المتطرفون واعتزازنا التاريخي

المتطرفون واعتزازنا التاريخي


11/04/2021

وليد فكري

لم يكن من المستغرب أن يتقاطع شعور جموع المصريين بالسعادة والاعتزاز وهم يتابعون حدث "موكب المومياوات الملكية" مع حالة من الجزع أصابت أهل التطرف.

بعضهم ملأ الدنيا صراخا وهو يتهمنا بالاحتفاء بـ"قوم كافرين" (يعني المصريين القدماء) وثانٍ راح يردد بهيستيريا أن "هويتنا عربية إسلامية" بغير مناسبة ودون أن يتطرق أحد بسوء للمكونات العربية الإسلامية من هويتنا، وآخرون كانوا أكثر خبثا فراحوا يروجون لأن اعتزاز العرب والمسلمين بحضارات بلادهم القديمة إنما هو مؤامرة استعمارية أوروبية بدأت منذ عصر الاستعمار الأوروبي، بل وزاد بعضهم من الخبث بيتا فراح يروج لأن صلات المصريين المعاصرين بأجدادهم القدماء قد انقطعت وأنهم ليسوا أحفاد من يفخرون بهم!

الحقيقة أن رد الفعل الهيستيري هذا ليس بالغريب، فمن بديهيات أي فكر متطرف أن يسعى القائمون عليه لقطع أية روابط بين من يستهدفون عقله وجذوره القديمة أو حتى الحديثة.. فبذلك يصاب بحالة من الضياع والاحتياج لـ"الانتماء لشيء ما" فيخادعونه بإشباع هذا الاحتياج بضمه لتيارهم/جماعتهم من البداية فإن التشاجر حول هوية المصريين هو عبث، فمصر منذ بداية تاريخها القديم وحتى يومنا هذا عُرِفَت بـ"استيعاب" الثقافات والإثنيات، ولهذا كثرت بها ظاهرة "التَمَصُر" واستوعبت عناصر من أعراق ونماذج حضارية متنوعة.. أضف لذلك موقعها الذي جعلها تنفتح جغرافيا على أبعاد مختلفة... ولهذا تجد للهوية المصرية أبعادا أفريقية وقبطية وعربية وإسلامية وبحر متوسطية.. ومن المستحيل أن نفصل أحد أو بعض مكونات تلك الهوية حيث لا تتوقف تلك المكونات على ما ينتسب له المرء بل أنها قد تغلغلت في ممارساته اليومية الاعتيادية ورسخت فيها..

تلك المكونات يتم استدعاء بعضها فيبرز على السطح ويتصدر المشهد من خلال تعرضه لمؤثر يستفزه...

مثال لذلك: لو تعرضت دولة عربية لعدوان، فإن المكون العربي لدى المصري هو الذي سيتصدر المشهد، ولو تعرض الدين الإسلامي لإساءة فإن المكون الإسلامي هو الذي سيبرز على السطح.. وكذلك في النماذج الإيجابية، فعندما يكون الحدث مرتبطا بالمكون المصري القديم فمن الطبيعي أن يعلو صوت هذا المكون من هوية المصريين..

وإظهار الاعتزاز بأحد أو بعض مكونات الهوية لا يعني انتقاص أو ازدراء باقي المكونات (واتحدث هنا عن الشخص الناضج المعتدل وليس المتطرف أو هيستيري الفكر والسلوك) .. فنفس المصري الذي هلل لموكب المومياوات الملكية وأظهر الاعتزاز بملوك مصر القديمة العظماء، تجده يظهر عظيم الاحترام للرسول والصحابة والأولياء الصالحين ويتأثر بسيرهم وينفعل معها، وإذا خاطبته برطانة أجنبية يقول لك باستنكار "النبي عربي!" أتحدث هنا عن "تلقائية ظهور مكونات الهوية"..

وأما عن القول السطحي المتهافت بأن "المصريون المعاصرون ليسوا أحفاد المصريين القدماء" فلو أنه قد صدر عن جاهل لكفى هذا تفسيرا، أما وقد صدر عن أناس يقدمون أنفسهم كمشتغلون بعلم التاريخ فهنا لا وصف له إلا "الخبث"، فصاحب العلم المتوسط بالتاريخ يدرك أن كثيرا من شعوب العالم قد تعرضت لاختلاط بأعراق أخرى، ورغم ذلك فإنهم يدركون أن الرابط بينهم وأهل الحضارة القديمة للمكان يتجاوز حدود ال DNA ... فلو ضربنا مثلا بالإيطاليين، اختلطوا بشعوب كالإغريق والجرمان والنورمان والعرب، فهل يمنعهم ذلك من إبداء الاعتزاز بالحضارة الرومانية؟ هل يتنكر البريطانيون لحضارات الكلت وتاريخ ممالك ويسكس ونورثومبريا وميرسيا وما قبلها لأنهم قد امتزجوا بالجرمان والفايكينغ والنورمان؟ هل يتنصل الفرنسيون من تاريخ شعب "الغال" بسبب اختلاطهم بالرومان والجرمان والفايكينغ والعرب؟ إن القارئ في التاريخ الأوروبي يجد حدثا جللا هو "هجرة الشعوب/Voelkerwanderungen" حيث عبرت الشعوب الجرمانية الراين واجتاحت الإمبراطورية الرومانية ثم توالت هجرات شعوب أخرى سواء كانت العرب والأمازيغ عبر البحر المتوسط أو الشعوب الطورانية عبر شرق أوروبا والبلقان أو كانت شعوب الفايكينغ عبر بحر الشمال.. فهل هذا الاختلاط العرقي-الذي يصل أحيانا إلى حد الفوضى-يمنع أي أوروبي من إبداء الاعتزاز بحضارة بلاده القديمة؟

هذا لو سرنا مع تلك الفرضية الهزلية أن المصريين الحاليين منقطعين الصلة بأسلافهم القدماء!

وهل قائل هذا لم يجرب أن يتجول قليلا في صعيد مصر وينظر وجوه المصريين وما فيها من تشابه مع الأجداد القدماء؟ ألم يلاحظ يوما ما في بورتريهات الفيوم القديمة من ملامح مصرية شائعة؟ ألم يجرب أن يقوم بعمل تتبع تاريخي لبعض مفردات اللهجة المصرية لتصل به إلى اللغة القبطية ثم تعبر به إلى لغة المصريين القدماء؟

ثم من نفس المنطلق، أليس من الغريب أن يستنكر هؤلاء أن يفخر المصريون بأسلافهم الذين أقاموا على نفس الأرض وكونوا أول حلقة من حلقات النماذج الحضارية المصرية عبر التاريخ، ووضعوا الأساس لكل الدول المصرية المتعاقبة، وهم في نفس الوقت-المتطرفون-يدعون الناس للاعتزاز بتركي جلف مثل أرطغرل أو عثمان؟ هل أرطغرل وعثمان وأورخان أقرب إلى المصريين من سقنن رع وأحمس وحتشبسوت؟

وإن برروا ذلك بأنه "رابط الدين"، قلنا: حسنا، فنحن بالفعل نعتز بعظماء الجانب الإسلامي من هويتنا، وهذا لأنهم قد أضافوا لنا، فمن نفس المنطلق فإننا نعتز بعظماء الجانب المصري القديم من تلك الهوية، لأنهم كذلك قد أضافوا لنا... فأي بأس؟

وإن قالوا بأن "رابط الدين أقوى من أي رابط" رددنا عليهم بأن هذا فيما يخص الجانب الديني من حياتنا، ولم يقحم أحد الدين في سياق إظهار الاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة، فلم تُعقَد مثلا بمناسبة ذلك مقارنة أو مفاضلة بين الإسلام والحضارة المصرية لكي يتم التعامل مع الاعتزاز بتلك الحضارة باعتباره إساءة للإسلام أو خروجا على الهوية الإسلامية!

طبعا لن أتحدث عن أن من أهم أفضال الحضارة المصرية القديمة أن المحتوى الأخلاقي الراقي في دينها لعب دور "التأهيل" للمصريين عبر القرون ليحسنوا استقبال الأديان الإبراهيمية ومنها الإسلام وليتقبلوها لأنها تقدم لهم "مكارم الأخلاق" التي طالما توارثوها، فالمصري الذي يؤمن بالحساب والثواب والعقاب وأن علاقته بالإله تمر عبر علاقته بالمخلوقات، وأن الخُلُق لا ينفصل عن الدين، هذا المصري لم يجد غضاضة في تقبل دين يدعو للإيمان بالآخرة والحساب والجنة والنار ويأمر إلهه بالعدل والإحسان وينهى عن المنكر والبغي.. فلو لم يقدم المصريون للإنسانية سوى ذلك المحتوى الأخلاقي لكفى هذا فضلا نشكرهم عليه، أوليس شكر صاحب الفضل من شكر الله؟

ولكن لماذا يخشى هؤلاء القوم اعتزاز المصريين بتاريخهم القديم، وهم في نفس الوقت يروجون للاعتزاز بالتُرك العثمانيين؟

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية