قبل فترةٍ وجيزة، نشرت "بي بي سي" ملفاً مثيراً حول الرجال الذي هبطوا مع الخميني من الطائرة التي أقلّته إلى طهران بعد انتصار "الثورة الإسلامية" العام 1979، وخلال أقل من عقدين من الزمان، اختفى معظم هؤلاء، فتم تغييبهم بالقتل والاختطاف، لأسباب تتعلق بنقد الثورة.
اقرأ أيضاً: أربعون عاماً خمينية
أدباء وشعراء وكتّاب مهمون في إيران، لاقوا ذات المصير لاحقاً، ولذات الأسباب، فيما عرف بسلسلة جرائم القتل "chain murders of iran" التي استمرت بكثافةٍ بين عامي 1988 و1998، وطالت منتقدي النظام الإيراني، الذي لم يعترف إلى اليوم بأي مسؤولية عن اغتيالهم، فمن كانوا، ولماذا اغتيلوا؟
التفكير يقتل
في العام 2014، تم تعليق الشاعر العربي الأحوازي، هاشم شعباني، مدة أسبوعين من عنقه، وبقي يتأرجح في الهواء، رغم أنّه مات مباشرةً بعد إعدامه بتهمة "التجديف"، وهي "تهمة جاهزة ضد كل من ينتقد النظام في إيران" وفقاً لما نشرته صحيفة "ديلي بييست" آنذاك، وبالعودة سنوات إلى الوراء، فإنّ نظام الثورة الناشئ في 1979، وجد من السهولة بمكان، اعتبار أيّ منتقد له عدواً مباشراً لله تعالى، وبالتالي يسهل إقصاؤه أياً كان.
نظام الملالي وجد من السهولة بمكان اعتبار أي منتقد له عدواً مباشراً لله تعالى ليسهل إقصاؤه أياً كان
وابتداءً من العام 1988، أصبح اغتيال المعارضين تقليداً يتبعه النظام الإيراني ربما، خصوصاً الكتاب منهم، ويقول الكاتب الإيراني أمير طاهري "إذا سألت إيرانياً عن أكثر الأشخاص الذين يكن لهم الإعجاب، فإنّ الاحتمال الأكبر أن تأتي الإجابة في صورة قائمة من الشعراء والكتّاب، بدءاً من أبي القاسم الفردوسي وسعدي شيرازي منذ قرون مضت إلى إيرج ميرزا وسهراب سبهري منذ وقت قريب، وينظر الإيراني العادي إلى الشاعر ليس كصانع للجمال فحسب، وإنما كذلك كحارس لضمير الأمة".
هذا الضمير الذي يتم اغتياله بصورةٍ ممنهجة، باغتيال أدباء وشعراء وسياسيين، يعلق طاهري بشأنه في مقال له نشرته "الشرق الأوسط" بتاريخ 4 تموز (يوليو) 2017، قائلاً إنّ أول إجراءات نظام الخميني ضد الشعراء، بدأت بـ"اختطاف الشاعر الشاب سعيد سلطانبور من حفل زفافه، وإعدامه بتهمة "التورط في أعمال عسكرية شيوعية"، ولاحقاً، قتل الشاعر والصحافي البارز رحمن هاتفي مونفاريد، المعروف باسم حيدر مهرجان، جراء التعذيب داخل أحد سجون الخميني".
وفي الفترة التي حكم فيها إيران كلٌّ من علي خامنئي (1981-1989) وأكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997)، تم اغتيال "أكثر من 80 كاتباً وشاعراً وصحافياً وسياسياً إيرانياً" بحسب المقال ذاته، من أهمهم شابور بختيار، الذي كان سياسياً وطنياً معارضاً للقمع أيام نظام شاه إيران، وساعد في نهاية السبعينيات على إطلاق سراح الكثير من أسرى النظام السابق بعد الثورة، وحين اطلع على سياسات الخميني، لم ينضم إلى نظام الحكم الثوري الجديد، بل قاد من فرنسا حركة مقاومة ضد الخميني وسياساته، إلى أن قام رجال الثورة الخمينية باغتياله في 1991 مع سكرتيره الخاص بمنزله في العاصمة باريس، في إشارةٍ رمزية، إلى أنّ القمع لم يتغير بعد الثورة، بل ربما صارَ أشد.
في فترة حكم كل من خامنئي ورفسنجاني تم اغتيال أكثر من 80 كاتباً وشاعراً وصحافياً وسياسياً إيرانياً
اسمٌ آخر، هو فريدون فروخزاد، ممثل وشاعر ومغنٍّ إيراني شهير، وأخٌ للشاعرة الإيرانية الشهيرة فروغ فرخزاد، أجبر على الخروج من إيران بعد العام 1979، وللسبب ذاته، المتعلق بمعارضته لحكم الخميني وأتباعه؛ حيث بقي في ألمانيا حتى العام 1992، غير أنّه لم يكن خارج الأضواء، بوصفه أيقونةً للمعارضة ضد النظام الإيراني، ما أدى إلى مقتله في شقته (في بون)، ولم تُحلّ خيوط جريمة قتله حتى اليوم، لكن المحققين في حينه، رأوا أنّ مقتله يرتبط بسلسلة التصفيات التي يمارسها النظام الإيراني ضد معارضيه.
وخلال الثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات، لم يكن يلقى الضوء بقوة تجاه هذه الجرائم، إلى أن حصلت العام 1998 جريمة قتل داريوش فورهار، وزوجته بارفانه فورهار، في منزلهما بالعاصمة طهران، وكان داريوش رئيس حزب الأمة، المشهور بمعارضته لنظام ولاية الفقيه، شخصياً وسياسياً، وهي جريمةٌ تم عدّها سياسيةً بامتياز، ولم تبتعد أصابع الاتهام عن السلطة الحاكمة في إيران، وما ورثته من عنفٍ وقتل، بعد طعن فورهار وزوجته عشرات الطعنات بالسكاكين.
اقرأ أيضاً: وثائق مسرّبة تكشف قمع إيران مئات الصحافيين
مقتل داريوش بصفته سياسياً معروفاً، جعل الصحافيين والكتّاب من إيران والعالم، يعيدون فتح ملفات الاغتيالات المغلقة، التي تمت إما طعناً، أو تمثيلاً على أنّها عمليات سرقة، أو خطفاً، أو من خلال إطلاق الرصاص مباشرةً، وهو ما أحرج النظام الإيراني، الذي ادعى رئيسه اللاحق بعد العام 1998 محمد خاتمي، أنّ حقبةً إصلاحيةً ومعتدلةً بدأت في إيران، غير أنّ الإصلاح كما يبدو، بدأ من خلال التوقف عن التستر عن جرائم الاغتيالات بحق السياسيين والفنانين والشعراء، والتحول إلى قتلهم علناً!
الجرائم المقدسة
لم يتوقف النظام الإيراني عن جرائمه، وحتى يبرّرها، ويخفف من حدة الانتقادات الداخلية والخارجية تجاهه، بل أضفى على جرائمه طابع القداسة، وأصبح المعارضون له، وناقدوه، مجرد كفارٍ مجدفين، مشكلتهم ليست مع النظام نفسه، بل مع الله، عز وجل، مثلما أراد الملالي أن يصوروا للعالم، رغم ذلك، تكشفت الكثير من جرائمهم طوال الثمانينيات والتسعينيات، وإحدى أكبرها وأكثرها سخرية، محاولة التخلص من 21 أديباً وشاعراً وصحافياً إيرانياً دفعةً واحدة، وحصل ذلك في 1996، حين كان هؤلاء جميعاً، "يركبون حافلةً تقلهم إلى مهرجان أدبي في شمال إيران، حيث حاول سائق الحافلةِ الذي كان موظفاً من قبل جهازٍ أمني، أن يسقط الحافلة في هاويةٍ بجانب أحد الطرق الوعرة، لكن ذلك لم يحصل، وهرب السائق بعد محاولته الفاشلة"، بحسب تقرير لـ"بي بي سي" نشر في نهاية 2018.
بعد ذلك، فإنّ الحقبة "الإصلاحية" في إيران صارت أشد فتكاً، ففي العام 2011 مثلاً، اغتيل الشاعر والكاتب محمد مختاري، لتشجيعه حرية التعبير في إيران، وتم قمع وإخافة كل من عارض السياسات الإصلاحية الشكلية للنظام في إيران، ففي العام 2014، تم سجن الفنانة التشكيلية فاطمة اختصاري، وتلقت الفنانة السوريالية المعارضة حكماً بالسجن مدته 11 عاماً، كما تم سجن الناشر والشاعر مهدي موسوي إلى أجَلٍ غير معروف؛ لأنه يرى الحياة الاجتماعية في إيران، على غير ما يراها خامنئي ورجالاته. وقبلهما تعرضت واحدةٌ من شاعرات إيران الكبيرات، وهي سيمين بهبهاني، إلى تهديدات بالقتل أو السجن، وهي التي عاصرت اندلاع الثورة في إيران، وبقيت معارضةً لسياسات الخميني بعدها، لكنها لم تغادر بلادها، ويعرف عن سيمين، أنّها "مناضلة عظيمة في مجال الحرّيات السياسيّة وقضايا المرأة. وبعد الثورة الإسلاميّة العام 1979، تعرّضت للاعتقال أكثر من مرّة، وكانت حياتها مليئة بالتضييقات نتيجة نشاطها النضالي الدؤوب" وفقاً لتقرير عنها في موقع "جيم" نُشر في العام 2018.
اقرأ أيضاً: إيران تكثف قمعها لمواطنيها في الخارج
ومن الجدير بالذكر، أنّ اتحاد الكتاب الإيرانيين، هو اتحادٌ غير معترفٍ به من قبل النظام الإيراني، ولا تكفي المساحة لذكر كل من تعرضوا للقتل والاعتقال أو التعذيب والنفي على يد النظام الإيراني من كتابٍ وأدباء، سواء أكانوا إيرانيين أو عرباً من الأحواز، غير أنّ الأمور باتت مرعبةً للمفكرين الإيرانيين والشعراء، رغم عظمة تاريخ إيران الأدبي والفني، الذي ربما يقف أمامه شاعر إيران العظيم سهراب سيهري حائراً، مثلما وقف أمام البيوت الكثيرة المتلاصقة في واحدةٍ من مدن طهران التي يلتف حولها القمع والرقابة، ليسأل في إحدى قصائده الشهيرة: أين هو بيتُ الصديق؟