داد الله، غير أنّ مفاجأة حدثت غيرت الأحداث في أفغانستان، وهو إعلان مقتل الملا محمد عمر القيادة التاريخية لطالبان، في أيار (مايو) 2015، وتولّي نائبه، الملا محمد إختر منصور، قيادة الحركة.
بداية التفاوض مع طالبان
كان ظهور الملا محمد إختر منصور يعني دفعاً لعملية السلام؛ فإختر الذي كان قد شغل في التسعينيات، منصب وزير الطيران المدني والنقل إبان حكم طالبان، وتولى كذلك منصب حاكم طالبان في قندهار حتى أيار (مايو) 2007، ثم رئاسة الشؤون العسكرية في طالبان حتى العام 2010، ثم نائب زعيم طالبان حتى تموز (يوليو) 2015، لم يكن قائداً عسكرياً ميدانياً، مما جعله مهيّاً أكثر لقيادة طالبان في المرحلة الدقيقة القادمة، حتى بعد أن أشاع خصومه أنّه تابع للمخابرات الباكستانية.
اقرأ أيضاً: طالبان وطهران.. ما سرّ المودة؟
عين إختر نائبين له هما: المولوي هبة الله أخند زاده، والملا سراج الدين حقاني، الذي تصفه القوات الأمريكية في أفغانستان بأنّه "أحد أخطر أعدائها"، ورصدت واشنطن جائزة قيمتها عشرة ملايين دولار لاعتقاله، لكن بفضل مقاتلي شبكة حقاني تمكّنت طالبان من الانتصار على داعش، في معركة زابل، في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
لم يتمكن الملا محمد إختر منصور من دفع عملية السلام كما توقعت الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد أبدى رفضاً شديداً للتفاوض مع الحكومة الأفغانية باعتبارها "دمية لا أكثر"، وفي نفس الوقت قبل التفاوض مع الصين وروسيا وإيران.
زار وفد من حركة طالبان الصين، بين 18 و22 تموز 2016 بهدف مناقشة الوضع في أفغانستان
وبحسب ما أوردت "بي بي سي" على موقعها؛ فإنّ وفداً من حركة طالبان زار الصين، بين 18 و22 تموز (يوليو) 2016، بهدف مناقشة الوضع في أفغانستان، وترأس وفد طالبان رئيس مكتبها السياسي في قطر، عباس ستاناكزي، بدعوة من الحكومة الصينية، التي تسعى لعقد مصالحة وطنية في أفغانستان لتؤمّن حدودها المشتركة مع أفغانستان، التي يسيطر عليها طالبان، فالصين تشعر بالقلق منذ مدة من احتمال انتقال الاضطرابات إلى منطقة شينغيانغ بالشمال الغربي، التي تقطنها أغلبية مسلمة؛ حيث قتل مئات الأشخاص في الأعوام الأخيرة في اضطرابات حمّلت السلطات الصينية متطرفين إسلاميين المسؤولية عنها، ومن المحتمل أن تكون هي مقصد الإسلامويين المسلحين في المستقبل القريب، فتواصل بكين مع طالبان جاء لقطع الطريق على داعش، مخافة نقل قوتهم إلى الصين.
وفي 21 أيار (مايو) عام 2016؛ أثناء عبور الملا منصور إلى باكستان من إيران، بعد اجتماعه مع مسؤولين إيرانيين وقادة من طالبان يقيمون هناك، أصيبت سيارته بصاروخ من طائرة أمريكية بدون طيار.. اغتيل الملا منصور! فعيّنت حركة طالبان مولوي هيبة الله أخوند زاده خليفة له، وهو رجل دين في الأساس، ولم يكن قائداً عسكرياً أو ميدانياً.
المفاوضات الأمريكية
أدركت الإدارة الأمريكية خطورة استمرار "ولاية خراسان" في تعبئة أتباعها إلى أفغانستان، خصوصاً بعد إصدار "داعش" المرئي "أرض الله واسعة" في آذار (مارس) 2018؛ الذي يحمل في طياته دعوة ورسالة واضحة لأتباع التنظيم حول العالم، وخاصة العائدين من مناطق الهزائم مؤخراً، إلى الهجرة لأرض الخلافة الجديدة بولاية خراسان، مما يعني أنّ هناك لاعباً جهادياً قادماً على أرض أفغانستان، يجب أن تكون مستعدة له، وأنّ التقارب بين (حلف الصين/ باكستان) مع طالبان لن يكون في مصلحتها، وأنّ طالبان باتت تجذب إلى فلكها مجموعة من القوى المتخاصمة التي تبحث عن نهاية للحرب تتناسب مع طموحاتها الإستراتيجية، فطلبت أن يكون التفاوض مباشراً معها، لهذا تم إطلاق سراح الملا عبد الغني بارادار، أحد مؤسسي حركة طالبان في أفغانستان، قبل ثلاثة أشهر، من أحد السجون الباكستانية.
اقرأ أيضاً: حركة طالبان بين واشنطن وموسكو.. كيف نقرأ المفاوضات؟
أذعنت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى في نهاية المطاف بأن طالبان هي القوة الأقوى في الميدان، والتي يمكن أن تواجه داعش، لهذا أعلنت أنّ شروط اتفاق السلام، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أن تعلن حركة طالبان "تخلّيها عن الجماعات الإرهابية العالمية"، وتتعهّد الحركة بـ"عدم استخدام أفغانستان منطلقاً للهجمات على الولايات المتحدة"، مقابل وقف الأخيرة إطلاق النار، وتحديد جدول زمني للانسحاب من أفغانستان، رفضت طالبان تلك الشروط وهددت بالانسحاب من محادثات السلام الأفغانية، إذا رفضت أمريكا مناقشة انسحاب القوات الأجنبية من البلاد أولاً، لكن -في النهاية- عقدت المحادثات في الدوحة، واستمرت ستة أيام، وكانت الأكثر إيجابية حتى الآن، ومن المقرر أن يجتمع ممثلو طالبان مع المبعوث الأمريكي مرة أخرى، في 25 شباط (فبراير) الجاري.
طالبان تعلم ماذا تريد من كلّ مباحثات السلام، سواء مع أمريكا أو الصين أو روسيا أو إيران، وهي إعادتها للحكم، وخروج القوات الأجنبية المحتلة من الأراضي الأفغانية، لكن ما يزال ما تريده أمريكا من طالبان مجهولاً، فهل تسعى لدمج طالبان في الحياة السياسية الأفغانية؟ ولماذا؟ أم تريد أن تقوم طالبان بمواجهة داعش على الأراضي الأفغانية ليهلكا معاً؟ أم تسعى إلى نقل المنطقة الساخنة والاضطرابات إلى جوار الصين عدوتها الجديدة القديمة مرة أخرى؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام القادمة.