المرأة التي أبصرتُ بعينيها

المرأة التي أبصرتُ بعينيها

المرأة التي أبصرتُ بعينيها


25/02/2025

"المرأة التي أبصرتُ بعينيها"، هذا عنوان الفصل الذي وضعه طه حسين في كتابه الأيام؛ ليتحدث فيه عن علاقته بزوجته الفرنسية "سوزان بريسو". حيث كان الحب دوماً وسيلة الإنسان للوصال الحميم مع نفسه عن طريق آخر يكون بمثابة مَجلى لروحه، لكن مع العميد كان الأمر أكبر من ذلك وأعمق، فقد كان ما بينه وبين سوزان "حبلاً سرّياً" على حدّ وصفه، فمن كان طه حسين قبل أن يُقابل تلك الفرنسية التي وقعت من نفسه موقع عينيه؟.

عُرف عن طه حسين توحده مع شخصية أبي العلاء المعري، المولود في القرن الرابع الهجري، والمعروف بـ "رهين المحبسين"؛ محبسه الأول بصره الكفيف، ومحبسه الثاني ذاك الذي فرضه على نفسه؛ فالتزم البيت وضرب حجاباً بينه وبين العالم، وكان على ذلك رجلاً سابقاً لعصره بأفكار إنسانية مُتقدمة، فقد حرّم إيلام الحيوان وذبحه، وفرض على نفسه مذهب النباتيين، إذ لم يُصب من لحم حيوان مدة (45) عاماً. أحسّ طه حسين بتواطؤ شديد مع تلك الشخصية، فقد كان العمى قدريهما، والحساسية الشخصية سمة رئيسية لشخصيتيهما، فكان لهما الخجل الشخصي نفسه من الأكل أمام الناس، وكان كل منهما ينفرد بطعامه بعيداً عن الأهل والخلّان، مخافة أن يكونا مصدراً للشفقة، وتوحد طه مع المعري في وصفه لذاته بأنّه "إنسي الولادة، وحشي الغريزة"، إذ كان يرى أنّه من جلدة بني الإنسان، لكنّه لا يحس مع ذلك بأنّه منهم يعرفهم وينتمي إليهم، فقد كان كل ما بينه وبين العالم من بشر وشجر وحجر هو الظاهر والمظاهر فقط، حتى جاءته الحياة تسعى على هيئة امرأة من جنسية أخرى وثقافة أخرى وديانة أخرى، لامسه صوتها الرقيق وهي تقرأ عليه آيات الأدب الفرنسي، وتعامله بحنان وإحسان، كان كلّ ما ذكره طه حول سوزان وكأنّه يتلخص في أنّها كانت قميص يوسف الذي أُسبل على وجه يعقوب فرأى؛ يصف كيف نقلت إليه العالم ثانية، وردّت إليه القدرة على التصوير الداخلي لموجودات العالم بلغة شفافة وصادقة، وكيف عاوده الإحساس بالجبال والزهور وأشعة الشمس، بل كيف نفذ إلى الناس فألفهم وألفوه، وبنى وشائج عاطفية ونفسية بينه وبين العالم الذي كان يتعامل معه قبلها بظاهره.

بدأ الأمر بإعلان صغير في جريدة يريد فيه طه حسين قارئاً يصحبه في رحلة تَعَلّمه، ويقرأ عليه مناهجه الدراسية، إذ كان وقتها طالباً مصرياً بجامعة مونبلييه قسم التاريخ والجغرافيا، وجدت سوزان الشابة الصغيرة نفسها ـ بظروفها المادية المتواضعةـ معلمة لطالب شرقي وكفيف، تُحقق معه حلمها بأن تصبح أستاذة للأدب الفرنسي، ويصفها هو بالفعل بأنّها "أستاذته"، فتساعده على التمكن من الفرنسية والتعمق في أدابها، والتمكن من اللاتينية واليونانية وقراءة أرسطو في نصوصه الأصلية، لقد كشفت سوزان للعميد عن ثقافات وحضارات كاملة، وحررت لسانه وعقله من عمى الثقافة الواحدة، وأطلقت عقلاً قوياً قيدته العاهة، فمدّ طه بها ومعها بصيرته إلى جوانب الفكر الإنساني، وكوّن رؤاه الخاصة، لقد أضاءت سوزان مصباحاً دائم الضياء في عقل طه.

الأديب والناقد المصري الراحل (عميد الأدب العربي): طه حسين

إنّ القارئ لمذكرات العميد سيرى ما أكثر الناس الذين عاملوه بغلظة وقسوة، وما أكثر ما تلقى من الأذى النفسي وماعاشه من الوحدة والغربة! إنّ لحظات الأنس في حياته الأولى كانت شحيحة، إلى درجة أنّه احتفى احتفاءً كبيراً بمرافقة ابن خاله له أثناء دراسته في الأزهر، بعد أن عاش صبياً مهملاً ومتروكاً، إنّه حدث بسيط وعادي، لكنّ اهتمام طه به في مذكراته إضاءة لما كانت عليه حالته النفسية آنذاك...، ما أقلّ من عاملوه بإنسانية ومودة، من قدّروا عقله وتسامحوا مع عاهته، ولم يكونوا هم وعاهته عليه! واحتفى طه أيضاً في مذكراته بمساحات كبيرة بتلك اللفتات الإنسانية البسيطة من غرباء، وكانت سوزان في ظل هذه الوحدة الشعورية التي عاشها العميد وفرضت عليه، وبعيداً عن كونها حبيبة وزوجة وصديقة، فقد كانت مُعطى إنسانياً كبيراً لرجل محتاج، لديه كبرياء وحساسية.

أخذت سوزان إذاً قلبه، ولم تردّه، وهو يصف اليوم الذي اعترف لها فيه بحبه، بأنّه كان معنياً بأن يوصل ذلك الحب دون أن يكون منتظراً لمكانته عندها، فقد كان خائفاً من أن يخسر بهذا الاعتراف صداقتها. إنّ الناظر من الخارج وبعقلانية لعلاقة طه بسوزان لن يرى سوى رجل فقير بثقافة شرقية ومسلم وكفيف، إنّها توليفة مستحيلات كانت قادرة على أن تُحيل هذا الحب إلى ضرب من الخيال يظل طه يُسكنه أعماله الأدبية، ويظل النقاد لعقود فيما بعد يطاردون هذا الطيف في كتاباته متكهنين حوله كما فعلوا مع العقاد، لكن يبدو أنّ القدر كان سخيّاً جداً مع طه، إذ حوّل طيفه إلى واقع، وبدلاً من أن يسكنه كتاباته أسكنه بيته وسكن إليه. قبلت سوزان وكتبت في مذكراتها المعروفة: "لقد تعلمت في تلك الأيام أن آخذ نصيبي من كل المحن التي اختصت بها الحياة الرجل الذي كنت أحب، الجسدية منها أو المحن الأخرى."

صورة تجمع طه حسين وزوجته سوزان

إنّ كتاب "معك" الذي أخرجته السيدة سوزان، وجمعت فيه رسائلهما معاً أعتقد أنّه -وعلى عدم التنظيم فيه أحياناً- أهمّ كتاب يجب أن ينظر فيه الباحث عن شخصية العميد، إذ إننا نجد هنا رجلاً آخر، رجلاً لا نستطيع أن نتصوره ونحن نقرأ جدالاته العنيفة ومشاكساته مع أعلام عصره، أو نتخيل أنّه الرجل نفسه الذي ألقى في وجه الجميع كتاباً مفخخاً تحت عنوان "في الأدب الجاهلي"، هذا الكتاب الذي تناسلت كتب ومقالات كثيرة ردّاً عليه، إنّه الرجل نفسه الذي تحدث عن "فرعونية مصر"، ودافع عن هوية شخصية لبلاده رآها تذوب في هويات من وجهة نظره لا تمثلها، وسواء اتفقت أو اختلفت مع العميد، فإنّه جسّارة حقيقية عزفت على لحن مختلف، كان نشازاً غريباً في عصر كانت فيه فكرة "العروبة" في أوج ازدهارها. إنّ هذا الرجل ذاته هو الذي وصف نفسه فقال: "لو قارنت نفسي بشيء، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل في مصر العليا، تلك الأرض التي بمجرد أن يلمسها المرء، ولو مجرد لمسة خفيفة، يتفجر منها الماء". هذا هو العميد كما وصف نفسه، إنّه طين خصب طري رطب ولين وأصيل.

الرزانة الثابتة، هذا ما وصفت به سوزان طه مع مواجهة المحن الكثيرة التي تعرّض لها في حياة غنية ومثمرة، وجّه فيها معوله ناحية أساسات ثابتة في بنية العقل العربي، فلاقى نتيجة ذلك أحقاداً سامّةً وإقصاءً وتهديدات مباشرة لحياته، وقد ترك ذلك أثراً في نفسه، وصفته سوزان فقالت: "لم يكن كئيباً دوماً، لكنّ لحظات فرحه الحقيقية كانت نادرة تماماً، فالغضون على الجبهة، على الصدغ الأيسر، والتي كانت تقلقني منذ عام 1925، كانت تعود إلى الظهور غالباً، لكنّها لم تبقَ، وظلت هذه الجبهة ملساء حتى الساعة الأخيرة. عاش طه فترة تاريخية غنية ومحتدمة كانت فيها مصر ومحيطها في سعي نحو الاستقلال، وكانت قضيتا التغريب والتعريب في أوج حضورهما، والحديث عن إسلام معاصر كان حاضراً في الحياة الثقافية بقوة، وكان طه واحداً من أقطاب هذه القضايا، فعالاً ومشاركاً ومصارعاً، لا يمكن تهميش فكره أو دوره في الحضور الثقافي المصري داخل الفكري العربي، كان وحده نسقاً خاصاً في الفكر والفعل، وسيظل دوره الفكري والتعليمي في الحياة المصرية قائماً، لأننا ما نزال ندور حول أفكاره التي لم يتجاوزها الزمن، لأنّها صادرة عن عقل صادق وأصيل.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية